ابن الذهبي
قيل عن كتابه أنه أول معجم طبي لغوي في التاريخ، وإن كان هذا الكلام فضفاضا إلا أنه يحمل دلالة الريادة إلى حد ما، فهو معجم طبّي لغوي من مصنفّات القرن الخامس الهجري، يمثّل جزءا من نتاج علمائنا العرب العمانيين واهتمامهم بعلوم الطب والنبات والأدوية. ذلك هو كتاب الماء لأبي محمد عبدالله بن محمد الأزدي، المولود في صحار، في أواسط القرن الرابع للهجرة، وتلقى علومه في مدينته على شيوخ عصره، ثم ارتحل إلى العراق وفارس وفلسطين ومصر والمغرب والأندلس طلبا لعلم الطب حيث استقر هناك، وتتلمذ على يد ابن سينا، كما أنه يعرف بابن الذهبي، أحد المعتنين بصناعة الطب، ومطالعة كتب الفلاسفة، وكان كلفا بصناعة الكيمياء، مجتهدا في طلبها، توفي ببلنسية في جمادى الآخرة سنة 456 للهجرة. وقد رتب كتابه على الأبجدية الألفبائية وهو كتاب يجمع بين الطب واللغة، يذكر الأمراض وعلاجها.
ومن أدلة ولادته في «صحار» من بلاد عمان.. قوله في مادة «ص.ح.ر»، بعد أن يذكر المعلومات الطبية المتعلقة بهذا اللفظ وما يشتق منه يصل إلى ذكر «صحار» يقول: «وصحار قصبة عمان، مدينة طيبة الهواء كثيرة الخيرات، وسميت بصحار نسبة إلى صحار بن أرم بن سام بن نوح، عليه السلام:
بلاد بها شدت على تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
أمّا الكتاب في نسخته المخطوطة فيقع في مجلدين، وعدد صفحات المخطوط ثمانمائة وأربع وستون صفحة. وقد نشرت الكتاب وزارة التراث والثقافة العمانية في مسقط سنة 1996. ويمكننا أن نعرف مضمون الكتاب من مقدمة المؤلف إذ يقول: «فإني لمّا رأيت أبا عبدالرحمن الخليل بن أحمد (الفراهيدي)، قد أغرب في «كتاب العين»، فبزّ به من كان قبله، وعنّى به من جاء بعده، وجعله خالصا للغة العرب وبيانها، وأحصى فيه ألفاظها ومعانيها، وسمّاه بأول أبوابه، ولمّا كان الغالب على أبناء صنعتنا اللحن والغلط، وقد تفشّت فيهم العجمة والشطط، عزمت على أن أكتب كتابا يجمع بين الطب والعربية، ويضمّ الأمراض والعلل والأدواء، وما يجب أن يتأتّى لها من العلاجات والأدوية، فأنشأت كتابي هذا على حروف اللغة، مبتدئا بالهمزة فالباء فالتاء، حتّى آخر الحروف وهو الياء، ورتّبته على الثلاثي في جميع مادته، تيسيرا للطلب، وتسهيلا لمن رغب، وسميته كتاب الماء باسم أوّل أبوابه، على نحو ما رسمه أبو عبدالرحمن الخليل رحمه الله». فالكتاب كما يفهم من المقدمة محاولة للجمع بين الطب واللغة، والهدف من ذلك تدارك الخلل الذي نتج من تفشي اللحن في لغة الأطباء في ذلك الوقت، أمّا تسمية الكتاب فالمؤلف يشير إلى محاكاته الخليل بن أحمد في كتاب العين. حيث انصرف المؤلف في بداية المعجم إلى الحديث عن الماء. وقد توسّع في ذلك، فلا نجد مادة من مواد المعجم بعد ذلك تعادل ما ذكره عن الماء. أمّا عن منهجه في شرح الماء أو الكلمة فهو يشير إلى معناها اللغوي سريعا. وقد يستشهد لذلك بشيء من القرآن الكريم، أو الحديث الشريف، أو الشعر العربي، ولكن هذا قليل لا يطّرد في كتابه. ثمّ يشير إلى المعنى العلميّ أو الطبّي لهذه المفردة، دون أن يتوسّع في الشرح خلافا لابن سينا في كتابه القانون وغيره. ويذكر المؤلف أنه اعتمد على مصادر عدة في مصنّفه، فيقول: «وقد عوّلت في هذا الكتاب على ما اختبرته بنفسي، وما أفاضه عليّ الشيوخ الأطباء الكبار، فأولهم استحقاقا للتنويه الشيخ العلاّمة ابن سينا، فله على كلّ كلمة ها هنا عارفة، وعلى كلّ علمٍ نوّلنيه طارفة، فمنه أخذت معظم أبواب صنعة الطبّ، وعن أبي عبدالرحمن (الخليل) بن أحمد أفدت تعريب ما كنت أصّلت من أسماء ومسمّيات. فإليهما فضل ما في هذا الكتاب من طبّ نافع، ومعنىً شافع.. وبه جلّ وعزّ استعنت وبه أستعين».
يتضمن هذا الكتاب كثيرا من النظريات العلمية التي من شأنها أن تغير كثيرا من المفاهيم السائدة في الميدان الطبي، منها ما كان متعلقا بتاريخ الطب، أو ما كان متعلقا بالمادة الطبية نفسها، ومن ذلك نظريته في «الإبصار» مما جاء عنده في مادة «ب.ص.ر». فمن المعروف أن نظرية الإبصار التي كانت شائعة عند اليونانيين ومن جاء بعدهم تذهب إلى أن العين تطلق أشعة تقع على الأشياء فتتمكن العين من مشاهدتها. وفي العصور الحديثة وصل علماء الغرب إلى نظرية علمية في الإبصار تذهب إلى أن الأشياء هي التي تعكس الضوء فتدخل صورها إلى العين ويقع الإبصار بعد أن تصل تلك الصور إلى الدماغ فيقوم بتفسيرها. وشهر في ميادين العلوم أن ابن النفيس قد سبق العلماء الأوروبيين إلى اكتشاف هذه النظرية التي قلبت كثيرا من مفاهيم تاريخ الطب وتطوره ولكن ابن النفيس توفي في سنة 686 للهجرة، ومعنى هذا أن بينه وبين أبي محمد عبدالله بن محمد الأزدي أكثر من قرنين من الزمن.. وهذا الأزدي يسجل هذه النظرية في كتابه هذا فحق له أن ينصف أخيرا وأن تسجل هذه النظرية باسمه لا باسم غيره. يقول في مادة «بصر»: «ومذهبنا في الإبصار أنه يتم بأن يقع شبح المرئي على الحدقة ثم تنقله أمام القوة الباصرة، فإذا أدركت هذه القوة ذلك الشبح كان سببا لشعور النفس بالمرئي فتدركه حينئذ.. وقد قيل إن النفس تدرك المحسوسات كلها بلا واسطة، وإنه ليس للبصر قوة باصرة ولا للشم قوة تدرك الرائحة ونحو ذلك، بل المدرك لهذه الأشياء كلها هي النفس.. وأكثر الفلاسفة ينقضون هذا الرأي ويقولون: إن إدراك النفس لهذه الأشياء إنما يكون بتوسط إدراك القوى المخصومة بها ثم ينتقل ذلك الإدراك إلى النفس، والحق أن الأمر كذلك.... فأما كيف يتأدى المبصر إلى القوة الباصرة فمنهم من يعترف بالجهل بذلك ومنهم من يزعم أن هذا الشبح انفعال يعرض للجليدية وإذا عرض فإن العصب النوري يدرك هذا الانفعال ويؤديه إلى الدماغ. وأما الحق في هذا فهو أن الشبح يقع على داخل المقلة ثم تنقله كل واحدة من المقلتين في العصب النوري أمام القوة الباصرة، وهناك يتخذ الشبحان شبحا واحدا بانطباق أحدهما على الآخر فتدركه القوة الباصرة ثم تنقله إلى داخل البطن المقدم من الدماغ فيبقى هناك محفوظا».
وتطرق الكتاب إلى الأمراض النفسية كالكآبة والإحباط والقلق والوسواس، والاضطرابات العقلية والنفسية والشلل والرعشة، وغيرها كثير، وأوضح طريقة التخلص منها، أو تخفيف شدتها وعوارضها. ووصف في كتابه الكثير من الأدوية، وهي تعتمد على النباتات، والأعشاب الطبية، يضمن قانونه الذي ذكره وهو أن العلاج يبدأ بالغذاء والرياضة، المناسبة للسن، فإن حصل الداء انتقل إلى الأدوية المفردة، فإن تعسر أكثر انتقل المعالج إلى الأدوية المركبة، ولذا فإنه في كتابه يصف الأدوية ويصر على ألا تستخدم إلا بمعرفة الطبيب، المتمكن، من صنعة الطب، والمتخرج على يد أساتذة كبار، ويوصي الأصحاء بمراعاة صحتهم بالغذاء، والرياضة وتفريج القلب وغير ذلك.
وطرح الباحث سلطان الشيباني بحثا بعنوان «خلاصة القول في كتاب الماء للأزدي الصحاري» يطرح فيه إشكالات حول الكتاب ونسبته. وقد تم إدراج اسم ابن الذهبي ضمن الشخصيات البارزة عالميا في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة. ومما جاء في الكتاب تحت عنوان التعريف بالماء والعلم به.
«اعلم رحمك الله أن الماء كلمة هكذا على حيالها، ذكروا أن همزتها منقلبة عن ياء، لأن تصغيرها مويه وجمعها أمواه ومياه. ولا نعلم شيئا يخلو من الماء، إلا ما يضاد جوهره وطبيعته، أعني النار التي تؤثر في الماء تسخينا وتبخيرا، ويؤثر فيها إطفاء وإماتة. والماء بارد باتفاق، ولكن العلماء اختلفوا في أي درجة برودته، فقيل في الأولى، وقيل في آخرها إذا لم يخالطه شيء يوجب له بردا زائدا أو حرا ويبسا إلى غير ذلك. وقيل إن رطوبته في الغاية، وكذلك برده، لكنه كالغذاء وإن لم يفز، فلا يفسد فساد الأطعمة والأغذية التي هو مفسد لها إن طال مكثه فيها. وذكر حكماء اليونان أنه بارد في الرابعة، فاعترض عليهم بالأفيون فإنه بارد في الرابعة، ولذا فهو قاتل ببرده، فكيف لا يقتل الماء؟ وكيف صار القليل من الأفيون يؤثر في البدن أثرا ظاهرا، والكثير من الماء لا يؤثر، بل ينتفع به؟ وكيف يكون الأفيون أبرد من الماء، والماء أحد مفرداته؟
.... وفي شرب الماء عند الانتباه ليلا تفصيل، فإن المحرور الجاف المعدة، ومن تعشى وأكل طعاما مالحا، فله أن يشرب عند انتباهه من نومه، وأما رطبو المعد وأصحاب البلغم المالح، فلا يصح أن يفعلوا ذلك لأنه يدخل على أنفسهم منع الشفاء من رطوبات معدهم وتكاثر البلغم عليهم.
ومتى عطشت ليلا فاكشف عن رجلك وتناوم قليلا، فإن تزايد عطشك فهو من حرارة، أو طعام يحتاج إلى شرب الماء عليه، فاشرب وإن نقص من عطشك شيء، فامسك عن شرب الماء فإنه من بلغم مالح.
واعلم أن الماء عند الأطباء يعني البول، وعلى النظر فيه يعول على معرفة الداء ووصف الدواء، وهو فن من فنون الصنعة لم نعرف من أجاده إجادة شيخنا العلامة ابن سينا. ومنفصل الكلام عليه في موضعه من كتابنا هذا، إن شاء الله.
