منوعات

هل هنالك نسخة أفضل من نسخة في الحرب؟

25 أكتوبر 2023
المسرح في إستونيا
25 أكتوبر 2023

كانت الحرب في أوكرانيا هي الفارس الأبرز والصوت الأعلى في طاحونة مسرح "مهرجان الحرية" في مدينة "نرفا" في إستونيا في منتصف أغسطس من العام الجاري، بل وقد اعتبر البعض إن هذا استحقاق جديرة به مدينة "نرفا" باعتبارها الحد الأقصى للعالم الحر في هذا الجزء من الكوكب من جهة، ومن جهة أخرى هي بوابة الحرية، فعبر النهر تنتصب الإمبراطورية الروسية التي تمتد نحو 11000 من الكيلومترات حتى حدود الصين، كما كتب، آلان كالدوجا، "Allan Kaldoja"، أحد المنظمين الرواد للمهرجان، وأضاف: ما هو ثمن الإنسان؟ الإنسان له روح... إذا كنا نؤمن بالحرية وحقوق الإنسان، ونؤمن بأن لكل فرد حق في اختيار منهجه، بل وحق في حمايته من كل وسائل العنف والكبت والتعسف، فإن "نرفا" هي المكان الأفضل للتعبير عن مثل هذه المبادئ، لاسيما عندما يكون التعبير بالوسيلة الأنجع "المسرح"، فالمسرح منذ أن وجد هو فن الحياة لنا كبشر في هذا العالم.

هذه الكلمات وإن عنت المهرجان بشكل عام إلا أنها كانت تمهيدا، لا يغفل، لأول عروض المهرجان عن أوكرانيا، بل أن يفرد اليوم الأول للمسرحية وتكون هي العرض الأول في المهرجان هذه بحد ذاتها دلالة مهمة.

لا أحد يحتاج هذه التجربة

لم تكتف المسرحية بكوننا في جوار الحرب بل وعلى حافتها، أرادت أن تقحمنا في مجرياتها إقحاما كاملا مع سبق الإصرار والترصد.

تطالعنا بداية المسرحية بالكلمات التالية:

إذا كنت موجودا هنا تستمع إلى هذا التبتل، معنى هذا أن الكون قد قادك إلى المكان المناسب...

استرخِ وأغمض عينيك، وتحسس موطئ قدميك على الأرض.

الأرض التي تمتاز بالطاقة والخصوبة... أوكرانيا.

هذه الأقدام تتمنى أن تقف في عالم لا يوجد به......

أنا الذي كنت تعرفه ذات يوم قد اختفى...

أنت الذي كنت أعرفه ذات يوم قد اختفى...

أخبروني أنه علَي أن أكتب تجربتي...

لا أحد يحتاج هذه التجربة...

من مسرحية اختر النسخة الأفضل، "Choose a better version"

مسرحية تستلهم وجهة النظر الأوكرانية في الحرب الدائرة حاليا بكل تفاصيلها، عبر أربعة من الشباب، فتاتين وشابين يستعرضون المآسي التي عاشوها في مدينتهم "خاركيف"، "خاركوف" بالروسية، إثر هجوم روسيا على بلدهم، حيث فقدوا أحلامهم وتشتتت طموحاتهم وأواصرهم الأسرية والإنسانية، اعتمدت المسرحية في عرضها على اللغة الخطابية في مساحات عديدة من العرض مع الوثائق والصور كديدن "المسرح السياسي"، ورغم أن التمثيل والإخراج غلب عليه الأسلوب العفوي الارتجالي، السهل الممتنع إلى حد ما، إلا أن النبرة العاطفية الحماسية ظلت مرتفعة وطاغية وقد تجاوب معها الجمهور تجاوبا عاطفيا باعتبار أن الجرح الأوكراني في الجوار ما زال ينزف بغزارة.

صفارات الإنذار تدوي في أرجاء المسرح

يكاد الطرح في هذه المسرحية لا يخرج عن النبرة الإعلامية المعهودة هذه الأيام في كل وسائل الإعلام الغربية، ولم تفلح بعض المحاولات المتناثرة هنا وهناك في الخروج من شرنقة التكرار، ففي مشهد مفتعل، دوت صفارة الإنذار وسط المسرحية، وطلب من الحضور الخروج على عجل، وعندما تم إخلاء صالة المسرح وانتقل الجمهور بكامله إلى صالة الاستقبال، أبلغ الجمهور أن الإنذار زائف، وأنه قد عمل ليجعل المشاهدين يشعرون بحالة الأوكرانيين في ظل عشرات صفارات الإنذار يوميا تطلب منهم التحرك من مكان إلى آخر حفاظا على حياتهم.

في جلسات المناقشة كان على المتابعين والجمهور، رغم التعاطف المنقطع النظير، أن يواجهوا سؤالا جوهريا: هل علينا أن نناقش الموضوع الأوكراني بكل حيثياته بحيادية ومن زوايا غير تقليدية أم أنه لابد أن نأخذ موقفا واضحا صريحا مباشرا مناصرا، بغض النظر عن الشكل الفني للعرض المسرحي، وبغض النظر عن المهرجان المسرحي، وبغض النظر عن مدى مصداقية عنوان المهرجان "الحرية"؟

الموقف هو الأهم وهو أولى أولوياتنا ونحن في عز الأزمة والمأساة، تلك كانت الخلاصة التي وجهتنا لها المسرحية ومن بعدها المؤلفة في جلسة المناقشة، وتساءلتْ، إن من يتخذ موقفا معينا غير ذلك الآن مع أحد الأطراف كيف سيكون موقفه غدا عندما تنتهي الأزمة، وبدا واضحا أنها تقصد بنهاية الأزمة اندحار روسيا وانهيارها، حملت لهجة الخطاب نبرة تهديد مبطن غير مستساغ مسرحيا.

كانت المسرحية في بعض أطروحاتها مثارا لضحك الجمهور، وقد انتقد مدير الجلسة النقاشية هذا التصرف من قبل بعض الجمهور، باعتبار أن الضحك في خضم عرض مسرحي يتحدث عن أزمة إنسانية فاجعة بحجم الغزو الروسي لأوكرانيا لا يجوز بأي حال من الأحوال، غير أن أحد الحضور فسر له ذلك من منظورين، الأول أن الشعب الذي يعيش المأساة بكل أهوالها بحاجة إلى الترفيه والضحك ليخفف عن نفسه، والثاني يأتي الضحك من باب أن شر البلية ما يضحك، فالمأساة بلا معقوليتها ولا منطقيتها تولد حالة من السخرية المريرة والضحك الممزوج بالنحيب، مشيرا إلى أن العديد من المسرحيات داخل أوكرانيا نفسها تنحو ذات النحو.

الخيط الرفيع ما بين الخطاب السياسي والفن المسرحي

ظل سؤالي حائرا دون إجابة حول مثل هذا العرض، فهو في إجماله لا يتعدى كونه بيانا "منفستو" سياسيا أحادي الرؤية، بل مسرف الأحادية، فهو يستنهض الجمهور نحو هدف سياسي فوق كل اعتبار فني، وخرجت جلسة المناقشة بعواطف جياشة تتسم بالاتفاق المطلق التام، فالكل متفق وموافق ومسلم ومناصر ومؤيد ولا رغبة لديه في النظر إلى المسرحية من أية وجهة نظر أخرى باعتبار أن صوت المعركة يعلو على كل صوت سواه.

المسرح رؤية مغايرة للسائد، تحمل في طياتها الدهشة والمباغتة بل والصدمة أحيانا، المسرح مجموعة لغات متآلفة توحي وتشي وتفتح آفاقا فكرية وجمالية تتمرد على التقليدي والنمطي والمكرر... طرحت رؤيتي تلك فكانت تغريدا خارج السرب، صوتا يتيم في وجه تيار جارف من التأييد المعاكس.

مع موقفي الواضح الرافض للحروب الغاشمة بشكل عام بما تخلفه من ضحايا ومآس، فقد تعجب البعض أنني أدعو إلى الفن الجميل والتعبير المجازي وسط هدير المدافع وفرقعات القنابل في معركة طاحنة تتناثر فيها جثث القتلى والضحايا من النساء والأطفال، وظل يتردد الرفض، من هؤلاء، للتعبير المجازي عن الحرب رغم أني لم أذكره تحديدا، وإن كنت لا أرى مندوحة عنه، بل ذكرت التعبير المسرحي الفني وبرأيي هو أصدق إنباء من الخُطَب، وإلا ما الفرق بين الخطاب السياسي المباشر والعرض المسرحي، وما فرق بين المؤتمر السياسي والمهرجان المسرحي.

في جلسة المناقشة التي أدارتها الزميلة رالوكا راديولسكيو، إعلامية إذاعية من رومانيا معنية بالشأن الثقافي والمسرح، أبدت تفهما جزئيا لوجهة نظري في الجلسة وفي حوار بعد الجلسة، ولكنها أبدت تفهما وتعاطفا أيضا مع الشباب في التعبير عن مواقفهم الصارمة في أتون أزمة لا تُبقي ولا تَذر.

وقد عُلل موقفي هذا بأني أتيت المهرجان من عالم بعيد عن مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا ومن خلفية ثقافية ومعرفية مختلفة، ولعل لهم في ذلك وجهة نظر.

بقي أن نقول إن هذه المسرحية وإن كانت أوكرانية الأصل والمنبع والمضمون والموضوع والمنظور، إلا أن إنتاجها جاء بدعم من مهرجان الحرية ومن فنانين من لاتفيا وإستونيا شاركوا في إخراجها وتنفيذ العديد من متطلباتها الفنية كالإدارة المسرحية والإضاءة وتصميم الفيديو.

أما مؤلفة المسرحية فهي الأوكرانية نتالكا بلوك "Natalka Blok"، وهي من مجموعة مسرح الكُتاب المسرحيين المكونة من 20 كاتبا وكاتبة مسرحية وتعتمد أعمالهم أساسا على نصوص مكتوبة، ولم يكن هذا العمل ضمن خطة أعمال المجموعة، ولكن منذ اليوم الأول للحرب كثفت المجموعة أنشطتها وصارت تكتب النصوص عن الحرب للمسارح الغربية في البحث الدؤوب عن النسخة الأفضل، فهل كانت هذه هي النسخة الأفضل؟