غلاف كتاب تاريخ البريد في عمان، وتظهر فيه صورة لوردة السلطان قابوس
غلاف كتاب تاريخ البريد في عمان، وتظهر فيه صورة لوردة السلطان قابوس
منوعات

طوابع البريد متعة بصريَّة لأحداث لا تتكرَّر

27 أبريل 2024
27 أبريل 2024

حين كنت طالبًا في المرحلة الثانوية، كنت أرى بعض الزملاء الطلبة، يتبادلون طوابع البريد، ويجمعون في أضابير خاصة بهم، وملفات مخصَّصة لحفظ طوابع البريد، وبعضهم يحفظها في محافظ صغيرة، يجمعونها من الرَّسائل التي تقع في أيديهم، ويبحثون عنها بشغف، خاصة تلك القادمة من الخارج، من الدول القريبة أو البعيدة، وكانت هواية جمع الطوابع يشغف بها البعض حُبًا، ويخلص لها كثيرًا، ويدفع أمولًا لشراء النادر من تلك الطوابع، والقديم أغلى سِعرًا من الجديد، لأن طوابع البريد تُطبَع مرة واحدة، ولا تتوفر بعد نفادها، وأكثرها توثق حدثًا أو مناسبة وطنية، أو مشاركة في مناسبات عالمية، أو تبرز مَعْلَمًا، أو صَرْحًا من الصروح، قديمِها وحديثِها، وأجد متعة بصرية في تلك الطوابع، وأرى فيها ثقافة مختلفة، لا نقرأها في الكتب، تُخْتَزَل في طابع صغير، يقاس بالملليمتر، في تلك المساحة الملونة الصَّغيرة، يَختزل مصمم الطابع عالَمًا من الجَمَال، تمثل ثقافة البلد الذي خرج منه، ثم سافر عبر البريد إلى أقطار العالم، حاملا معه ثقافة وطنه الأول.

من أي بلد هذا الطابع؟، هل هو أصلي منتزع من رسالة أم غير مستخدم؟، مع تفاصيل أخرى لا يعرفها إلا من يحترف جمع الطوابع، ويجد في جمعها متعة، طوابع البريد بما تختزله من ثقافات الشعوب، وتجارب الأمم، وبما تعكسه من اهتمامات ذلك الوطن الذي صممت فيه، لتسافر الرَّسائل بالأشجان، والأحلام والآمال والطموحات، وتختزل تلك البصمة الصغيرة المسماة «طابع»، في جانب من الرسالة البريدية، تنقل ثقافة الوطن الذي أُرْسِلت منه، إلى الوطن الذي تصل إليه.

كنت أقرأ شغف جمع الطوابع في عيون بعض المهتمين بجمعها، ولكن بعضهم ترك هذه الهواية الرائعة، بعد أن امتلأ بها ولا يجد للطوابع التي جمعها مكانًا، أو أنه توقف عن جمعها، فانحسر ماء الشغف عن الجريان، ووقته لم يعد يسمح بالبحث عنها، وهواية جمع طوابع البريد أشبه بجمع النحل لقطرات الرَّحيق، وارتشافها للنَّدى من أكمام الزهور، ومع تقليب تلك الأضابير، يخرج المتصفح لها بثقافة عن تلك الأوطان.

في مكتبتي أحتفظ بالإصدار التوثيقي الثاني، لكتاب يتناول «تاريخ البريد في عُمان»، بين أعوام: 1986 - 1990م، وهذا الزمن لمن هم في سني يمثل سنوات الدراسة الجامعية، ذلك الزمن الجميل الذي عشناه، تظهر له ملامح في الطوابع، لذلك صرت أقلِّب الكتاب بشغف، وأقرأ تاريخ البريد في عُمان، منذ بداياته الأولى، وأبرز الشَّخصيات التي أسهمت في الخدمة البريدية في عُمان، والشخصيات التي أدارت مرافق البريد، ونبذة عن مكاتب البريد في سلطنة عمان، بما تقدمه من خدمات بريدية، وتخليصها على المواد البريدية بالطوابع، ثم نقل البريد داخل سلطنة عمان، ونقل إرساليات البريد للخارج، مع تقديم صور جميلة عن أختام المناسبات؛ مناسبات وطنية، واجتماعية عمانية، يخصص البريد لها أختاما خاصة بها، تُدمَغ بها الرسائل، وينتهي الكتاب بتقديم صور من طوابع البريد الجميلة، التي ظهرت وانتشرت في النصف الثاني من الثمانينات، حتى السنة الأولى من بداية عقد التسعينات.

شعرت وأنا أقلب صفحات هذا السِّفر الثمين، وكأني أعود إلى ما قبل ثلاثين عامًا، متذكرا مجموعة من زملاء الدراسة، كانوا يهوون جمع الطوابع، وهي تشبه هوايات أخرى كجمع الرسائل، والوثائق، والعملات المعدنية، والورقية وغيرها، مما نراه في بعض المعارض الشخصية، وما يجمعه البعض في خزائنهم الخاصة، مكوِّنين بعد سنين مُتحفًا خاصًا بهم، في زاوية من زوايا منازلهم، ويتشاركون مع آخرين في إقامة معارض جماعية، ومن هذه المعارض التي ترددت عليها، اشتريت هذا الكتاب، وتركته في مكتبتي، حتى تصفحته هذه الأيام، ونقلني إلى عالم البريد، بطوابعه ورسائله، خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات.

عالم جميل سبحت فيه بفكري، وعشت لذة الإبهار البصري، وأنا أقرأ عن خدمة البريد في سلطنة عمان، وعن أولئك الأوفياء الذين خدموا البريد قبل مطلع السبعينيات، حيث كانت الخدمة من مكتب بريد مسقط فقط، أما باقي مناطق سلطنة عمان، فكان يقوم بها مواطنون متطوِّعون، يتولون إرسال الرسائل والطرود بمعرفتهم، فيهم من الأمانة والإحساس بالمسؤولية الشيء الكثير، فما أروع أن تأخذ رسالة من مكان إلى آخر، وأن تسلمها يدًا بيد إلى من ينتظرها، لعل في داخلها خبَرًا يجعله في نشوة وسعادة، لعل فيها أخبارًا سارَّة عن أشخاص غائبين، وعن مهاجرين لم يعودوا، تركوا أوطانهم من أجل البحث عن الرِّزق، فطال بهم الأمَد، وأصبحت قلوب محبيهم في قلق عليهم، لذلك تأتي تلك الرسائل، لتطفئ نار الأشواق.

من هذا الكتاب تعرفت على بعض المتطوعين في خدمت البريد، وهم: الحاج موسى بن عبدالرحمن بن حسن من مسقط، والحاج باقر بن عبداللطيف من مطرح، والشيخ علي بن عيسى بن خميس الزدجالي من ولاية صور، هؤلاء عاشوا حياتهم ليكونوا همزة وصل بين رسالة تصل إليهم، ولم تصل بعد إلى صاحبها، همزة وصل رائعة في صبرهم على العمل، وأمانتهم وحرصهم على توصيل الرسائل إلى أصحابها.

في هذا الكتاب قرأت بعض الرسائل المكتوبة بخطوط اليد، نستشف منها سردية رقيقة في كتابة الرسائل، مع المقدمة الرائعة التي تكشف عن محبة كاتبها: (إلى جناب الشيخ الأكرم الأجل)، و(إلى جناب الهمام الأكرم)، و(إلى العزيز الأخ الفاضل بعد التحية والإجلال)، و(حضرت المكرَّم الأفخم المحب العزيز الفاضل)، وغيرها من المقدمات الرَّفيعة، تعكس محبة الكاتب، وتقديره لمن يكتب له الرسالة، كبراعة استهلال في قصائد الشعراء، بل إن بعضها قطعة أدبية، بمَتنِها وصياغتها، ممتزجة بجمال الخط.

وتنقلنا الأختام إلى عالم المناسبات التي عشناها في عُمان، وهي مناسبات كثيرة منها: 12 أبريل اليوم العربي للبريد، 1 أكتوبر اليوم العالمي للإسكان، 8 يناير اليوم العالمي لمحو الأمية، 17 مايو اليوم العالمي للمواصلات السلكية واللاسلكية، 24 أكتوبر أربعون عامًا على تأسيس الأمم المتحدة، 9 سبتمبر 1986م، يوم الاتحاد العربي للمواصلات السلكية واللاسلكية، 9 أكتوبر يوم اتحاد البريد العالمي، وغيرها من الأختام، تدمع في الرسائل، وتذكِّر بمناسبات محلية وعربية ودولية.

ولعل أجمل فصول هذا الكتاب توثيقه للطوابع، التي صدرت خلال الفترة من 1986- 1990م، خمس سنوات من الطوابع، صمَّمها مختصون وفنانون مبدعون، ففي عام 1986م أصدرت وزارة البريد والبرق والهاتف مجموعة من الطوابع، في مناسبات مختلفة: يوم الشرطة، وسفينة شباب عمان، وموسم الحج، والمخيم الكشفي العربي السابع عشر، والسنة الدولية للسِّلم، والعيد الوطني السادس عشر.

في يوم الشرطة: 5 يناير 1986م، حمل الطابع صورة من وحدة الهجانة العمانية، التابعة لشرطة عمان السلطانية، تصميم م. نبيل الهنداوي، وطابع آخر يحمل صورة لسفينة شباب عُمان، بمناسبة المشاركة في الاحتفال المئوي لتمثال الحريَّة، يحمل الطابع رسْمًا يوضِّح خط سير السفينة سلطانة للولايات المتحدة الأمريكية، صمم الطابع الفنان الراحل محمد نظام شاه، والمهندس الهنداوي، ثم يشتركان معًا في تصميم بطاقة سفينة شباب عُمان، وبمناسبة أيام موسم الحج، صدر طابع تذكاري يحمل صورة الحُجَّاج أثناء الطواف، ويصمم محمد نظام طابعًا بمناسبة انعقاد المخيم الكشفي العربي، يحمل رسومات لأنشطة الكشافة.

وتتوالى إصدارات الطوابع، لتوثق أحداثًا وطنية وعربية مهمة، وينفرد عام 1987م بإصدار طابع بمناسبة مرور 15 عامًا للجمعية العمانية لهواة اللاسلكي، صممه الفنان محمد نظام، يحمل صورة للهواة أمام أجهزة اللاسلكي المتطورة مع شعار الجمعية، وتظهر الطوابع في عام 1988م جانبًا من الصناعات التقليدية العُمانية، والألعاب الأولمبية (سيئول)، وفي عام 1989م تظهر الطوابع جمال الأزياء العُمانية؛ الرجالية والنسائية، وفي عام 1990م توثق الطوابع ذكرى مرور 150 عامًا على إرسال أول مبعوث عماني دبلوماسي إلى أمريكا، وطابع خاص لوردة السلطان قابوس، وطابع آخر بمناسبة انعقاد ندوة صخور الأفيوليت، وغيرها من المناسبات.

وأما الرسائل فحتمًا ستصل، من صندوق البريد إلى الأحبة، حاملة نثارًا من مسك الأشواق.