No Image
ثقافة

إبداع بهاء طاهر (2)

05 نوفمبر 2022
مرفأ قراءة ..
05 نوفمبر 2022

-1-

كان أول إعلان عن موهبة بهاء طاهر وحضوره الأدبي والإبداعي من خلال فن القصة القصيرة؛ وهي الفن الذي استحوذ على اهتمامه واشتغل به قراءة ودراسة وإبداعا. فمنذ تخرجه عام 1956 وعمله بالإذاعة المصرية في عام 1958 تفرغ بهاء طاهر تمامًا لعمله الإذاعي، وقراءة المسرحيات وترجمتها وإعدادها دراميًا للإذاعة، بل إنه عمل أيضا خلال تلك الفترة ناقدا مسرحيا في مجلة (الكاتب) المصرية، طوال الحقبة الناصرية، وكان يكتب بابًا خاصًّا بعنوان «شهريات المسرح» إلى أن توقف بهاء طاهر تماما عن النشاط ميمما وجهه شطر فن القصة الذي استحوذ عليه وتغلغل بداخله.

ويعزو المرحوم جابر عصفور السبب في توقف بهاء عن النقد والإخراج المسرحي إلى «انصرافه الكامل إلى فن القص الذي انتزعه انتزاعًا، فأفرغ نفسه من كل شيء إلا حبه له». وكانت البداية القصص التي نشرها مع بقية زملائه من جيل الستينيات في مجلة (جاليرى 69) وهي المجلة الطليعية التي نشرت الأعمال الأولى له ولصديقه -في جنيف فيما بعد- جميل عطية إبراهيم، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان، وغيرهم من أبناء جيله الذين أصبحوا من أعلام الكتابة المصرية والعربية في العقود التالية.

-2-

صدرت مجموعة بهاء طاهر الأولى «الخطوبة» في عام 1972، ولاقت المجموعة فور صدورها أصداء كبيرة فاحتفى بها كبار كتاب القصة، وعلى رأسهم يوسف إدريس الذي قال قولته المشهورة آنذاك، التي عدها مؤرخو القصة وأدب بهاء طاهر الإعلان الشرعي عن مولده ككاتب وأديب؛ يقول إدريس: «هذا كاتب لا يقلد أصابع غيره».

وقد أدرك إدريس بموهبته واقتداره ونضجه (كان في ذلك الوقت أكبر وأشهر وأهم اسم في إبداع القصة القصيرة، مصريا وعربيا) أن بهاء طاهر من الكتاب الذين يدركون تماما أن الفن يهتم بما لا يُقال أكثر مما يقال بحرفية هذا الفن وجماليته ووسائله الإبداعية.

بين المبدعين الكبار الذين أدركهم بهاء استطاع أن يعرف طريقه وسمته وتفرده، فلم يقلّد أحدًا ولم يمض في عباءة أحد، وظل طول الوقت حريصًا على هذه الاستقلالية وهذا التفرد.

يقول المرحوم فاروق شوشة عن موقف بهاء طاهر من كتابة القصة ومكابدته لهذا التفرد الفني وهذه الاستقلالية الإبداعية «هو موقف لم يحل بينه وبين استلهام الإرادة الفولاذية لنجيب محفوظ وقدرته على الصمود الهائل والاستمرار، أو جنون العبقرية عند يوسف إدريس وقدرته على الغوص والحفر الجديد والتجاوز، ولا بساطة يحيى حقي العميقة والمدهشة، لغةً وأسلوبًا وإبداعًا، يظن الجاهل أنه يحسن مثلها فلا يستطيع، لأنها السهل الممتنع».

وهكذا، يستنتج فاروق شوشة، صنع بهاء نفسه على عينيه، وتعهدها بقسوة المراجعة والتأمل والتحول، فنجا من شَرَك الحياة الأدبية في مصر، وضوضائها الصاخبة الجوفاء، وتراجعها المخيف، ليظل مرتفع القامة، ومنارة تضيء لأجيال الشباب من المبدعين، الذين التفوا من حوله، وازدحمت بهم داره وأوقاته، في رضا وبشاشة ومحبة.

-3-

تميزت كتابة بهاء طاهر القصصية، ومنذ البداية، بسمتين أو خصيصتين فريدتين؛ هما: «الصدق» وهو النبرة الأولى التي تصافحك في سطور قصصه، و«التوازن الموضوعي» وهي العلامة الواضحة التي يقيم عليها بناء قصصه، فليس في القصص طموحات غير محققة، وليس فيها غموض فكري أو شكلي مصطنع.

بعد مجموعة «الخطوبة»، توالت مجموعات بهاء في القصة القصيرة، ومنها «بالأمس حلمت بك» (1983) و«أنا الملك جئت» (1985)، و«ذهبت إلى شلال» (1998)، وأخيرًا «لم أكن أعرف أن الطواويس تطير».

لكن في «أنا الملك جئت» (صدرت للمرة الأولى عن سلسلة «مختارات فصول»، 1985) سيحلّق بهاء طاهر عاليا ويصل إبداعه القصصي ولغته السردية إلى ذرى شفيفة من الجمال والإبداع والشاعرية والرهافة؛ وعلى الرغم من أن المجموعة تحتوي على أربع قصص فقط، فإنها «تنقل لك هموم الكاتب كلها، وتعبِّر عن قضاياه الأساسية التي ظل يعمل من أجلها منذ مارس الكتابة في الستينيات»، كما يقول عنها المرحوم علاء الديب، وهي كذلك تقدم أربع محاولات مختلفة من حيث الشكل والموضوع، تكشف عن اتساع الدائرة التي يتحرك فيها الكاتب، محاولًا طرق أشكال جديدة في القصة دون أن يكون الشكل غايته أو مقصده، فبهاء طاهر كاتب واضح مسيطر على مادته وأدواته، جديد في رؤيته ومتفرد في نوع أدائه البسيط.

ربما وفي حدود ما قرأت لم أجد مثل هذا الإجماع على جمال وعذوبة هذه المجموعة تحديدًا، وفي القلب منها قصة «أنا الملك جئت»، التي يقول عنها الناقد الراحل الدكتور جابر عصفور: ولا أزال أذكر الدهشة التي شعرت بها، بعد قراءة «أنا الملك جئت» التي لا أزال أراها حدثًا إبداعيًا صعب التكرار». عشرات بل ربما المئات من المقالات والدراسات التي تصدت لهذه القصة؛ قراءة وتحليلا وتفسيرا.

وسأتوقف هنا عند رأي الكاتب الراحل القدير علاء الديب الذي قدَّم لهذه المجموعة، ضمن جوقة من كبار نقاد القصة في مصر والعالم العربي، واحدة من أعذب القراءات وأجملها، ويقدِّم تفسيرات لقصص المجموعة تقوم على استبطان دلالاتها وتمثل جمالياتها السردية واللغوية.

-4-

في «أنا الملك جئت»، يرى الديب أنها تحمل روحا غربية تذكِّر برائعة يحيى حقي «قنديل أم هاشم»، ليس فقط لمقاربة الموضوع أو الشخصية، ولكن هناك أيضًا روح الدقة والإتقان والمقاطع القصيرة المتصاعدة في بناء محكم. وذلك التداخل بين الغرب والشرق في الروح المصرية المعاصرة التي تجعل من البحث عن «الهوية»، و«الخلاص»، طابعًا إنسانيًّا يكاد أن يدل علينا.

إن روح الدكتور فريد طبيب العيون التي قادته في رحلة مجنونة إلى صحراء مصر الغربية بحثًا عن معبد مجهول، وبحثا عن لقاء مستحيل مع محبوبته الفرنسية التي أصابها الجنون، إن تلك الروح هي تجسيد حُلمي وفني لذلك الشقاء والعطش الذي ينتاب المثقف، وهي طرح جديد لأزمة «إسماعيل» بطل قنديل أم هاشم الذي صار «علامة» في تاريخ الأدب المصري.

في قصة «محاكمة الكاهن كاي نن»، يطرق بهاء طاهر الكتابة السياسية المباشرة، فأزمة الأنظمة، وأزمة الديمقراطية هي الخلفية الحقيقية لتلك القصة الفرعونية. والنفاق والكذب هما الأشباح السوداء التي تغطي المنجزات الضخمة، ولا تبقي قيمة لشيء مهما كان كبيرا أو عظيما. وفي نهاية القصة يقول الكاهن:

«ما أسهل أن تموت من أجل حقيقتك، ولكن هل تعرف كيف تضحي من أجلها.. اكتب شعرًا.

فيرد الكاهن الآخر.. ولكن قليل من سيقرأ هذا الشعر.

- هذا صحيح، ولكن من يدري ربما هؤلاء القليلون هم الذين سيحققون حلمك...» هذا الشعر هو حلم الكاتب، الشعر المخلص الذي يحمل الحقيقة، ويضيء للأجيال القادمة.

وينتقل بهاء طاهر في «محاورة الجبل» إلى عالم الواقع، ويقدم حلما روائيا غزيرا ينسجه بمقدرة روائية بارزة ويستخدم تداخل الزمن في بساطة. ويقترب من المعاني المطلقة للحزن وللفن عن طريق تفاصيل واقع قوي ومثير.

وفي قصة «حديقة غير عادية» يعود بهاء إلى قصصه التقليدية، حيث يحمل الواقع الخارجي كل الدلالات النفسية، دون إفصاح أو مباشرة. فحديقة الكلاب الأوروبية هي عالمنا الخارجي والداخلي هي العذاب والوحدة والإحباط. ولكنه عذاب ليس كالعذاب، وحزن ليس هو الحزن.. لأنه حزن نبيل يصنعه فنان صادق.

-5-

في آخر مجموعتين قصصيتين صدرتا لبهاء طاهر على الترتيب؛ «ذهبت إلى شلال»، و«لم أكن أعرف أن الطواويس تطير»، لم يفارق بهاء طاهر سماته الكتابية من حيث الحرص الشديد على اختيار الألفاظ، والتكثيف والاقتصاد اللغوي، والإحكام الصارم في تأطير حدود القصة من الكلمة الأولى إلى الكلمة الأخيرة.

فهو في النهاية ينتمي إلى تلك المدرسة التي كانت تحتذي روح إبداعية هيمنجواي القصصية (أثَّر هيمنجواي تأثيرا عميقا وبالغا في عدد كبير من كتاب القصة المصريين والعرب، وخاصة في جيل الستينيات، وقد أوضحت في مقال سابق بعض هذا الأثر في كتابة وتصورات إبراهيم أصلان الإبداعية والأسلوبية)...

(وللحديث بقية)