في الحُكم على التغير الاجتماعي

06 أغسطس 2022
06 أغسطس 2022

كمختص في علم الاجتماع والنظرية الاجتماعية يستوقفني على المدى أي طرح يحاول القول بأن مجتمعا ما يتغير بسرعة، أو أن «المجتمع الفلاني لم يعد كما كان»، أو الأحكام التي تأتي محمولة في صيغ المقاربات الجيلية ويتم سحبها على صيرورة التغير الاجتماعي في مجتمع ما.

وأتساءل: كيف يمكن أن نحكم على سرعة التغير في مجتمع بعينه؟ في منظورات التغير الاجتماعي سادت العديد من المقاربات النظرية ولعل ما آل إليه بعضها هو الربط المباشر بين التغير التكنولوجي والتغير الاجتماعي، الذي عززته نظرية تُعرف بالحتمية التكنولوجية والتي تشير إلى أن «للتغيرات في التكنولوجيا، وبالتحديد التكنولوجيا الإنتاجية، تأثير أساسي على العلاقات الاجتماعية البشرية والتنظيمية وأن العلاقات الاجتماعية والممارسات الثقافية تدور في نهاية المطاف حول القاعدة التكنولوجية والاقتصادية لمجتمع معين» يُردّ هذا الافتراض النظري إلى مقاربات كارل ماركس غير أن عالم الاجتماع ثورستين فيبلبن أحد أهم من قاموا بإدماج هذا المنظور في الأبحاث الأكاديمية والصيغ التحليلية.

بعيدًا عن ما تقوله النظرية الماركسية فإن هناك تيارا من المشتغلين اليوم على تفنيد هذه العلاقة يرى أن سرعة التغير الاجتماعي لا تتوازى مع سرعة التغير التكنولوجي، على سبيل المثال أثارت مقالة شهيرة لجونثان هوبنر بعنوان «اتجاه هبوط محتمل للابتكار في جميع أنحاء العالم» الكثير من الجدل العلمي حيث يفترض أن معدل الابتكار في التاريخ «بلغ ذروته في عام 1873 وهو الآن يتراجع بسرعة». ما يعني علم الاجتماع ليس فقط كم ينتج من تقنيات جديدة ولكن كيف يمكن أن تكون هذه التقنيات «مبتكرات اجتماعية» بمعنى أنه كيف يمكن أن يغير ابتكار ما في نمط الحياة والثقافة الاجتماعية من خلال:

- قدرته على التأثير المحوري في المعرفة الاجتماعية.

- قدرته على تصحيح منظورات وممارسات سائدة إلى أنماط جديدة.

- قدرته على حل إشكال مجتمعي قائم.

- قدرته على الانتقال من الامتلاك النخبوي إلى الامتلاك العمومي.

- مدى تأثيره على بنية الثقافة الاجتماعية السائدة.

وبالتالي فإن هذا الأمر يقودنا إلى استنتاج نقطتين: أولهما أنه ليس كل ابتكار جديد بالضرورة أن يكون «مبتكرًا اجتماعيًا» ويستطيع التأثير المباشر في حينه على المجتمع ويسهم في التغيير الاجتماعي أو يسرعه، والنقطة الثانية هي أن الابتكارات أو التكنولوجيات الجديدة تتفاوت في مدى قدرتها على تسريع التغير الاجتماعي وهذا يرتبط بالمراحل التي تحدث عنها عالم الاجتماع فيلدينغ أوغبورن لعلاقة التغير التكنولوجي بالتغير الاجتماعي وأن هذه العلاقة تسير في أربع مراحل أساسية هي (الاختراع - التراكم - الانتشار - التعديل).

هذا يفرضُ بنا التفريق بين أمرين وهما التغير الاجتماعي والتحول الاجتماعي، فالأول معني بالبنى الاجتماعية الكبرى والعلاقات وأنماط الثقافة وأنساق المجتمع في تحولها عبر الزمن أو عبر مقارنة المحيط بها من مجتمعات.

أما التحول الاجتماعي -وهو ما نعاينه- فهو معني بسرعة التحول في أنساق بعينها وظهور ممارسات وأشكال ثقافية جديدة على تلك الأنساق. كأن نقول مثلًا أن إدخال التعليم الإلكتروني على حقل التعليم سيفضي إلى ممارسات وأشكال ثقافية وتغير في الأدوار فذلك يصح القول فيه أنه تحول اجتماعي. ولكن لا يصح الحكم بالشكل المباشر أنه تغير اجتماعي. فالتغير إذن في شكل من أشكاله هو مجمل تلك التحولات التي نلحظها ونرقبها ونرصدها، غير أن هناك محكات علمية يمكن أن تساعد أي مجتمع على قياس التغير الاجتماعي وعلى تحديد مستوى سرعته ومن تلك المحكات العوامل التي أجملتها ورقة علمية موسومة نشرت في دورية «التنبؤ التكنولوجي والتغير الاجتماعي» بعنوان: «Are we living in a time of particularly rapid social change? And how might we know?» حيث يشير الباحثون إلى أن الحكم بالتغير الاجتماعي وسرعته يقتضي مساءلة عناصر (السكان - الصحة - المنزل والتعليم والترفيه - الدين - العمل - الثروة - القانون والنظام) وتلك العناصر تعبّر في مجملها عن مجمل البنى والأنساق الاجتماعية الكلية وما قد يطرأ عليها من تحولات تفضي إلى الحكم بالتغير الاجتماعي.

غير أننا نرى أنه وبعيدًا عن النظرية الاجتماعية يمكن لأي مجتمع أن يتخير الأنساق التي يراقب من خلالها التغير الذي يصيب أنماطه الثقافية وممارسات أفراده (شريطة أن يكون التدقيق والقياس عبر طرح الأسئلة المعمقة وليس الاكتفاء بالملامح الظاهرية والأحكام المعاينة) وأن يتم النظر إلى الصورة في مجملها وليس من خلال ظاهرة اجتماعية أحادية، وأن يسخر في سبيل ذلك الموارد من البيانات والمعلومات والدراسات والأبحاث التي تفضي إلى تفنيد حقيقة التغير الاجتماعي، فالنمو السكاني على سبيل المثال لا يعني تغيرًا اجتماعيًا في ذاته إلا عبر طرح أسئلة من قبيل: مستويات التغير في المواليد والوفيات، والعوامل المساهمة في حركة النمو واتجاهاته، ومستويات التحسن في الصحة النفاسية وأثرها على ذلك النمو، وتوزعه بين المدن والأرياف، ومستوى تأثير عمليات الصحة والتعليم على المفاهيم الإنجابية، وتأثيرها على فكرة النمو السكاني واتجاهاته، ومقارنة كل ذلك عبر حقب زمنية سابقة، أو عبر مجتمعات تتماثل في المقدرات الاقتصادية والسكانية والثقافية، لنستطيع الحكم بـ(واحد) من أشكال التغير الاجتماعي ولنا أن نتخيل حجم الجهد المعرفي اللازم للحكم على بقية الأشكال والعناصر.

إذن كيف تنعكس حساسية القياس تلك للتغير الاجتماعي والأحكام المرتبطة به على مستوى التدبير (الفعل السياسي) أو (سياسات الدولة) -أي دولة كانت- وهنا يرتبط الأمر بطبيعة التدخلات المطلوبة للتعامل مع التغير الاجتماعي سواء كانت تلك التدابير في صيغ (سياسات جديدة - قوانين وتشريعات - هياكل ومؤسسات جديدة - تغيير في أنماط التعليم - هياكل ثقافية جديدة - برامج للوعي - إعادة للتفكير في بناء المورد البشرية - موارد مادية جديدة - أنماط جديدة للعقد الاجتماعي...) كل تلك التدخلات ينبغي أن تكون مرتبطة بمدى تقديرنا للتغير الاجتماعي وما يفرزه وما يتطلبه وما قد يفرضه. ومن هنا فإن النهج العلمي والقياس الدقيق وتوافر الكم المعقول من البيانات والأبحاث والتحليلات من شأنه الدفع بسياسات احتوائية مناسبة لذلك التغير أو مستثمرة بشكل أمثل فيه.