الطفولة التي أنهكتها الحرب في سوريا.. وقائع مؤلمة
دمشق – عُمان – بسام جميدة:
لم يكن من السهولة بمكان الوصول إلى عوائل الأطفال الذين أودت بهم الحرب حيث الهاوية واغتالت طفولتهم واستباحت فرحهم، منهم من قضى نحبه، ومنهم من سارت به إلى دهاليز نفق مجهول، ومنهم من أخذت به إلى دروب الشقاء، وأقلهم ضررا بات محروما من أدنى درجات الفرح التي تليق بطفل لم تقترف يداه شيئا في مدن تلوثت بأيادي المتصارعين وهم يتنازعون وطنا عاشت على أرضه شعوبا وقبائل وحضارات بكل مودة وتأخي.
أم أحمد أسم مستعار لأمرأه خمسينية، لم تود الإفصاح عن أسمها، حفر الحزن عميقا في محياها لم تعرف كيف تداري دموعها أو تخفيها وهي تتحدث لي عن مأساة اثنين من اطفالها لقيا حتفهما منذ حوالي شهرين وهما يلعبان في أحد أحياء مدينة دير الزور بعد أن عثرا على قطعة حديد وأرادا الاحتفاظ بها، وربما بيعها للحاجة، ولا يدريان أنها بقايا ألغام زرعتها يد أثمة كانت هنا قبل سنوات. طفلاها اللذان لم يتعديا السنوات العشر هما من عمر الأزمة والحرب التي أطاحت بكل شيء، طفلين ذاقا مع أهلهم مرارة النزوح من بلد إلى آخر عندما حوصرت المدينة من قبل عصابات "داعش"، فلم توفر لهم مناطق النزوح أي مقومات الحياة سوى ما يجعلهم يستمرون حتى هذه اللحظة ليعيشوا مرارة الحزن على طفلين كان ذنبهما الوحيد انهما يبحثان عن فسحة للفرح واللعب، تقول أم أحمد والغصة تكاد تقطع حبال صوتها، لم استطع ان اجعل اولادي يفرحون ولا يلبسون ولا حتى يتعلمون كأي طفل آخر، مرارة العيش والفقر والنزوح كانت كبيرة، كان كل همي وأباهم أن نحافظ على عائلتنا بعيدا عن هذا العبث الجنوني، سافرنا لعدة محافظات ولم نستطع البقاء طويلا لغلاء المعيشة وعندما عدنا الى محافظتنا وجدنا بيتنا مدمرا بالكامل واضطررنا للاستئجار في المناطق المحررة من العصابات المسلحة لأنها ارخص قليلا لكننا لم نكن نعرف ان القدر بالمرصاد لهم.
بعيدا عن الأرقام
حاولت أن أسرد في هذا الموضوع كثيرا من الأرقام التي نشرتها المنظمات الدولية والحقوقية المعنية بالطفولة حول اعداد الأطفال الذين انتهكت الحرب طفولتهم البريئة، ولكن كل هذه الأرقام الكثيرة تتلاشى وتبدو صفيرة أمام وقائع فظيعة موجودة على أرض الواقع، وحاورنا بعض من أصحابها، وكتبنا عنهم، فما يعانيه أطفال سوريا أكبر من كل الكلمات والأرقام المنشورة حيث كانت ثلاثة أجيال تقريبا في عين العاصفة كونهم عاشوا تفاصيل المأساة التي حرمتهم من أدنى حقوقهم في التعليم والعيش بأمان وسلام، وهذه الأجيال الثلاثة المتفاوتة في الأعمار كيف يمكن مسح ذاكرتهم من آثار هذا الصراع الذي ترسخ في اذهانهم وهم يشاهدون تفاصيل الموت والقتل والحرب ويعيشون مع وقائع ماجرى امامهم من غياب لكل المشاعر الإنسانية التي استباحت كل الأعراف والقوانين التي تنص على إبعاد المدنيين وخاصة الأطفال عن ساحات الحرب وصراع المتحاربين.
يقول الشاب تيم العمر أبن ال 20 عاما الذي قضى نصف عمره وهو يعيش مأساة الحرب السورية، عندما بدأت أعي الحياة بصورتها الجميلة بدأت الحرب، كنا لا نبالي بما يجري حولنا ولكن مع اشتداد القصف وضراوة ما عانيته مع أهلي ونحن نتنقل هنا وهناك بحثا عن مكان آمن، شعرت بقسوة ما نمر به والمعاناة التي تصيبنا جراء المعاملة التي نلقاها من اطراف الصراع كوننا من منطقة ساخنة، وما أن وجدنا فرصة للخلاص حتى ركبنا أمواج البحر وكنت في الخامسة عشر من عمري، كان الموت يحف بقاربنا المطاطي ومعنا عوائل وأطفال آخرين، كنا نبكي خوفا من الغرق، ولكن اهلنا كانوا ينزفون بصمت من اجلنا، وها أنا أعيش في غربتي بعيدا عن ملاعب طفولتي، ومهما يكن من أمر فالغربة قاتلة، فقدت أشياء كثيرة من طفولتي، وأتمنى أن يعود الأمن والسلام لبلادي.
مآس المخيمات
كل الذين التقيتهم من أبناء المدن الساخنة، ولكن حتى المدن التي لم تكويها نار الحرب الحارقة لم يكونوا بأفضل حالا، فأطفالها أيضا عانوا ويلات الخطف والحرمان وحتى غياب مباهج الحياة، فالعيد ببهجته لم يكن يمر عليهم، فلا مراجيح ولا العاب ولا حتى كعك العيد يعرفونه، وتسرد لنا أم سامح من دمشق ولديها أربعة أطفال، كنا نخاف على أطفالنا كثيرا، من القذائف التي كانت تنهمر علينا من بعيد، كان الخطف وابتزاز أهالي الأطفال موضة دارجة في البلاد، حتى المدارس لم تعد كما يرام في تلك السنوات القاسية، أطفالنا محرومون حتى من اللباس الجديد ومن فرحة الأعياد، الحرب دمرت فينا كل شيء فكيف بأطفالنا..؟
وهناك في البعيد تأتيك اخبار كثيرة تدمي القلب، ففي مخيمات اللجوء حيث الخيم المنصوبة في العراء تكون عرضة لكل عوامل الجو التي لا تقل قساوة عن قلوب المتحاربين الذين لا يراعون قدسية الطفولة، تكويهم شمس أغسطس ويوليو، وتغدر بهم الخيام عندما يحل برد "كوانين" وامطار ورياح "تشارين" علاوة على غياب التعليم لغالبية الأطفال، فيما يضطر الآباء أمام شظف العيش لكي يبعث ابناءه للعمل هنا وهناك، ولعل العالم بآسره شاهد ما يحدث هناك.
والأكثر فجاعة عندما يتم تجنيد الأطفال واستغلالهم كدروع بشرية، بل أن وصل الأمر إلى أن يتم الاتجار بهم كأعضاء قابلة للبيع والشراء، ولم يخل الأمر من وجود أطفال يبحثون عن شرعية وجودهم في هذه الحياة وهم يرون النور دون معرفة من هو أباهم، فكثير من المتحاربين أسقطوا شهواتهم وغرائزهم الحيوانية في أرحام قاصرات واختفوا أو قتلوا دون أن يفصحوا حتى عن أسمائهم الحقيقة، وكان الضحايا أطفال أبرياء، يبحثون عن شرعية وجودهم على هذه البسيطة.
قصص كثيرة
لم يكن الدافع من وراء هذا السرد تسجيل سابقة، ولا استدرار عطف أحد كما أشار لي أحد الإباء وهو يحدثني عن ابنه الذي فقده في البحر ولم يعرف عنه أي شيء حتى هذه اللحظة، فما أصاب قواعد المجتمع السوري ومستقبله يبدو هائلا، وقصص الحرب ومآسيها كثيرة جدا، ولا يستوعبها مقال ولا حتى عشرات الكتب، ولكن ما أصاب الطفولة في سوريا يبدو مذهلا، فهناك عشرات الأطفال الذين يعانون الأمراض الكثيرة، ويعانون رهاب الحرب، كما أشار لي الدكتور أسامة عبد الخالق المتخصص بعلم الاجتماع والباحث في شؤون الطفولة، كل شيء يمكن إعادة اعماره بسهولة إلا إعادة ما خربته الحرب في نفوس الأطفال وسلوكهم اليومي سيحتاج إلى الكثير من الجهود والمنظمات العالمية لإعادة تأهيل الطفولة التي انتهكت الحرب براءتها دون وجل، ويتابع عبد الخالق، تابعت آلاف الحالات هنا وهناك من خلال رصد ميداني موسع، ويبدو الأمر فظيعا جدا ولابد من تكاتف الجميع لإنتشال ما تبقى من أطفالنا، فشريحة الأطفال وحتى عمر السابعة عشر تشكل أكثر من ثلث المجتمع السوري وربما وصل العدد إلى النصف تماما في ظل ما خسرناه من بقية شرائح المجتمع، ولأن هؤلاء هم المستقبل الذي يمكن أن يعيد للمجتمع توازنه لابد من العمل على هؤلاء بشكل كبير وموسع ومن كل الأطراف لتأهيلهم من جديد وإلا لن نستفيد شيئا على مدى سنوات طويلة.
انها المأساة
حتى بعد توقف أزيز الرصاص نسبيا في غالبية المناطق السورية، لا زالت سخونة الأجواء وتوتر ما تبقى منها حتى هذه اللحظة يرخي بعواقبه الوخيمة فيها، ففي شرق البلاد وشمالها وحنى في جنوبها لا تزال الطفولة مستباحة، كما بقية الأشياء، وفي كل البلاد قاطبة زاد الحصار الاقتصادي من تفاقم المشكلة بحق الطفولة، فبات كل شيء حلما لا يأتي حتى في المنام لهؤلاء الأطفال بسبب الغلاء الفاحش الذي خيم بظلاله الثقيلة على السواد الأعظم من العائلات السورية، ولو سألت أي طفلا سوريا في الطريق عن أحلامه وأمنياته لسمعتها لا تتعدى عن شوقه لرؤية قلم وممحاة وحتى قطعة موز أو تفاحة، فيما تستطيع بما تملك من فراسة أن تقرأ كل تفاصيل الوجع السوري على وجه هذا الطفل الذي غابت عنه الابتسامة، وبات كالحا مغبرا مقطب الجبين وكأنه يقول لك بكل ما يملكه من حزن "حل عني يا رجل، عن شو تحكي، وشو يعني أحلام"..!
وهنا لا تمتلك إلا أن تلملم عجزك وتمضي بعيدا أو تحيد بدموعك عن رجولة هذا الطفل الذي لا زال ينازع الحياة وهو يعرف أنه يمضي إلى المجهول، فالأطفال هنا يبدون أكثر رجولة وفصاحة أمام واقع متعب، ولم تعد تغريهم تلك الألعاب البسيطة فقد تغيرت حتى طبيعة العابهم وأصبحت العاب قتالية، بل أن بعضهم يعيل أهله من جراء ما يلتقطه من بين الدمار دون أن يدري انه ربما يبحث عن حتفه جراء قطعة حديد يظنها مكسبا ليبيعها ويشتري بها بضع ارغفة خبز، ولكنها مغموسة بالدم، وقد تنفجر في وجهه، ولن يتعبك البحث عن الأطفال لتسمع منهم حكايا القهر والوجع فأمام الأفران وفي الشوارع وأسواق الخضار سترى الكثير منهم يعمل من أجل قوت أهله وهو لا يزال في عمر الورود.
