العرب والعالم

الدبلوماسية العمانية.. دور حضاري فاعل وتاريخ مشرف

17 نوفمبر 2022
17 نوفمبر 2022

*مخاضات تاريخية وحضارية صقلت تجربتها الدبلوماسية

* إشادات أممية للإسهامات العمانية في حل الازمات الإقليمية والدولية

* علاقات تاريخية مع كثير من دول العالم وشعوبها

لا يخفى على أحد، المكانة المرموقة التي تحظى بها سلطنة عمان على المستوى الدولي، بسياستها الخارجية الحكيمة والمتوازنة، والتي تحظى باحترام دولي واسع، أصبحت من خلالها منارة للسلام، وقبلة للمتخاصمين والفرقاء وبريق أمل للباحثين عن مخارج لمعضلاتهم السياسية والأمنية.

فما سر هذا التميز العماني على المستوى السياسي والدبلوماسي، وما جذوره وسماته،... وللإجابة عن هذه التساؤلات، ينبغي علينا البحث في العوامل والخصائص التي تتحلى بها الشخصية العمانية، والكشف عن المخاضات التاريخية والحضارية التي مرت بها وصقلت تجربتها السياسية والاجتماعية، وذلك لأن السياسية العمانية الخارجية تستمد طبيعتها من الشخصية العمانية، التي تتميز بالانفتاح على الآخر مهما كان مختلفا، فقد لعبت الجغرافيا دورا مركزيا في تشكيل هذه الشخصية، فالموقع الاستراتيجي لسلطنة عمان المطل على المحيط الهندي وبحري العرب وعمان من جهة والخليج العربي ومضيق هرمز من جهة أخرى، جعل من موانئها ومدنها ملتقى للقوافل البحرية من شتى بقاع العالم، في المقابل، رست السفن العمانية في كثير من المدن الساحلية من آسيا شرقا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا غربا، وحتى القرن الأفريقي، إضافة إلى الامتداد الجغرافي للإمبراطورية العمانية خلال القرون الماضية في شرق أفريقيا، حيث كانت زنجبار يوما من الأيام عاصمة اقتصادية وسياسية لهذه الإمبراطورية، فكان لهذا التواصل الحضاري مع شعوب العالم، الدور الكبير في رسم شخصية الإنسان العماني القائمة على احترام ثقافة الآخر والانفتاح عليه والاعتراف به، وهو أمر بالغ الأهمية في الثقافة الدبلوماسية والتواصل الحضاري مع الشعوب والأعراق الأخرى.

كما أن هذا الأمر أسهم بشكل كبير في السلم المجتمعي في الداخل العماني على مدى عصور، والذي يحوي في تركيبته مجموعة متعددة لا بأس بها من الأعراق والإثنيات غير العربية، بل والمختلفة في الدين أيضا، والتي انصهرت هي الأخرى في المجتمع وتحلت بخصائصه. ويكفي أهل عمان شرفا، وصف سيد الخلق وخاتم النبيين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، حين قال، "لو أن أهل عمان أتيت، ما سبوك ولا ضربوك".

علاقات تاريخية

أما من الناحية السياسية، فكان لعمان علاقات تاريخية مع كثير من دول العالم وشعوبها، واهتم سلاطينها وحكامها كل الاهتمام بالتواصل وإرسال البعثات الدبلوماسية وتوطيد علاقات بلادهم السياسية والاقتصادية مع البلدان الأخرى، ونستذكر على سبيل المثال لا الحصر، البعثة الدبلوماسية التي أرسلها السيد سعيد بن سلطان في منتصف القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بقيادة أحمد بن النعمان الكعبي، الذي أبحر عبر السفينة "سلطانة" إلى نيويورك، وكانت من أولى العلاقات السياسية العربية الأمريكية في ذلك الوقت، حيث لا زالت المتاحف الأمريكية تحتفظ بالهدايا العمانية ويستذكرها الدبلوماسيون الأمريكيون في كل مناسبة ثنائية تجمع الطرفين.

ومع قيام الدولة العمانية الحديثة عام 1970، رسخ جلالة السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – بحكمته السياسية رسالة عمان الحضارية القائمة على التواصل بين الأمم ومد جسور الإخاء والمحبة مع شعوبها، ونشر ثقافة السلام والحوار ونبذ العنف، وهو ما تجلى في كثير المواقف السياسية المشهودة والعلاقات الخارجية الوطيدة مع أغلب دول العالم.

ومما لا شك فقد ساهمت هذه العوامل مجتمعة في ترسيخ وتأصيل عناصر السياسة الخارجية العمانية القائمة على الحكمة والاتزان والانفتاح على الآخر والقراءة العميقة للمشهد السياسي الدولي، ومواكبة أحداثه وتقلباته السياسية والأمنية والاقتصادية، وهو ما أكسبها احترام جميع الدول، وحظيت بإشادات أممية لإسهاماتها في حلحلة الكثير من القضايا الإقليمية والدولية، بعدها وسيطا عالي الموثوقية يمكن الاعتماد عليه والاستفادة من خبرتها الدبلوماسية وعلاقاتها المتوازنة مع جميع الأطراف.

وفي هذا السياق نستذكر الدور العماني البارز في توصل الدول العظمى والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتفاق تاريخي بشأن برنامجها النووي، بعد سنوات من التوترات بين الطرفين، كانت ستلحق بالمنطقة والعالم ضررا لم يمكن التنبؤ بعواقبه، كذلك هو الحال بالنسبة لكثير من الأزمات التي مرت وتمر بها منطقة الشرق الأوسط وفي مقدمتها الحرب في اليمن حيث ساهمت سلطنة عمان بالشراكة مع الأمم المتحدة وأطراف النزاع في التوصل إلى تهدئة ووقف القتال والحيلولة دون تصاعد الأزمة، كما سعت إلى لم شمل الأطراف المتصارعة في ليبيا عبر طاولة حوار أخوية، وكذا هو الحال في سوريا الشقيقة التي تعاني من ويلات الحرب والاقتتال الداخلي، حيث لم تأل الدبلوماسية العمانية جهدا في التوصل إلى حلول سياسية وتقريب وجهات نظر الفرقاء ومحاولة جمعهم على طاولة المحادثات.

ثبات القيم والمبادئ

في المقابل، اتسمت السياسة الخارجية العمانية بثبات القيم والمبادئ في ما يخص القضايا الإنسانية في المنطقة والعالم، وأولى هذه القضايا وأهمها القضية الفلسطينية التي حظيت ولا زالت تحظى بالدعم العماني الكامل في مطالب الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في إنهاء الاحتلال الغاشم وإقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وعدم انجرارها إلى دعوات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.

وتأكيدا من جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله ورعاه – على أهمية الدور الحضاري العماني إقليميا وعالميا، فقد أسدى توجيهاته السامية منذ توليه مقاليد الحكم بالعمل على تعميق وتعزيز علاقات سلطنة عمان الخارجية، وجاء ذلك من أول خطاب سامي له بعد التنصيب، حيث قال "سوف نترسّم خطى السلطان الراحل مؤكدين على الثوابت التي اختطها لسياسة بلادنا الخارجية القائمة على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام سيادة الدول وعلى التعاون الدولي في مختلف المجالات، كما سنبقى كما عهدنا العالم في عهد المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور داعين ومساهمين في حل الخلافات بالطرق السلمية وباذلين الجهد لإيجاد حلول مرضية لها بروح من الوفاق والتفاهم".

كما أكد جلالته – أبقاه الله – في خطابه السامي الثاني، أن "عمان ستظل كما عرفها العالم عبر تاريخها العريق والمشرّف، کیانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال، على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم، وتقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية".

ظروف عالمية استثنائية

وتأكيدا على حرص جلالته – حفظه الله – على ترسيخ مبدأ الصداقة والتواصل وتوطيد العلاقات مع دول العالم، فقد تفضل جلالته وقام بزيارات سامية إلى عدد من الدول الشقيقة والصديقة بدأها بالمملكة العربية السعودية، ثم تبعتها زيارة إلى دولة قطر، فالمملكة المتحدة وجمهورية ألمانيا الاتحادية وآخر زيارته السامية كانت إلى مملكة البحرين، كما استقبل جلالته عددا من ورؤساء الدول والمبعوثين الخاصين، وكانت لهذه الزيارات والدعوات السامية أهمية استراتيجية خاصة والتي جاءت في ظروف عالمية استثنائية، فبخلاف تعزيز وتوطيد العلاقات والتعاون الدولي بين الأشقاء والأصدقاء، فنحن نعيش عالما مضطربا اقتصاديا وأمنيا، على إثر أزمة جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية ثم نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، وما خلفته من نتائج أثرت على الأمن والاقتصاد العالميين بشكل مباشر، وهو ما يتوجب قراءة جديدة ومتأنية للمشهد الدولي وتقلباته الدراماتيكية، وتوسيع وتنويع دائرة العلاقات الاقتصادية والاستثمارية وتعزيز روافدها الحالية، حيث أسدى جلالته توجيهاته السامية إلى سفراء بلاده في عواصم العالم المختلفة، بتعزيز العلاقات العمانية الخارجية وتفعيل دور السفارات والقنصليات لتمكين هذه العلاقات وتعزيزها على مختلف الجوانب، ليس فقط سياسيا وأمنيا وثقافيا وإنما تفعيل التعاون الاقتصادي مع دول العالم من خلال الترويج الاستثماري في سلطنة عمان والشراكات الاقتصادية الاستراتيجية مع الحكومات والشركات العالمية، وهو ما لاحظناه من خلال المؤتمرات واللقاءات التعريفية بالمكاسب الاستثمارية في السلطنة التي تقوم بها السفارات والقنصليات العمانية مع رجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني في الدول الشقيقة والصديقة.

وبهذا تمضي الدبلوماسية العمانية بكل جد وعزم في سبيل رفعة عمان ونشر رسالتها السامية على المستوى الدولي، تحقيقا لدورها الحضاري كما أكد عليه القائد المفدى – حفظه الله ورعاه -.