أرجوحة النفس: التأرجح بين التقرب والتغرب
«سأخون ميزانه، عندما يزنني ملاك الجوع
سأصبح خفيفا مثل خبزي الذي وفرته
وصعبا على القضم مثله
وسترى، أقول لنفسي
إنها خطّة قصيرة
تلك التي تصمد طويلا»
قرر النظام السوفييتي بأن على الألمان التكفير عن ذنوب النظام النازي، ومن ضمنهم الأقلية الألمانية في رومانيا، في عام 1945 ساقت القوات الروسية الرومانيين من أصل ألماني ممن تتراوح أعمارهم بين 17 و45 إلى معسكرات العمل في أوكرانيا لإعادة بناء ما دمرته الحرب، كان من ضمنهم والدة الكاتبة هيرتا موللر والشاعر أوسكار باستيور، وقد استعانت الكاتبة بالكثير من ذكرياتهم –لاسيما باستيور- عن تلك التجربة؛ لتكتب هذه الرواية التي توّجت أعمالها الأدبية وأهّلتها للفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 2009، لم تتورع موللر عن شجب الأنظمة الديكتاتورية في كتاباتها، بعد التجارب المريرة التي عايشتها مع الحكم الاشتراكي في رومانيا في فترة رئاسة الأمين العام للحزب الشيوعي الروماني نيكولاي تشاوتشيسكو التي امتدت لأربعة وعشرين سنة، حتى محاكمته وإعدامه في 25 ديسمبر 1989.
صدرت ترجمة رواية أرجوحة النفس ضمن مشروع كلمة – هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، بترجمة وحيد نادر، الذي سبق أن ترجم للكاتبة كتاب: الملك ينحني ليقتل. تنفي موللر اعتبار أرجوحة النفس شهادة تاريخية في مقابلة منشورة في مجلة «بورسن بلات» أجرتها: ايرينا بينال وترجمتها سلمى حربة للعربية: «أنا لا أكتب للتاريخ، ولا أكتب تقارير شهود عيان رغم أني اعتمدت عليها، أنا أكتب أدبا وأنا مهووسة بما أفعله، هذه هي مشكلتي».
عكس كل من فُرض عليهم الذهاب، كان ليوبولد آوبيرك راغبا بالرحيل «كنت أريد الرحيل عن العائلة ولو إلى معسكر العمل الاجباري عند الروس». هل الشعور بالانتماء من شروط الحنين؟ هل ينبغي أن يعاملنا المنفى بقسوة لنشعر بقيمة الديار؟ لم تخطر هذه الأسئلة على بال ليوبولد بصيغة السؤال، يحاجج أسلوب هذه الرواية بأن أفكارنا حول الحياة ومعناها يشكلها وعينا باللغة، وكيف نُسقط ذلك الوعي على الواقع. لم يكن الانتقال من رومانيا إلى المعسكر في أوكرانيا بالأمر السهل، فقد دُفع بالرومانيين الألمان في عربات نقل الحيوانات بين الثلوج والجبال، ثم عربات القطار حيث كانت احتياجاتهم الأساسية حلما بعيدا. من هنا نبدأ بالتعرف على قاموس لغوي مخالف لكل المعاني المعتادة، تصبح كلمات من قبيل ملاك الجوع ورفش القلب وأرجوحة النفس نوعا من المعادلة الصعبة للتماهي مع الواقع المرير، استشفافا للجمال من مستنقعات الشقاء، لم يكن البحث عن الصبغة الجمالية في المواقف المؤلمة التي تزخر بها هذه الرواية هروبا من الواقع؛ بل إقرار به وتوظيفا لرهافة التعبير البسيط في المواجهة مع الشقاء اليومي.
لا يحاول المسار السردي للرواية تتبع التحوّلات التي تطرأ على الشخصيات، بل على العكس تماما، ندرك أن ليوبولد سيغادر المعسكر بعد خمس سنوات، وعليه بأن بعض أعظم تجارب الحياة لا تدور حول التحوّل بل الثبات، كما لو أن عدسة الدهشة التي يرى الأشياء من خلالها لم تفارقه قط، فالإسمنت مثلاً يكتسب صفات خبيثة وشريرة «إن الإسمنت خديعة كغبار الشوارع، وكالضباب والدخان – فهو يطير في الهواء، ويزحف على الأرض، ويلتصق بالجلد». نحن لا نعيد اكتشاف العالم في معسكرات العمال بل أن العالم هنا هو من يمارس تجاربه على البشر، يشق يطونهم بمبضع الجوع، فمع وفرتة، يصبح الجوع ملاكا، جوع للخبز والجوارب والابتسامات، للحم والموسيقى والوطن، ولأن أحد لم يكن يملك المال، كانت المقايضة هي الطريقة الوحيدة لتلبية نداء الملاك، كان عمال المعسكر يقايضون كل شيء بكل شيء مع بعضهم ومع السجان ومع الروس بل حتى مع أنفسهم.
ورغم كل الاختلافات والعقبات التاريخية والسياسية واللغوية، نجد أن العلاقة بين عمال المعسكرات وسكان القرية الروسية تتجرد من التعبئة الإيديولوجية، مثل علاقة ليوبولد بالعجوز الروسية التي شبّهته بابنها المناضل في الجبهة، كانت تشاهد في نحوله ما تتوقع أن يكون ابنها عليه، فتطعمه وتنظفه وتعاتبه، وهذا بطبيعة الحال يعكس العلاقة الشائكة بين ليوبولد ووالدته في رومانيا، ان كان يرفض الانتماء، فمن أين يأتيه الحنين؟ بالنسبة لليوبولد، ألا نقع في فخ الانتماء يعني ألا نصبح فريسة للحنين، فلم ينزعج حين عاد للديار ليجد أن صار له أخ كان يطلق عليه اسم «الابن البديل» لأن أحدا لم يظن بأنه قد يعود عدا جدته، فالمرء لا يعود يملك من نفسه سوى ملكيته المفترضة لها، وحتى هذا لا ضمانات عليه: «قد كنت سجين نفسي، ومنتزعا منها مرميا إلى خارجها، ما عدت منتميا لهم، وفي تلك اللحظة كنت أفقد ذاتي. كنا نعرف كم تغيرنا وإنا لن نعود ثانية كما كنا، يا له من عبء أن تكون غريبا! لكن العبء الأكبر هو أن تكون القريب الغريب، أن تتأرجح بين التقرب والتغرب».
