No Image
ثقافة

عاشق الفطر والأنا المتغيرة

30 أبريل 2024
30 أبريل 2024

من دون شك، شجعت جائزة نوبل للآداب التي حازها عام 2019، الناشرين العرب، على الالتفات أكثر لترجمة كتب النمساوي بيتر هاندكه؛ فمنذ ذاك العام، بدأت عملية نقل واسعة لكتبه إلى العربية، وفي أكثر من بلد. بالطبع لم تكن أول مرة يُترجم فيها هاندكه؛ إذ منذ ثمانينيات القرن الماضي، أفرد هذا الكاتب مكانًا له في مكتبتنا، ولكننا نجد اليوم قسمًا كبيرًا من أعماله، بلغة الضاد. لذا، من غير المفيد، البحث عن أي مسوغات، نقدية أم غير نقدية، للإشارة إلى أهمية عمله، في فضاء الكتابة الجديدة.

وعلى الرغم من أنه كتب روايات ملحمية، ومقالات نقدية وقصائد ومسرحيات وحتى سيناريوهات لصديقه المخرج السينمائي فيم فيندرز -(من يمكنه نسيان فيلمه الكبير «أجنحة الرغبة»؟)- إلا أن الكاتب النمساوي، اهتم أيضا بهذه الأشياء اليومية الصغيرة، التي غالبا ما نراها «تافهة ومبتذلة»، بشكل وثيق. اهتمامه هذا، يأتي من فكرة فلسفية عميقة، كان عبّر عنها في كتاب يوميات نشره عام 2012، بعنوان «أمس في الطريق»، حيث قال فيه: «الشعرية: هي اللاشيء تقريبًا الذي تحيط بالعالم». ربما لهذا السبب، حاول مرارًا، في كتبه، فك رموز هذا اللاشيء، العدم، المحيط بنا، والذي لا ننتبه له، لكي يستكشف موضوعيا وبإيجاز شعري مذهل ما يسمى بالأشياء البسيطة.

ما يميز كتابات بيتر هاندكه هي أنها تقع دائمًا في وسط المشهد الطبيعي، في مكان ما في البيئة الجغرافية التي أسسته وتؤسسه؛ بالنسبة إليه، المشهد الطبيعي هو اتساق للوجود وليس مشهدًا بسيطًا؛ إنه مسألة الأماكن المسماة؛ وهي هنا، في «عن عاشق الفطر» (الكتاب الذي نحن بصدده)، جنوب باريس وشمالها («شافيل»، و«ماركيمون» في فيكسان). ومع أن المكان الذي يتحرك فيه الراوي (والكاتب والعاشق بطبيعة الحال) محدّد بدقة، إلا أنه يتجاوز حدوده الخاصة من جميع الجوانب لينفتح على مكان آخر واسع مثل العالم، كما هو الحال في الــ «مارشن» (الحكاية الخيالية)؛ لأن الكتابة تجعل الفضاء يهتز ويتوسع. فما هو مكتوب هنا، هو على أعلى مستوى من تملّك اللغة بما تقوله، وبالتالي مع نفسها، مع «الإحساس الحقيقي».

تعطي لغة هاندكه كثافة شديدة لعناصرها الملموسة -أوراق الشجر والفروع والأشياء المتنوعة- والتي يجعل وصفها البسيط امتدادا غير محدود. من هنا، تبدأ القصة، الحقيقية، الفريدة، في أحد أيام الصيف، قبل أسابيع من ولادة طفله. كان الراوي قد ترك المنزل والحديقة، وتوجه إلى الغابات الواقعة على التلال القريبة، وهي أقصر طريق للوصول إلى العاصمة، حيث صعد أولًا بلطف ثم بدأ بشكل أكثر انحدارًا. فالقصة المروية، هي قصة صديق يتمتع بكلّ سمات الراوي، تبدأ في كارينثيا، على الحدود السلوفينية (مسقط رأس هاندكه)، أي مشهد المؤلف الطبيعي الأصلي الذي ذهب، عندما كان طفلًا، لقطف الشانتيريل (نوع من الفطر)، الأصفر، الذي كان يهب لونه إلى المكان بأسره، كي يبيعها لاحقا، برغم من أنه لم يكن ماهرًا في ذلك. هذا الراوي، أصبح محاميا فيما بعد في محكمة العدل الدولية.

كانت هذه المهنة بالنسبة له «خارجية بحتة»؛ لأن السياسة تخفي المادية الملموسة للمرئي. كان يأخذ مرافعاته إلى الغابة معه؛ وفي كلّ مرة، عند عتبة الغابة، يستولي عليه شيء ما باندفاع كبير كما لو كان حدثًا عظيمًا. ليست الغابة مجرد مساحة تمتزج فيها أصوات أوراق الشجر مع تحولاتها اللونية، بل هي أيضًا تجربة جسدية معيشية، تحدث في الذاكرة الداخلية؛ كما أنها تشهد على الجنون الإنساني الكبير فهي مليئة بالحُفر الناجمة عن قصف الحرب العالمية الثانية أو الحرب الصربية.

يصبح صديق الراوي «مجنونًا» بالفطر، ذلك الفطر الذي نراه في الغابات الخفيفة التي تختلف تمامًا عن غابات التنوب (في طفولته)؛ يسافر باستمرار عبر حوافي الغابة حيث تنقسم النظرة نحوها من جانب ونحو المدينة من الجانب الآخر. الراوي والجامع، «مجنون» الفطر، من المرجح أن يكونا لحظتين فقط، حالتين ذهنيتين لنفس الذات، ربما يكونان تصرفين لـ «نفس» الشعور بالوجود، في ذروة الحميمية. وبالتالي يمكن الوصول إليها بالإجماع: وجود لا يتمحور حول نفسه، بل كما يتبدى للقارئ، هذا هو محتوى هذه القصة. كل شيء يأتي بطريقة معينة، بشكل متصاحب ومتزامن ليقع في هذه «المساحات الوسيطة»؛ وهذا هو الأهم في عمل هاندكه. لا شيء يُقال محصور في بُعدٍّ واحد، بل يفلت من التعريفات والتثبيتات المسبقة، كل ما يكتبه هاندكه متاح شعريًّا للقارئ.

هذه «المقالة» (يستعمل الكاتب كلمة Versuch في العنوان الألماني) عن «عاشق الفطر» هي الأخيرة من خمسة مقالات (كتب) «شعرية وواقعية» في الوقت عينه، مخصصة على التوالي لـصندوق «الموسيقى»، و«التعب»، و«يوم ناجح»، و«الخلاء والسكون» (وكلها صدرت بالعربية عن «دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، مصر)؛ وكلها تبدأ من مذكرات وسيرة ذاتية وبيانات محددة دقيقة للغاية لتمتد إلى ما لا نهاية.

من قرأ أعمال هاندكه، يعرف أن الفطر كان حاضرًا دائمًا في أعماله، لكنه هنا في قلب عملية السرد، فهذا الفطر الذي ينمو على الهوامش، يشكل جوهر النظرة؛ مثلما يشكل واحدة من«الأنا المتغيرة»، والكاتب الذي يريد أن يؤلف كتابًا عن «علم الفطريات»، أو كذاك العابر في كتاب «السقوط العظيم» (لهاندكه أيضا)، الذي ينتقل من حافة إلى حافة للعثور على فطر بورسيني أو الشانتيريل، إذ كان عليه أن يخفض بصره وينظر إلى البعيد، من دون أن يغفل اتساع المشهد العام؛ لأن الفطر هو من النباتات الوحيدة على الأرض التي لا يمكن زراعتها فهي الوحيدة التي تنمو بشكل جامح، غير آبهة بالتدخل البشري.

في هذا الكتاب، يعتبر الفطر نقطة البداية لهذا المنظور الآخر الذي تترتب حوله كل الأشياء تدريجيا وتنتقل من وجه إلى آخر لوجهي الشيء عينه. (ولا داعي لقراءة الأجزاء الخمسة بالترتيب لأن كل كتاب يحتوي على قصة بأكملها).

قلت «إن لغة هاندكه تعطي كثافة شديدة لعناصرها الملموسة»، في هذا الكتاب هي أكثر من رائعة، حديثة و«جوتية» (نسبة إلى جوته)، حيث لا تضيع كلمة، ولا تذهب عبثًا بل تقود إلى جوهر ما تقوله، من دون انعطافات ومن دون ادعاء، لذا لا بدّ، في الختام، من الإشادة بهذه الترجمة «السيادية» التي قامت بها الدكتورة عُلا عادل، التي أمسكت فعلا بمناخات الكاتب، لتقدم لنا نصًّا موازيا (إذا جاز القول).