فيلم "الشيء ذو الريش": صراع لإثبات الذات من خلال ثنائية الرسّام والغرب
تتخذ المشاعر الذاتية والعاطفية اشكالا تعبيرية شتى على الشاشات، ولطالما تفادت السينما ما هو ذاتي وما هو باطني مما يصعب نقله الى المشاهد او يحتاج الى أدوات غير مرئية وغالبا باستخدام الحوار كوسيلة أو ادة بديلة للإفصاح عما يعتمل في داخل الشخصية.
وعلى هذا كانت الشخصية المحاطة بأزماتها وتحولاتها وما هو ذاتي وعميق من المواقف والأفكار تلفت النظر لجهة الاشتغال العميق على قدرات الممثل واستخدام الوسائل السمعية البصرية الحركية لمواكبة تلك الأزمات والتحولات وهي مهمة ليست بالسهولة التي يمكن تخيلها لأسباب تتعلق بإمكانية إنزلاق الأحداث الى منطقة الملل والرتابة التي لا تخدم الفيلم.
من هنا يمكننا النظر لهذا الفيلم لكاتب السيناريو والمخرج البريطاني ديلان سوذيرن وهو يقدم لنا هذه القصة السينمائية التي تم اعدادها عن رواية للكاتب ماكس بورتر، وهي رواية تحمل عنوانا مشابها، وتغوص عميقا في ما هو ذاتي وعاطفي مستعرضا الشخصية في اعمق أزماتها.
ها نحن مع زوج مفجوع بوفاة زوجته وأم طفليه – يؤدي الدور الممثل البريطاني البارع بينيدكت كمبرباتش، إنه في يومياته مع الطفلين فيما هو متخصص بإنتاج الكتب المصوّرة التي تحفل بتخطيطاته التي يستخدم فيها على الدوام الفحم واقلام الرصاص والحبر الأسود وهو الأثر البصري التعبيري الذي ساد سواء في اللوحات المتتالية التي رافقت أسماء فريق الفيلم او تلك التي انتشرت في فضاء المنزل الضيق.
يمتد الفيلم الى ما يقرب المنتصف حتى نشعر بشيء من الملل يتسرب إلينا لكن في المقابل وبفضل القدرات التعبيرية والخبرة الطويلة للممثل البارع فإننا لا نملك الا أن نشاطره ذلك الحزن القاتم التي لا يستطيع منه هروبا، فهو يرى الزوجة الراحلة في كل ركن وحيث يكون فراغها هائلا، وحضورها في حياته لا يمكن أن يملؤه أحد وهو خلال ذلك ولسبب ما يستحضر رسم الغراب الذي طالما ارا
ارتبط في ذاكرة كثير من الشعوب بالشؤم ويتكرر مثل لازمة في رسوماته ويتنبه حتى طفلاه الصغيران لذلك حتى يظهر لواحد منهما في كابوس مرير.
سوف نعود هنا الى تراكم في استحضار الغراب كرمز ودلالة ومن ذلك قصيدة شهيرة للكاتبة إميلي ديكنسون بعنوان "الأمل هو الشيء ذو الريش"، استمد الروائي العنوان منها ثم مجموعة شعرية كانت قد صدرت للشاعر والكاتب تيد هيوز تحت عنوان "الغراب: من حياة وأغاني الغراب" صدر في العام 1970.
وكان هيوز قد نشرها بعد ان انفصل عن زوجته، الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث وحيث انتحرت بلاث في العام التالي (كان طفلاها اللذان أنجبتهما من هيوز حاضران كما في الفيلم). كُتبت جميع قصائد "الغراب" في منتصف الستينيات، وهي فترة حزن شديد لهيوز ثم في العام التالي، أصدر هيوز رواية أسماها "الغراب".
أما سينمائيا فيحضر الفيلم الشهير الرجل الطير للمخرج اليخاندرو ايناريتو والذي ذاع صيته عالميا وحصد أربعا من جوائز الأوسكار في العام 2015، وحيث يتماهى الفيلمان في تلك الحوارية المتصاعدة ما بين الشخصية الرئيسية والطائر سواء أكان غرابا أو غير ذلك حتى يصبح الطائر بمثابة الصوت الداخلي للشخصية وحتى تيار وعيها وهو استخدام بارع وذا قوة تعبيرية مشهودة وهو ما شهدناه في هذا الفيلم اذ انبثق الغراب من وسط تلك الرتابة والسوداوية ليتحول الى ند قوي لذلك الزوج المكلوم.
لقد حضي الفيلم بقراءات نقدية متعددة واهتمام نقدي ملحوظ في العديد من المواقع وبأقلام العديد من نقاد السينما ومن بين ذلك ما كتبته
الناقدة كيت ستيبلز في موقع بي أف آي اذ قالت " إن هذا الفيلم كان في حد ذاته خيار جريء بالنسبة للمخرج، بأن تتحول تلك الرواية الرقيقة والإنسانية والعميقة في معالجتها للفقدان، إلى معركة شرسة وقمعية بين الإنسان والغراب، تجمع بين الرعب الخارق للطبيعة والحزن العميق. يبدو أن أسلوب المخرج البصري الآسر قد أضفى أصالةً حزينةً تُضاهي استخدام كاتب الرواية بورتر للغة. نعم أن الفيلم يبدأ ببطء، مُنغمسًا في التكرار مع وفرةٍ من الإشارات، إلا أنه فيلم عميقٌ وجذابٌ بصريًا، ومُصوَّرٌ ببراعةٍ فائقةٍ، وقد تعامل الفيلم بذكاءٍ مع التذبذب الزمني للقصة، محولًا مشاهد الفلاش باك الثلجية إلى لوحاتٍ فنيةٍ مميزة".
اما الناقد مانسيل ستومبسون فقد كتب في موقع فيلم ريفيو قائلا " أن الرواية التي تم اقتباسها وهي رواية بورتر القصيرة لم تكن سهلة التحويل إلى فيلم حيث تتميز بطبيعتها غير المألوفة، فهي مزيج من النثر والشعر، وفكرتها الأساسية ليست سهلة النقل إلى الشاشة. مع ذلك، فإن كون المخرج هو نفسه كاتب سيناريو الفيلم يُشير إلى أنه قد أحب الرواية وذلك ما تجلى من خلال الإحساس بالواقعية بشكل حاد لدرجة أننا نقتنع بأن ما نراه ونسمعه لاحقا يعكس ما يدور في ذهن الأب من تخيلات مفاجئة وحيث أن قوة الفيلم في المشاهد التي تسبق تصاعد الأحداث وبما يشجع على تقبّل هذا الأسلوب الفني المختلف والمتميز".
وعلى هذا ولإننا إزاء ذلك البناء السردي المتصاعد الذي وظف من خلاله المخرج العديد من الأدوات التعبيرية لتعميق أزمة الشخصية، فإننا إزاء أغراق السرد بمتاهة لا نهاية لها من الحزن الذي ينهش حواس الشخصية ولكنه في ذات الوقت كائن يوجد التماعات هنا وهناك تكسر تلك القتامة التي برع في ترسيخها مدير التصوير بين فورديسمان، تلك الالتماعات تتمثل في الشقيق والصديقة ومدير دار النشر، هؤلاء كانوا يضيئون تلك العتمة متفاعلين مع الشخصية الرئيسية.
أما اذا انتقلنا الى ما هو داخلي وذهني وعاطفي وهو الذي شكل تحديا بالنسبة للمخرج – وأي مخرج يقدم على هذا النوع من النصوص الروائية وما يجب ان يقوم به على صعيد الإعداد والاقتباس، فهو يخوض في عالم مشبع بالإحساس الأكثر ذاتية وخاصة من زاوية وجهة نظر الرسام وهو الأقرب الى الشاعر وكيف فتح الحزن الأبواب لتسلل كائن يسميه الشيطان في شكل غراب شديد الشراسة ينكل بذلك الاب المكلوم والغارق في الحزن فهو كما ورد آنفا بمثابة صوته الداخلي والرقيب والحارس.
في وسط هذه القتامة كأن ذلك الزوج الوفي قد أفاق بأن هؤلاء الذين يتكرر طرقهم لبابه محاولين الدخول الى المنزل تارة بادعاء زميل في العمل وتارة في هيئة رجل شرطة وثالثة في هيئة الزوجة الراحلة ومع ذلك لن يفتح الباب قط وهي سلسلة مشاهد بالغة العمق وغزيرة بالتعبير تكملها تلك الشراسة في الصراع مع كل ذلك الظلام الذي يحمله الغراب وهو يتسلل الى حياة الرسام ولكن ها هو عائد الى الحياة بكتاب مصور جديد لا تتسيد فيه تخطيطات الغراب بل تكتمل فرحة نشره بالمضي مع طفليه في مسار الحياة.
...
سيناريو وإخراج/ ديلان سوذيرن
اقتباس عن رواية ماكس بورتر "الحزن هو الشيء ذو الريش"
تمثيل/ بينيدكت كمبرباتش في دور الأب، ايريك لامبرت في دور الغراب، ليو بيل في دور الطبيب بودوين،
مدير التصوير/ بين فورديسمان
مونتاج/ جورج كراج
