No Image
إشراقات

قرة عين رسول الله

05 سبتمبر 2024
05 سبتمبر 2024

تتحدّث معه مباشرة دون واسطة، في حديث عميق، ومناجاة عظيمة، تسبِّحه وتحمدهن وتقرأ شيئا من كلامه، هذا حال المصلّي مع رب العالمين، وكما يُقال إذا أردت أن تتحدَّث إلى الله فصلِّ، وإذا أردت أن يتحدَّث معك فاقرأ القرآن، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه حال المسلم في هذه الحياة الدنيا التي أوجدها الله فيها لعبادته في المقام الأول، حيث قال الله تعالى في كتابه العزيز: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" فهو غني عن العالمين، ولا يريد من الخلق أن يرزقونه أو يطعمونه، فهو الرَّزاق المنعم المتفضّل على عباده أنْ أوجدهم من العدم، ولا يستطيع عباده أن ينفعوه أو يضروه.

والصلاة هي عمود هذا الدين، ففي الحديث النبوي الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "رَأْسُ الأَمْرِ: الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ: الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله" فالصلاة بمثابة العمود الذي تستند إليه الخيمة ولا يمكن نصبها إلا بوجود هذا العمود، أي أنه لا يكون المسلم مسلما إلا بالصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".

ولأجل أهمية الصلاة كانت قرَّة عين الرسول صلى الله عليه وسلم فيها فقال: "وجعلت قرّة عيني في الصلاة" فحبَّبها الله إلى نبيّه الكريم بل وفرض عليه ما لم يفرضه على المسلمين، ففرض عليه قيام الليل فقال: "قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا" فكان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتورّم قدماه. ولأن الصلاة منجاة فهي تؤدى حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ولذلك كانت هنالك صلاة المواقفة وصلاة المسايفة التي تكون أثناء الحروب، كما أن المريض لم يُعذر منها فمَن لم يُصلِّها واقفًا، يصلِّها جالسًا، ومَن لم يستطع فليُصلِّها مضطجعًا.

وهي عبادة مرتبطة بالزمن، أي أنها تؤدى في أوقات مخصوصة، وأفضل أوقاتها أول الوقت، فقال الله عز وجل في كتابه الكريم: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا"، ومن المعلوم المجرب أن الالتزام بالصلاة في أوقاتها ينظم حياة المسلم، بل ويجعل أعماله وأوقاته مباركة، وتتكون عنده ساعة بيولوجية، تنبهه بأوقات الصلاة دون النظر إلى الساعة، بل وتوقظه من نومه، فيصبح قلب المؤمن معلقًا بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ومَن كان هذا حاله فقد بشرّه الله بأن يكون في ظل الله يوم القيامة، يوم لا يكون إلا ظله، في ذلك اليوم العسير الذي تكون فيه الشمس على رؤوس الخلائق ويكون طول ذلك اليوم 50 ألف سنة، فلك أن تتخيّل اللحظات المرعبة من الانتظار والترقب، وأنت تستظل بظل الرحمن الذي يُنجيك من الحر.

والصلاة ليست مجرد حركات وسكنات يؤديها المصلي خلف الإمام، وإنما هي عبادة تتجسد فيها معاني العبودية الخالصة لله عز وجل، فهي عبادة حية روحها الخشوع والخضوع لله عز وجل، ولا تقبل من قلب غافل، فالمقصد منها ذلك التواصل والصّلة التي تكون بين العبد وخالقه في تمثل كل ركن من أركان هذه الصلاة وتأديته على أكمل وجه، واستحضار عظمة الله، لكي تحصل بها الفائدة للمصلي ويتبيّن أثرها في حياته، فالصلاة الصحيحة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ".

ولكي تبلغ درجة الإحسان في الصلاة يجب عليك أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فعند وقوفك بين يدي الله في الصلاة، فأنت تقف بين ملك الملوك وربّ الأرباب العظيم الذي خلقك، وعندما تضع جبهتك على الأرض تستشعر ذُلَّك وانكسارك أمام عظمة الله الذي خلقك وأنت كائن حقير أمام خلق الله الذي خلق الكواكب والنجوم والمجرات والمجموعات المجرية والكون الذي يدير شؤونه، فأنت تستمد منه فيوض رحماته وبركاته وعطاءاته، وكذلك الأمر في كل ركون وتسبيح وسجود، فمَن يداوم على هذا الأمر ويسعى إليه، ستكون له هذه الصلاة حرزا من الشيطان وأدبا للنفس، فستنهاه هذه الصلوات عن فعل المنكرات والوقوع في الفواحش، وهذه إحدى أعظم الثمرات، وهي أن تكون لله كما أمرك، منتهيًا عما نهاك عنه.

وهذا لا يتأتى بالتفويت والتفريط في الصلوات، ولكن يحصل بالمحافظة عليها والحرص على أدائها في أوقاتها، فهذا الاجتهاد موصل إلى توفيق الله عز وجل، كما ينبغي على المسلم أن يدعو الله أن يُعينه على إقامة الصلاة على الوجه الذي يُرضي ربنا، وهذا دأب الأنبياء والصالحين، فهذا الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو ربه أن يجعله مقيما للصلاة فقال الله عز وجل على لسانه: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ".

ولأنها عمود الدين وركنه المتين، فإن الشيطان يحاول إفساد صلاة المسلم، وذلك من خلال الوسوسة، التي تجعل المصلي يسهو عن الصلاة وينشغل فكره بأمور الحياة الدنيا، فيجب مدافعة الشيطان ومعرفة مخارجه ومداخله، وأن يتخلى عن الشواغل التي تشغله عن الخشوع.

ومن الوسائل المعينة على الخشوع في الصلاة هو الإكثار من النوافل، وخاصة في الصلوات التي تكون في خلوة، كقيام الليل، فمن اقتطع وقتا من نومه وقام وتوضأ في الليل والناس نيام، وصفَّ قدميه في عبادته وصلاته لله رب العالمين، فإنه سيكون أقرب إلى الله وأدعى إلى الخشوع والخضوع وطلب الرحمة.

كما أن على المسلم أن ينقّي قلبه من العجب والرياء، وأن يستعين على هذا الأمر باستحضار القلب من أن المقصد هو عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يكثر من الدعاء بقوله "اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" وأن يوقن أن كل من جاء إلى المسجد جاء لأجل الله وليس لأحد سواه.