No Image
ثقافة

أمل السعيدي: كل ما نكتبه عن أنفسنا سردية.. وإن كنا نكتب سيرتنا الذاتية

01 يناير 2023
كاتبة تعيش في رأسها
01 يناير 2023

كتبت أمل السعيدي في كتابها الأول «مدخل جانبي إلى البيت» عن طفولتها وعن بيتها في سرد ساحر وأخاذ، وفاز كتابها بجائزة الإبداع الثقافي في نسختها الأخيرة عن فرع الكتابة العابرة للنوع، ووصفته لجنة التحكيم وقتها أنه كتاب يتميز بصدق حاد ولافت واصفين إياه بالنص المكتوب بالسكين لقوته التعبيرية الأخاذة وجرأته المدهشة.

ننوه أنه حوار لا يقتفي أثر الجائزة، لكنه يقتفي أثر الكتابة والقراءة والذاكرة عند أمل.

هل كنتِ تخططين من قبل أن يكون كتابك الأول عنكِ/عن حياتك؟!

لقد عرفتُ أنني سأكتب عن طفولتي وعن بيتي، لكنني لم أتخيل هذا المشروع بالتحديد. يبدو أنني ممن لا يمتلكون قصة محددة، إنني أعيش في شذر من الأحاسيس الحارقة، واللحظات التي ما تفتأ تومض وتنطفئ، لا أرى عمري كسلسلة متصلة، بل أشبه بنقطة واحدة أرواح منها و إليها. أنا حتى لا أعرف ما معنى أنني كبرت، هل يبدو هذا معقولا؟ أشعر أنني صغيرة، وعندما أرى أقراني ممن هم في عمري يتقدمون في حياتهم مع وضع خط تحت كلمة «يتقدمون» أتساءل كيف لهم أن فعلوا ذلك ببديهية، فيما أتوقف كثيرا، عائدة إلى نقطتي الأولى نفسها، علامتي، ميلادي، ويبدو أني سأصير إليها أبدا.

كيف تصفين الأثر الذي أحدثه فيك باشلار؟

كنتُ طوال فترة طفولتي أعيش في رأسي. أتخيل الأشياء وأستطرد في التفكير بشأن تجارب لم أختبرها بعد. كان لديّ ذلك التوق الرهيب والذي قد يكون مميتا لأشياء كثيرة، لذا لم يكن الماضي وحده هو الذي أؤلفه لأعيش كل يوم بيومه، بل المستقبل أيضا، فهنالك تنتظرني كل الأشياء التي أراها وأعرفها على الرغم وأنني كما ذكرت لم أختبرها فعليا. عندما تعرفتُ على باشلار للمرة الأولى، هزني عميقا أن لهذا الذي أشعر به اسم، إنه أحلام اليقظة. وكثير من البشر لديهم أحلام يقظة مشتركة. ثم أن باشلار انتصر لي على نحو ما، أنا التي في رأسها، إذ يقول بأن التجربة المعاشة ذهنيا توازي تجربة العيش في الواقع. انهما ببساطة لا تتنافران ولا تتفوق إحداهما على الأخرى. لذا من الممكن أن يعيش الإنسان وهو يقرأ كل الوقت، دون ذلك الكليشيه عن أن الحياة موجودة في الخارج بينما تقرأ كتابك المفضل الآن. ثم إن هذا يناسب استرخائي، رغبتي المستعرة في الاستلقاء وعدم فعل أي شيء. باشلار دلني على الطريقة التي سأفهم بها علاقتي ببيتي الأول. للأسف أن يزج باسم هذا الكاتب العظيم في كتابة فتاة يافعة ومبتدئة مثلي، لكنني محظوظة بهذه الرابطة التي تأخذ قراء كتابي إلى باشلار وأصلان كثيرا.

شعر الكثيرون أنك كتبت عنهم/بلسانهم -في كتابك مدخل جانبي إلى البيت- مع أنها تجربة شخصية خالصة؟

لطالما كان الشخصي عاما أو هكذا يبدو الأمر بالنسبة لي. في النهاية فإن وجدان الإنسان واحد في كل مكان. هذا ما أردته من الكتابة، التواصل والتقاطع مع آخرين. قد لا تكون كتابتي الأهم والأجمل ولكن هذا لا ينفي أنها قد تكون مؤثرة أتذكر هنا ما كتبته إيمان مرسال في كتابها «في أثر عنايات الزيات» : أحيانًا يهزّ كيانك عمل أدبيّ ما ولا يعني ذلك أنه عمل غير مسبوق في تاريخ الأدب، أو أنه أفضل ما قرأت في حياتك. إنها الصُدف العمياء التي تبعث لك رسالة تساعدك على فهم ما تمرّ به، في اللحظة التي تحتاجها الامتنان ليس للأعمال العظيمة فقط، ولكن للأعمال التي كان دورها عظيمًا في فهمنا لأنفسنا في لحظة محددة، حتى إننا عندما نلتفت لحياتنا يمكننا تعريفها بهذه الأعمال.»

هل تملكك الخوف أو التردد في أن تكوني صريحة وكاشفة للكثير من جوانب حياتك أمام قراء لا تعرفينهم/غرباء، وكأن تكوني في بيت من زجاج؟

بصراحة يزعجني قليلاً هذا الوصف، أن تكون الكتابة الأدبية بالنسبة للآخرين مجرد اعتراف. وأظن أن هذا عادة ما يقترن بكتابات النساء، وحتى وإن كان بالإمكان تفسير هذه الإشارة بالبنى التي أنتجت هذه الكتابة إلا أنها تتوقف عند التعبير عنها بأنها صادقة، كاشفة أو جريئة، لكن عن ماذا تكشف؟ هل يجرؤ هؤلاء أنفسهم على الكتابة عن هذا؟ أما عما إذا كان هذا يعني لي؟ فهو بالتأكيد ينطلق عن وعي نسوي، عن إيمان وصدق هائلين عادة ما يتم التماس المباشر معه عند المراجعة والتحرير. لكن هذا أنا. هل أستطيع كتابة شيء آخر؟

كيف تدافعت ذكريات عمرها سنوات؟

أظن بأن الأمر لدي مرتبط باللغة ومدى معرفتي بها. لقد أردت تسمية الأشياء منذ طفولتي المبكرة، في كثير من المواقف كانت زميلاتي في دراستي الجامعية يسألنني عن اسم أداة معينة، أنا أعرف وظيفتها، فأبدأ بسردها لكن ما المصطلح الذي نطلقه عليها؟ كان ذلك مفاجئا لهن، ألستِ عمانية مثلنا؟ بلى. لكنني نشأت لأب وأم صغيرين جداً في السن، وكانا منعزلين تماماً عن العالم المحيط بهما، ثم إنهما قلما اضطرا لتسمية الأشياء، عدا أنني كنت أتحدث العربية الفصحى حتى الصف السادس. والآن وأنا أدرك أن العامية لغة أخرى، كما هي الفصحى لغة مستقلة. وأظن بأن على العرب أن يعترفوا بهذا سريعاً لصالح علومهم وتواصلهم مع أنفسهم قبل تواصلهم مع العالم. المهم ما كنت أريد قوله هو أنني أردت أن أعرف أسماء كل تلك الجروح الصغيرة، الندوب التي لم أفش سرها لأحد، كانت تنز طوال الوقت في داخلي، لذلك فالذكريات لم تتدافع، لطالما كانت رابضة هناك بانتظار الإعلان عنها عبر تسميتها. هل نجحت في ذلك؟ لا أظن. لكنني مشتاقة للبدء في رحلة جديدة لمحاولة تسميتها مجدداً. هذا هو قدري كما يبدو لي. أو كما تقول آني ارنو : اضطررت للتخلي عن الكتابة بشكل جيد. وعن الجمل الجميلة. حتى أقتلع وأفهم الصدع الذي يمر من خلالي. ما جاء بشكل عفوي هو ضجيج اللغة التي تنقل السخط والسخرية، وحتى الفظاظة، لغة من الإفراط في التمرد، غالباً ما يستخدمها الآخرون على ذكرى ازدراء الآخرين لهم»

وكيف يمكن أن نكتب عما هو ماضٍ بحيث نجعله ماثلا وكأنه حدث للتو مع القدرة على القبض على تفاصيل المكان والزمان والأشخاص والتقاطها في آن كما فعلتِ؟

هذا إطراء لا أعرف أن كنتُ نجحت فعلا في العمل على هذا. لكنني أعيش في الأدب الذي كتبته، لم يكن ذلك حتى المتخيل منه، خارجا عني، أنني منغمسة فيه، ومع الدأب على تفجير حالة التعبير، كنت أريد لا أن أعكس التمثيلات الداخلية لي فحسب، بل أردت وعلى طريقة آني ارنو عكس موقف من كان عنيفا معي أيضا. لقد أردت دوما تبني كتابة أقل عاطفية، لكن لم يكن هذا ليكون في هذا الكتاب، ربما لأنه تجربتي الأولى. مازلتُ أتعلم تهجئة كل التجارب التي مررتُ بها. أريد بشدة أن أكتب على طريقتها تحديدا فهي لا تشعر بالحياء من عارها الشخصي. حتى ما يبدو قميئا تعترفُ به بدون فجاجة. لا عبر الاستعارات والكتابة الغنائية وإنما عبر الواقع وحده وما يعكسه. أقرب إلى طريقة ريموند كارفر مثلا، واقعي صلف، ولكنه طوال الوقت يعبر عن كل شيء مخبوء. إنني بطريقة ما أدعو للكتابة الواقعية. بعد عقود علقت فيها الكتابة في هذا المكان في الرمز وفي الأسطرة. أريد أن أكتب ولو نصاً واحداً اقترب فيه من أسلوب كاتبي المفضل بيتر هاندكه وهو يكتب عن أشد الجروح غوراً في النفس ببرود كامل.

هل خفت في لحظة ما من تحول هذا السرد إلى مجرد توثيق لمراحل من حياتك؟ وإن حدث كيف عدت وأمسكت بخيط السرد فيه مجددا؟

تنسحب إجاباتي السابقة على إجابة هذا السؤال. ما هو الواقع وتوثيق الحياة إن لم يكن سرداً؟ كل ما نكتبه عن أنفسنا سردية، حتى وإن كنا نكتب سيرتنا الذاتية. إننا نحتفظ بقطع متناثرة، أشبه بالتماعات في الغبار، هذا ما نتذكره عما نحن عليه، أنا متأكدة أن كل من ظهر في كتابي يقرؤني في سرديته الخاصة بطريقة مختلفة عن الطريقة التي نظرت بها لنفسي وله.

سئلتِ مرة عن مشاريعك القادمة، فقلتِ إنك تريدين الكتابة بلا خوف، مما تخاف أمل بالضبط؟

أريد أن أعبر كامرأة بلا خوف من أحد حتى من نفسي. أريد أن تكون كتابتي نسوية لأنها كذلك. وأريد أن أجرب في الصنعة الأدبية وألعب وألهو دون خوف. إنها في النهاية تجربتي الصغيرة، إنها حياتي. سأختم بما قالته آرنو أيضاً : «كيف يمكن التفكير في الحياة دون التفكير في الكتابة؟»