إشراقات

د.كهلان الخروصي: الوفاء ببر الوالدين حق لله تبارك وتعالى وألزمنا به استقلالا

10 نوفمبر 2022
في حلقة خاصة عن حقوق الأب في برنامج «سؤال أهل الذكر»
10 نوفمبر 2022

تعرف الوالد على أنواع الفتن تمكنه من تحصين الأسرة -

أسوأ الخصال أن يكون الولد فظا غليظا على أبيه -

وسائل التسلية والترفيه المعاصرة تورث رعونة في الطباع ووحشة في المعاملة -

للوالدين في الدين الإسلامي مكانة مميزة، وشدد الله في الوعيد الشديد على عقوقهما أو الإساءة إليهما، وحث على الإحسان إليهما في كتابه العزيز بعد أن أمر بعبادته وعدم الإشراك به، وفي ظل المتغيرات العصرية التي جعلت بعضا من الشباب يفرط في حقوق الوالدين عموما والأب خصوصا كان من المهم التذكير بهذه الحقوق والتعريف بها، ومن أجل ذلك خصص برنامج «سؤال أهل الذكر» حلقة عن حقوق الأب، الذي يقدمه الدكتور سيف بن سالم الهادي واستضاف فيه فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي نائب المفتي العام لسلطنة عمان.

في بداية البرنامج طرح مقدمه سؤالا يتعلق بالباعث أو الداعي للحديث عن حقوق الأب في هذا الوقت؟ فأجابه فضيلة نائب المفتي بأن الحديث عن حقوق الوالد تدعو إليه أسباب كثيرة، منها التذكير بحقوق الوالدين يغلب عليه بيان حقوق الأم، ولا ريب أن الأم جديرة بأن يذكر بحقوقها؛ لأن حقوقها ألزم، ولأن منزلتها أعظم بنصوص الشرع الحنيف من كتاب الله عز وجل، ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن في أثناء ذلك قد يغمط الأب حقه، وقد يتغافل عن بيان ما له من حقوق على أولاده، فكان من المناسب أن يذكر بحقوق الأب، وأن يعرف بها، ثم إن من الأسباب الداعية إلى ذلك أن الأسرة في واقعنا المعاصر مستهدفة في تركيبها وفي منظومة قيمها وفي أسسها التي تقوم عليها، وليس أحد من أفراد بناء الأسرة بعيدا عن هذا الاستهداف، لكن خط الدفاع الأول إنما هما الوالدان، وتعرف الوالد على أنواع الفتن من الشبهات وعلى مزالق الشهوات تمكنه من تحصين الأسرة مع الأم والأولاد ذكورا وإناثا، ولذلك فإن العناية ببيان حقوق الأب ومنزلته والتعريف بكيفية تنشئة الأولاد على أداء هذه الحقوق لوالدهم وتنشئتهم عليها تعين على إعادة تماسك الأسرة، ولا نتحدث عن تماسك الأسرة في مستوى التراحم والتعاطف وأن الأسرة هي اللبنة التي يبنى عليها قوام المجتمع فحسب وإنما نتحدث عن الأسرة في هذا الواقع المعاصر الذي يراد أن تبلغ فيه حدا من التشرذم والتفرق والفردانية وأن يستقل كل بمنهاج حياته وأن تتنوع أشكال هذه الأسرة فتغيب بعد ذلك معالم الحق وتختلط المفاهيم، وقد يجد المسلمون مع عدم انتباههم وإيلائهم لهذا الموضوع وما يستدعيه من عناية ورعاية ووقفة قد يجدون أنفسهم في وضع تكون فيه الأسرة فيه قد تفتتَ قوامها وانهد بنيانها وصعب تدارك حالها، فلذلك كانت هذه الأسباب كلها داعية إلى التذكير بحقوق الأب والتعريف بها والتبين في كيفية أداء هذه الحقوق في ظل هذا الزمن المعاصر المليء بالشبهات والشهوات.

وسأله أيضا هل نحتاج إلى معرفة ما إذا كانت هنالك أحاديث أو آيات معينة تؤكد بالخصوص على فضل الأب ليكون هذا من جملة ما على المسلم أن يحفظه أو يعتني به؟

هذه الأدلة التي تشيرون إليها من كتاب الله عز وجل جاءت بأقوى دلالة على حق الوالدين حينما نسمع ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم يقول: «وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا» هذا العطف الذي يأتي مباشرة بعد الأمر بإفراده جل وعلا بالعبودية وحده سبحانه يدل على عظيم حقوق الوالدين جميعا، ثم يأتي بعد ذلك التفصيل: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» فإن هذه التفاصيل والأخلاق والآداب التي تذكرنا بها الآية الكريمة يغلب عليها ما يتعلق بحقوق الوالد دون الوالدة، فخفض الصوت، وألا يقوم الولد بكلمة تضجر أو تأفف، وأن يقوم بواجب الرعاية وأن يحسن بالقول الكريم والمعاملة الطيبة لوالديه، يغلب عليها ما يتعلق بحق الوالد من حيث التفصيل.

ولننظر أيضا في قول الله تبارك وتعالى في سورة لقمان: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» فصل فيما يتعلق بحقوق الأم وما كابدته، فاستأهلت أن تكون أحق بالرعاية والبر من الأب، لكن الآية الكريمة ابتدأت بالتذكير بحق الوالدين، واختتمت بالتذكير بحق الوالدين، وفصلت في حق الأم، فدلت على أن المقدمة والتذييل هي في حق الوالد أظهر، وبعدها قال تعالى: «وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا» وكذا الحال في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد لا نجد كثيرا من الروايات التي تنص على حق الأب دون الأم إلا ما يتعلق منها بالمناسبات التي قيلت فيها تلك الأحاديث على صاحبها أفضل الصلاة والسلام فحادثة قوله عليه الصلاة والسلام «أنت ومالك لأبيك» عند من صحح هذه الرواية هي حادثة تتعلق بما كان من أمر شاب أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه حال والده في القصة الشهيرة فذكر له أنه كان يأخذ ماله ويهلك له ماله، فاستدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي طريقه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه قال في نفسه أبيات من الشعر أطلع الله عز وجل عليها نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- فلما وصل إليه وأخبره بخبره وسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما وصل إليه وأخبره بخبره وسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عما جاش في نفسه من أبيات فأداها له، فقال له عليه الصلاة والسلام حينئذ: «اذهب فأنت ومالك لأبيك».

ولكن نجد في القرآن الكريم إشارات فحينما ذكر الله تبارك وتعالى من ذكره ممن ناصب العداء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعدد ما آتاه من نعم، قال: «وَبَنِينَ شُهُودًا» فهو نص على البنين الذين يشهدون المحافل مع أبيهم فدل ذلك على أن نعمة البنين الذين يشهدون مع أبيهم أن ذلك مما يغتبط به الأب، فهو من حق الأب على أولاده، فهذه إشارة، وحديث أبو هريرة الشهير ورد فيه حق الأب بعد بيان حق الأم ثلاث مرات، حينما جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أبوك، ثم الأقرب فالأقرب». هذا الحديث مع الأدلة المتقدمة من كتاب الله عز وجل ومع غيرها من الأدلة أيضا من القرآن الكريم تدل كما تقدم على أن حق الأم ألزم، وأن منزلتها أعظم، لكنها في ذات الوقت تدل على حق الأب، صحيح أن بعض العلماء وهم الأقل منهم من رأى أن الحقيين يتكافآن، وأن حق الأب كحق الأم، لكن هذا قول عدد يسير من الأئمة والفقهاء، حتى أن بعض الفقهاء حكى الاتفاق على أن حق الأم ألزم لكن الحاصل أن هذا الحديث النبوي الشريف يدل على حق الأب فقد جاء عقب بيان حق الأم الذي أكد ثلاث مرات فجاء بعد ذلك فورا بيان حق الأب.

الخطاب في كتاب الله عز وجل لا يقف عند حد الحض والترغيب بل إننا نجد أيضا خطابا يتعلق بالترهيب، فالله عز وجل عندما يقول: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» هذا الخطاب موجه إلى الذين يقومون بشأن الأسرة، فدخل في الأهل المرأة والأولاد، دل على أن الخطاب موجه إلى الرجال، فلو لم يكن حق الأب بهذا العلو لما كان الخطاب موجها إليه ليكون مسؤولا عن نفسه وعن أهل بيته لوقايتهم من النار والعياذ بالله، هناك روايات أخرى أيضا، لكن قد تأتي في سياق الحديث من بعض الروايات التي اختلف فيها المحدثون وإن حسنها أكثرهم كحديث: «الابن مجبنة مبخلة» وفي رواية «محزنة» أي لأبيه، فهو يكون سببا لجبن الأب لأنه يخشى على أولاده، يريد أن يحوطهم بالرعاية أو يقيهم أي ضر أو أذى، فيجلبون له نوعا من الجبن، ولأنه يمنع نفسه ليعطيهم، ويحرص على أن يجمع ما يحتاجون إليه، فإن ذلك قد يدفعه إلى أن يبخل على نفسه وعلى غيره في سبيل أن يؤثر ولده على نفسه، وعلى ما يتطلع إليه لنفسه، ولذلك قال مبخلة، وأما محزنة، فكثيرا ما يحزن لأي أمر يمكن أن يصيب ولده مما يؤذيهم أو ما يضرهم، من شوكة تصيبهم، أو مرض يأتيهم، أو من نحو ذلك من لأواء هذه الحياة فإنهم يجلبون لأبيهم الحزن بسبب ما يصيبهم، فمثل هذه الرواية أيضا تبين ما يكابده الأب وما يعانيه وما يلاقيه في سبيل تربيته لولده ورعايته لهم والقيام بشؤونهم مما لا ينتبه له الأولاد وقد لا يشعرون به إلا عندما يصيرون آباء بأنفسهم وهذا الحديث أكثر المحدثين على قبوله.

هل طاعة الوالدين معللة تأتي مكافئة لما يبذلانه من جهد؟

هذا من الفهم الذي سرى عند الناس وهو غير صحيح فإن الوفاء بحق الوالدين حق لله تبارك وتعالى بمعنى أن الله تبارك وتعالى ألزمنا به استقلالا فليس هو بمعاوضة يستحقها الوالدان إن أحسنا وقاما بما أمرهما به ربهما تبارك وتعالى، وإنما هو واجب ألزمنا الله تعالى به في كل حال يكفينا أن ننظر في قوله تعالى: «وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا» في ما يدعوانك ويجاهدانك فيه من أجل أن تشرك بالله ما ليس لك به علم، ولكنه فورا قال: «وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ» فالله تبارك وتعالى أمر بحسن الصحبة للوالدين وإن كانا مشركين، فكيف يمكن أن يظن ظان أن القيام بواجب البر للوالدين، وتوفية الأب حقه إنما يكون مشروطا بأداء الوالدين، أو الأب أو أحدهما للحقوق التي عليهما لولدهما، ليس هذا بصحيح بدلالة هذه الآية الكريمة، وبدلالة أن الله تبارك وتعالى أمر في شأن الرحم، وذوي القربى أن يقوم المسلم المكلف بتوفية القرابة حقوقها بقطع النظر عن موقف القرابة، فالرجل الذي أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له إن لي رحما أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، فقال له عليه الصلاة والسلام: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملْ «أي الرماد» ولا يزال معك من الله تعالى عليهم ظهير، وفي بعض الروايات «ليس الواصل بالمكافئ» فهذا في شأن عموم القرابة والرحم، لا شك أن الأمر ألزم وأشد في حق الوالدين، حتى أن بعض الفقهاء يقول إن ما يأمر به الأب من المباحات يصير مندوبا في حق الأولاد فإن كان ما يأمر به هو من المندوب يكون أشد تأكيدا في حق الأولاد لاجتماع الندب الشرعي إليه وأمر الوالد أو الوالدين به عندهما، فمن باب أولى أن يكون ما ينهى عنه الأب إذا كان مكروها فهو أشد كراهة في حق الأولاد في هذه الحالة، فكيف إن كان ما ينهى عنه الوالدان هو ما حرم الله تبارك وتعالى فهنا سيكون هذا الولد الذي يخالف أباه يكون عاصيا لله تبارك وتعالى عاقا لوالديه، وحينما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الكبائر قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، والسحر» وكان متكئا وجلس فقال ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، حتى قلنا ليته سكت. فذكر عقوق الوالدين بعد ذكر الإشراك بالله، من أجل ذلك تنبه الفقهاء إلى عظيم حق الأب وعظيم حق الوالدين، بالنظر إلى الأدلة الشرعية الآمرة بالإحسان إليهما، وتوفية حقوقهما، وبالنظر إلى الأدلة الشرعية التي تنهى عن العقوق بهما.

ففي رواية أخرى نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، وفي رواية أخرى أن يشتم الرجل والديه، قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه، قال يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه. أي أن يجلب لوالديه السباب والشتائم لأنه تعرض بالسب والشتم واللعن لآباء الآخرين وأمهاتهن فينهاه هذا الدين الحنيف عن أن يقع في مثل هذا وإلا فإنه يكون حينئذ قد قارف كبيرة من كبائر الذنوب والله تعالى المستعان.

ما صور بر الأب؟ وما الملاحظات المعاصرة التي ربما جاءت بفعل تأثير الثقافات المختلفة في تعامل الابن مع أبيه؟

الحقيقة أننا إذا قلبنا صفحات تراثنا الإسلامي سواء كان ذلك في كتب الفقه أو في كتب الأخلاق والرقائق، فإننا سنجد أمرا عجبا مما يغفل عنه الناس اليوم كثيرا، فقد حذر أهل العلم من أن يسمي الابن أباه باسمه، أي أن يناديه باسمه، دون ما يستحقه من لقب الوالدية أو الأبوة أو أن يتقدمه في مشي أو في صلاة إلا بإذنه، وقد ورد عن بعض السلف في ثنائه على ولده أنه سُئل وقد كان ولده من كبار العباد الزهاد كيف كان حاله معه، قال ما تقدمني في مشي في نهار قط، وما تأخر عني في مشي في ليل قط، فيسبقه في الليل حتى يبعد عنه كل مخوف فإنه يتقدمه حرصا منه على سلامة أبيه، وإذا كان في نهار فإنه يمشي خلفه تقديرا واحتراما لأبيه.

وذكر صاحب منهاج الطالبين وكرر هذا الأمر أن من البر بالأب ألا يمشي الولد فوق سطح المنزل إذا كان والده تحته، حتى لا يتساقط عليه غبار أو شيء من الأذى، إذن فقهاؤنا يبلغون بالبر بالأب إلى هذا الحد الذي يلتفتون فيه إلى هذه المعاني الخفية، فلا يرفع صوته عنده، بل عدوا إقامة الحجة على الأب من الجفاء والعقوق، فقالوا إن كان الحق مع الولد فعليه أن يجادل بالتي هي أحسن إن كان في ذلك مصلحة لأبيه، وعلم أن ذلك لا يؤدي إلى إحزانه، مما ورد أيضا أن بعض السلف المتقدمين أنهم يقولون: «إحزان الولد لأبيه من العقوق» حتى وإن كان محقا، فإن عليه أن يترفق به، حينما تحدثوا عن أسوأ الخلال التي يمكن أن تصدر من الولد لأبيه أخذا من قول الله تبارك وتعالى: «فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» قالوا أسوأ الخصال أن يكون فضا غليظا على أبيه فإن ذلك من أشد ما يؤلم قلب الوالد ويجرحه، لكنه مع ذلك يترفق بولده وقد لا يظهر ذلك لولده لحنان الأب المعهود، مثل هذه المعاني تخفى على كثيرين، نجد في سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته الكفاية مما هو تطبيق عملي لما في كتاب الله عز وجل؛ لأن النهي عن أن يقول كلمة تأفف، هي أدنى كلمة تضجر يمكن أن تصدر من الولد ومع ذلك نجد أن الله تبارك وتعالى ينهى عنها لما تورثه من حزن في قلب الوالدين، وكذلك لا يرفع صوته عندهم.

واختلفوا إذا ما كان الابن مؤديا لصلاة ثم ناداه أحد الوالدين، فاختلف الفقهاء في هذه الصورة، وليس الخلاف محصورا في أن يكون في حالة أدائه لنافلة بل الخلاف يمتد في حالة أدائه لفريضة إذا علم أنهما ما كان ليدعوانه إلا لأمر ضروري، ففي هذه الحالة يقول الفقهاء بأن عليه أن يترك صلاته ليسعف والديه، لأنه ليس من شأنهما أن يدعواه في ذلك الوقت أو في ذلك الشأن أو بتلك الطريقة، أي إذا غلب على ظنه أنهما ما دعواه إلا لأمر جلل فعليه أن يترك الصلاة.

أما في النافلة فالمسألة الخلاف فيها كبير أيهما أولى، هل إذا كان النداء من الأم فإن عليه أن يقطع الصلاة وهو في نافلة دون الأب، أو إن ناداه أحدهما الأب أو الأم فإن عليه أن يقطع النافلة هذا أيضا قول لطائفة من الفقهاء، ومن توسط في القول قال فليخفف من صلاته، لأنه مشتغل بعبادة هي لله تبارك وتعالى وتزاحم عليه أمر من والديه، فعليه أن يخفف من صلاته وأن يبادر إلى تلبية النداء.

اليوم نحن نرى كثيرا من الشباب يرفعون أصواتهم على آبائهم، يضعون رؤوسهم برؤوس آبائهم بالمعنى المجازي، وقد ينادونهم بأسمائهم، ويجادلونهم بالباطل، وقد وصلت إلينا حالات من الأبناء يسبون ويشتمون آباءهم، ويرفعون الصوت عليهم، ويهددونهم بالضرب، يعتدون عليهم بعنف في القول والفعل، وكل هذا والعياذ بالله هو من أكبر الكبائر؛ لأنه من صريح عقوق الوالدين، فهذه بعض النماذج في بر الوالدين، وهذه بعض التنبيهات مما بلغ إليه حال بعض الشباب للأسف الشديد اليوم، زاد الخرق اتساعا بمؤثرات وسائل التواصل الاجتماعي وبما تورثه وسائل التسلية والترفيه المعاصرة من رعونة في الطباع وسوء في الأخلاق، ووحشة في المعاملة، بحيث أصبح الأولاد ذكورا وإناثا غلاظ الأكباد قساة القلوب على آبائهم وأمهاتهم، فهم في جفاء مستمر مع آبائهم وأمهاتهم، ولا يحسنون إليهم، ولا يكترثون بلزوم البر عليهم نحو آبائهم وأمهاتهم، فقطعت هذه الوسائل المعاصرة؛ نظرا لاستعمالهم إياها دون روية ورشد قطعت أواصر الأسرة وفككت هذا البناء وأصبح كل فرد في الأسرة يسبح في فلك بعيدا عن الآخرين، وأهمل الأولاد حقوق آبائهم وأمهاتهم عليهم فصارت الأسرة غنيمة سهلة لذي المطامح الفاسدة والمقاصد المغرضة في تفكيك أواصرها وفي هدم بنيانها، وفي تسريب الفاسد من الأفكار من الشبهات والشهوات إلى هذه الأسرة، وبلغ الحال إلى إصابة هذه الأسر من جراء بعدهم عن الله تبارك وتعالى بكثير من الآفات والأمراض النفسية والأحوال التي كان يمكن أن تجتنب أن لو التزم الناس بأحكام دين الله تبارك وتعالى وبأخلاق هذا الدين وقيمه.

ونُقل عن بعض السلف قال: «ما بر ولد والده من شد النظر إلى والده» أي من نظر إليه بحدة، فعدوا ذلك من العقوق، فلا يقتصر الأمر على ما يتعلق بالتضجر والتأفف والمجادلة والمشي والقعود والقيام وغير ذلك وإنما يتعلق بما هو أصغر وهو ما يتعلق بالنظر.

أب لديه ثمانية أولاد وهو لا يستطيع الاعتماد على نفسه وتكفل برعايته أحد الأبناء هل بقية الأبناء يعدون عاقين بوالدهم، أم أنه يفترض أن يقوموا بالأدوار جميعا حيث إن بعض الأبناء يسكنون في ولايات أخرى؟

عليهم أن يتنافسوا في وصل أبيهم وفي البر به حتى وإن انتدب أحدهم نفسه للقيام بذلك فعليهم أن يستمروا في المحاولة، ويسعوا أن يصلوا أباهم بما يستطيعون، كل حسب استطاعته، فطالما أنهم لا يقصدون الهجران والعقوق، ولا يريدون أيضا أن يدخلوا العنت والمشقة على إخوانهم الآخرين الذين يقومون ببر أبيهم فعسى أن يكونون في سعة لكن لا ينبغي لهم أن يتركوا هذا الواجب بالكلية، قد يكون أخوهم هذا الذي انتدب نفسه للقيام بأمره قد يكون متكلفا ولكنه يستحي أن يذكر لهم، لعله ينتظر منهم المبادرة فلا ينبغي لهم أن يتأخروا بل الواجب عليهم أن يتنافسوا جميعا في القيام بحقوق أبيهم وأمهم.

في موضوع الأب عندما يقسو على أبنائه أو بناته، على اعتبار أنه يمتلك السلطة في تأديبهم أو في زجرهم ومحاسبتهم، حتى وهم كبار وبالغون، أثناء وجود هذه القسوة من الأب والتي تشتد أحيانا وتخف أحيانا أخرى، كيف يتعامل الأبناء مع أبيهم وهو بتلك الصورة؟

لا بد من الصحبة بالمعروف، فهذا ربنا تبارك وتعالى يقول: «وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا» أي معنى أوضح من هذا المعنى يمكن أن يكون دليلا لمثل هذه الأحوال، ولو كان أمر البر لا يتحقق إلا في حالة إحسان الوالدين إلى الأولاد لكان أمرا يسيرا مقدورا عليه؛ لأن النفوس تجنح إلى أن تكافئ من يحسن إليها وأن تتودد إلى من يحسن إليها لكن البر تبوأ هذه المنزلة الرفيعة في ديننا وأكد عليه بهذه المؤكدات في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد يكون ثقيلا وقد يكون أمرا شديدا على خلاف ما تهوى النفوس، ولذلك تبوأ البر هذه المنزلة، وبلغ هذه المكانة السامقة، فعلى الأولاد في هذه الأحوال أن يصحبوا الوالدين بالمعروف وأن يحسنوا إليهما وأن يتوخوا مرضاة الله تبارك وتعالى بأداء ما افترضه عليهم فيهم، والله تعالى أعلم.

كيف يبر المرء أباه بعد وفاته، وقد فاته هذا الخير؟

فيما يتعلق بحقوق الوالدين بعد وفاتهما أن يصلي عليهما وأن يستغفر لهما وأن يصل صديقهما وأن يتصدق عنهما، وأن يصل أهل ود أبيه ممن لا يوصل إليه إلا بهم، فهذه من الحقوق التي تؤدى بعد الوفاة، وكلنا يعلم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» فدل على أن من حقوق الوالد على ولده أن يدعو له بعد وفاته بما يتناسب مع حال الأب، فهو في عموم ما يتعلق بالدعاء حاله كحال عموم المسلمين، فإن كان له منزلة عنده فعليه أن يخصه بالدعاء وأن يجتهد في ذلك، والله تعالى أعلم.