No Image
ثقافة

أنساغ.. أن تتغافل عن استغفالك

23 أكتوبر 2022
23 أكتوبر 2022

(1)

لو جاء كل شيء في وقته لما كان هناك زمن.

«أنا أعرف ما الزمن»، ولكن إذا ما أنت سألتني: «ما الزمن»؟، فأنا لا أعرف ما الزمن» (القديس أوغسطين، «الاعترافات»).

(2)

في ما يخص جسد الأنثى (على وجهِ تحديدٍ أكبر في أقصى تجليَّات الجسد وماديَّة الروح: جسد الأم، وجسد المحبوبة) فعليه أن يبقى من أعمال الميثولوجيا، والشِّعر، والحزن، والفقد، ونزوحنا جميعًا من إفريقيا حيث كان الميلاد الأول للحضارة، وكذلك بدأ المأتم الأبدي.

جسد الأم، وجسد المحبوبة، شيئان موقوفان على ارتفاعٍ شاهق، محاولة الشِّعر (وهي محاولة فاشلة دوما بالتأكيد).

جسد الأم وجسد المحبوبة: استحالة العودة، وتعذُّر الذهاب، وضرورة الإيغال في الآثام والحب أكثر.

(3)

لا أصلح لأي شيء، وكل شيء، وكل شيء لا يصلح لي، وكل شيء يصلح له الآخرون، أو يصلح لهم، لا يصلح لي، ولا أستطيع أن أتعلم.

«أن أكون إنسانًا نافعًا، بدا لي دائمًا أمرًا في غاية الشناعة»، و«ثمَّة أيضًا من لا يستطيع أن يلهو إلا في قطيع. البطل الحقيقي يلهو وحيدًا» (بودلير).

الواجب في صباح كل يوم، وفي مسائه: ضرورة التَّيقن (كمن يجري فحصًا طبيًا شاملًا ودقيقًا) من عدم وجود الصلاحيَّة، كي لا يحدث أي انخراط صحيٍّ في الأنشطة اليوميَّة للعالم.

الاطمئنان، بهذا المعنى، فعلٌ من أفعال الفطرة، والغريزة، والمقاومة («أنا رجل مريض. أعتقد أن كَبِدي سقيمة»، دوستويفسكي، «ملاحظات من تحت الأرض»).

(4)

كان الملك كلما سمع أنينًا من الناس الجائعين ظنَّ أنه نباح، فرمى عظامًا من بقايا مائدته، حتى صار الوطن شعبًا من الكلاب.

(5)

انتظرت الشجرة طويلًا، وعندما ماتت وجدوا أن وصيتها تعبيد الطريق بأوراقها.

(6)

ينبغي عدم تنقيح الحب، وعدم اتخاذ أي احتياطات أو رسم خطوط رجعة فيه.

الحب، وا أسفاه، ليس فيه «خطَّة بديلة» («Plan B»).

(7)

«الانتصارات» (ليست هناك، للأسف، كلمة أخرى) التي تحققها على بعض أصدقائك بالمعرفة، والطوبى الرِّفاقيَّة الطيَّبة، والحدس، وحسن الطويَّة، والحُجج، وعدم تعمُّد كسر الخاطر ولا إيذاء المشاعر، والتجارب المريرة، ليست أقل أهمية من «الانتصارات» (ليست هناك، للأسف، كلمة أخرى هذه المرة أيضًا) التي تحققها على أعدائك بتلك الوسائل نفسها (ليس عليها أن تكون كذلك في أي حال).

بعض أصدقائك ينفعلون في المعرفة (بسبب إشكاليتها، وبسبب معرفتهم الزائدة الفائقة عن معرفتك)، وفي الخسران (نظرًا لوجودهم الزائد المتعالي عن حياتك)، وفي دواعي التبرؤ منك حين يتطلب الشأن (أقصد: شأنهم، حيث القول الفصل الذي يُحبِطكُ في القول، وفي التجربة)، والمطلوب منك أن ترفع الراية البيضاء لهم (وليس للأعادي).

تقريبًا، لم يعد هذا عادلًا، ولا طيِّبًا، ولا حكيمًا، ولا ممكنًا.

أحبُّ بعض أصدقائي بشروط الماء والحياة، ولا أستطيع أن أجد أي داعٍ للأسف في هذه السطور أو ما بينها.

(8)

حبل الكذب ليس قصيرًا (كما يُقال)، بل هو طويل بأكثر مما نعتقد (وإلا لماذا يعجبنا ويطربنا الاستماع للكذب، بل وتصديقه، والإيمان به، والتصفيق والهتاف له، ونحن نعلم أنه كذب)؟

حبل الكذب طويل.

(9)

لم أعد مؤمنًا بالكتب الكبيرة. صارت ثقتي أكبر في الكتب الصغيرة.

أنا إنسان صغير أصلًا، وأسكن في شقَّة صغيرة، وأقطنُ في حياة صغيرة، وأكتب كتابًا صغيرًا؛ فما الذي يعنيني في الناس الكِبار، والكتب الكبيرة؟

(10)

للأمانة الشديدة، ليست هناك أي مشكلة في الحياة (وأنت اكتشفت ذلك ليس في غواية التفاحة، بل في مكابرة الغابة).

(11)

غريب جدًا (أليس كذلك) أن تكون مهمة المرء في هذه الحياة هي مغادرة الحياة؟

(12)

امرأتان أمام القمر: واحدة تنبلج خلف المحيطات، والأخرى تبزغ وراء الجبال. وهو، في آخر كل ليلة، يعود وحيدًا إلى سريره مثل شعاعٍ مثلوم.

(13)

أنا رشيقٌ، وحزينٌ، وأنانيٌّ، مثل كل الصخور.

(14)

في ما يعنيني في الكتابة أن المرء يعيش العذاب ثلاث مرات: الأولى هي معيشه في التجربة الموضوعيَّة في سياق انخراطه في تجربة العالم والوجود، والثانية في معيش الكابوس، أو الجاثوم، أو الحلم (لا فرق بين تلك الأقانيم)، والثالثة في مكابدة إعادة إنتاجه مكتوبًا.

بالتأكيد إن الكتابة هي مراس مع اللغة، والموهبة، والثقافة، إلخ. كل هذا صحيح. لكن، في ما يخصني، الكتابة هي معاناة الجسد أولًا.

(15)

كانا متشابكَيْ الأيدي عند سفح الجبل. تأوهت وقالت: «آه لو كنا نتمشى الآن على القمر».

رفع رأسه إلى السماء، واكتشف فجأة أنه أصبح وحيدًا، وأن أصابعه أضحت أحجارًا مشعَّة.

(16)

في كل عرس، إذ تذوي آخر رقصة صاخبة، وتتدثر الأغاني، وتنطفئ لمعة آخر كأس، وبعد انصراف كل المدعوين، ينبثق من وعثاء المقبرة ولدٌ وبنتٌ أشعثان أغبران لا يُرى عليهما أثر السَّفر، وذلك ليقدِّما للعريسين باقة ورود، وأزهارًا نضرة، وابتسامتين حزينتين.

في نهاية كل عرس، وفي بداية الليلة الزوجيَّة الأولى، إن في مجز الصغرى أو في دبلن من أعمال إيرلندا، تنبثق غريتا: «أعتقدُ أنه مات لأجلي»، ثُمَّ «تتلاشى روحه تدريجيَّاً وهو ينصت إلى الثلج يتساقط متمهلًا عبر الكون، كما عند الساعة الأخيرة لكل الأحياء والأموات» (جيمس جويس، «الأموات»).

(17)

في بعض الأحيان خيرٌ لك أن تتغافل عن استغفالك؛ فذلك يوفِّر جرعةً من الثقة بالنفس لمُسْتَغْفِلك، بينما أنت في غنى عن تلك الجرعة، ولذلك من الأفضل أن تتصدق بها عليه، وتمضي لشأنك.

«نحن الذين فقدنا كل أمل، علينا أن نقدِّمه لمن يحتاج إليه» (فولتر بنيامين).

«مَنْ خَدَعَكَ، فانخَدَعتَ لَهُ، فقد خَدَعْتَه» (معاوية بن أبي سفيان).