No Image
منوعات

أسطورة الدكتور نازل كما يرويها الرفاعي

14 أبريل 2024
14 أبريل 2024

رغم أن كثيرين يعتبرون طالب الرفاعي أحد روَّاد القصة القصيرة الكبار، وعرَّابَها، وهذا حقيقي، حيث أفنى حياته في كتابتها، والتبشير بها، وخصص جائزة لها (جائزة الملتقى) صارت أهم جائزة عربية للقصة، إلا أن تجربته مع الرواية لا يمكن إغفالها، فهو من كتَّابها الكبار.

بحسبةٍ بسيطةٍ فإنه أصدر ثماني روايات، وتسع مجموعات قصصية قبل متتاليته القصصية "الدكتور نازل"، أي أنَّ الكفة تميلُ بضع جراماتٍ قليلةٍ لمصلحة القصة، وبالتالي يضع طالب الرفاعي قدما في أرض القصة وقدما في أرض الرواية، وهو يترك بصمة في الناحيتين، وتأتي متتاليتة القصصية "الدكتور نازل" لتؤكد هذا المعنى، أنه يُخلِص للفنَّين، حتى صار بإمكانه أن يزاوج بينهما في عمل واحد!

"الدكتور نازل" عمل تجريبي بامتياز. تستطيع أن تقرأ كل وحدةٍ منه على أنها قصة بمفردها، وتستطيع أن تعتبرها جزءا من عالم روائي كامل يقدِّمه لنا طالب الرفاعي. تستطيع أن تتعامل مع الدكتور نازل -الذي يرد ذكره في كل القصص تقريباً - على أنه شخصية واحدة، وتستطيع أن تتعامل معه على أنه عدة شخصيات، فيها ما فيها من نزعات الحقد والزيف والتملُّق والرغبة في الصعود السريع بقوة المال والرشاوى، والرغبة أيضا في التكويش على كل شيء، والقدرة على تبديل الأقنعة والوجوه بحسب الموقف.

ويمكنك أن تسأل: لماذا سمَّى طالب الرفاعي كل تلك الشخصيات باسم الدكتور نازل؟ وسوف أجيبك بأنه اختار هذا الاسم لأنه يعني النزول باتجاه الأرض، أو السقوط في هاوية الأخلاق الرديئة، وسوف يجيبك طالب نفسه في نهاية المتتالية بأن الرقابة في الكويت اعترضت على نشر الكتاب، لأنه يدين كثيرا من الشخصيات في المجتمع بأسمائهم الحقيقية، وهو ما يُمكنُ أن يتسبَّب في مشاكل حتَّى للمؤلف نفسه، وبالتالي اتَّخذ قرارا بأن يُسمِّي جميع تلك الشخصيات المعجونة بالدناءة "الدكتور نازل" ليحصل على وعدٍ من الرقابة بنشر الكتاب.

يصنع طالب الرفاعي في مجموعته القصصية أو في روايته ما يشبه أسطورة للدكتور نازل، حتى قبل أن يروي حكايته، فالناس العاديون والمثقفون في الكويت عرفوا بنيَّة طالب في تأليف كتابٍ كاملٍ عن "الدكتور" نازل، فتبرَّعوا بتدوين حكاياتهم معه في قصاصات وإرسالها لطالب أو سردها عليه شفاهة، أي أن طالب استعان بمجموعة مؤلفين معه، ليرسموا صورة أو صورًا - قد تبدو للوهلة الأولى - واقعية، لكنها بمزيد من التأمل تبدو مجنونة، جنون الفن الساحر، القادر حتى على أن يجعلنا نتصالح مع الدكتور نازل بكل خسَّته ورغبته في تحطيم أي شخص لا يدين بأفكاره، ولا يُعجَبُ بمخططاته، ولا يؤدي الدور المطلوب منه، حتى لو كان هذا الدور هو تسليم الرشاوى بانتظام إلى الموظفين الكبار في الدولة، أو كتابة المقالات نيابة عنه، لتُنشر باسمه في مجلته الخاصة أو في المجلات والصحف الأخرى، حيث سنكتشف أن كتَّابه أكبر بكثير من عدد مقالاته!

والمؤكد أن من يقرأ مقالي هذا يتساءل ماذا يفعل الدكتور نازل ليقرر طالب الرفاعي أن يُخصِّص له عملا كاملا؟ أو لكي أكتب أنا عنه وكأنه أسطورة؟

منذ الصفحة الأولى نعرف أنه كان طالبا جامعيا فاشلا يتنقَّل بين عدَّة كليات، حيث لم يتجاوز النجاح بخمس مواد، ويُجبِر صديقه (طالب الرفاعي ربما) على أن يسحب أوراقه من الجامعة وأن يقدِّما معا أوراقهما إلى كلية بأمريكا. نشاهد كيف يسيطر نازل على مستر رايت مسؤول التوظيف بالجامعة بالهدايا، كالساعات الرولكس، وبما أن صديق نازل نجح وصار دكتورا انتهت ثورة الأم على نازل إلى الأبد، بل صارت تدعو له كما تدعو لابنها، لتنتهي القصة بذلك المشهد الموحي، حيث يتكرر إعلان واحد أكثر من مرة أمام عيني طالب الرفاعي يقول "تعلَّم النجاح في ثلاثة أيام. دورة تدريبية تفاعلية بشهادات معتمدة. مع البروفيسور نازل نضمن لكم التفوق والتميز".

ثم نشاهد وجها آخر لنازل رجل الأعمال الذي يذهب إلى دبي ليتفقد أحوال شركته ويقع في غرام امرأة بلجيكية، ويقرر الزواج منها، لكنه ينساها في لمح البصر، حين يرسل إليه صديقه على الواتساب صورا لأخته. يسأل الدكتور نازل صديقه عن هذا (الصاروخ) فيقول له إنها أخته، وهكذا تنجح حيلة الصديق - بناء على رغبة أمه - في اصطياد عريس لأخته، رغم معرفته بأن هذا العريس لا يتورع أبدا عن إلقاء السيدات في سلة المهملات، كما يفعل مع البلجيكية، حيث يرسل إليها اعتذارا وهدية ثمينة ثم ينهي وجودها بالـ"بلوك" إلى الأبد.

ولا يفوتكم أبدا أن هذا الشخص الشره للجنس، الذي يتنقَّل بين امرأة وأخرى كما تتنقَّل النحلة بين الزهور، لا يتوقف عن ترديد الأمثال الحكيمة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مرتديا قناع الرزانة والعفَّة.

ثم نشاهد وجها آخر للدكتور نازل، وجه رجل الأعمال الذكي، الذي يسيطر على دولة كاملة بالبخور، ويغسل أمواله ويكسب ملايين الدولارات.

يفتح الدكتور نازل أبوابه أمام الجميع خصوصا أقرباءه، ويحدث أن تتوسط امرأة لزوجها، أو تجبره على أن يُرسل له طالبا تعيينه في وظيفة تنتشلهم من الفقر. يذهب إليه الرجل، ويعرف بعد فترة أن مهمته بسيطة وهي أن يذهب إلى عنوان معين حاملا هدية، وحين يسمع جملة "السلام سلامات أخي الكريم" يقدم الهدية لقائلها، ويبدو أن الراتب الكبير الذي أدار ذهن الموظف وزوجته أمات ضميرهما، فلم يكترثا لهاجسٍ طاردهما بأن تكون كل هدية مجرد رشوة لموظف كبير، المهم أن الزوج يحصل الآن على راتب وزير، وأن الأسرة لم تعد مهددة بالعوز، لكن لمجرد خطأ صغير، لا يتردد الدكتور نازل عن فصل الموظف ووأد أحلام تلك الأسرة.

وتبلغ ذروة جنون الدكتور نازل أو عبقريته حينما يقرر فجأة أن ينشئ في شركته إدارة لشؤون الكذب العالمي، فالعالم من أقصاه إلى أقصاه يكذب، المفكرون والفلاسفة والمسؤولون ودكاترة الجامعة والكُتَّاب والصحفيون وممثلو هوليود ورجال السياسة والاقتصاد والرياضيون ورجال الدين كلهم يكذبون، وقد "تبوأ الدكتور نازل بالإضافة إلى مناصبه الكثيرة منصب المدير العام، فالرجل مشهود له بقدرته الفائقة على ترتيب أفكاره الكاذبة، حتى إنه لا يمكن لأي خبير أن يميز صدقه من كذبه".

لا حدَّ لقدرات الدكتور نازل، أو لرغباته، وهو على قلة مواهبه -عكس ما يدعي - يريد أن يحصل على كل شيء، أن يصبح رجل أعمال، وعاشقا، يصطحب سكرتيراته معه في رحلاته بحجة العمل وينفذ مآربه برضاهن ورضاء أزواجهن غالبا، يريد أن يصبح فيلسوفا لكنه لا يكف عن ترديد كلام الآخرين كالببغاء، يريد أن يصبح كاتبا لكن على جميع كتبته أن يخرسوا نظير ما يغدقه عليهم من مال، يريد أن يصبح إنسانا رحيما رغم ضحاياه في كل مكان، ورغم أنه يدعو الله - في كل حين - بألا يرفع وباء الكورونا عنا، فشركاته استفادت من حمَّى الشراء التي انتابت الكويتيين. إنه يحب كل البشر، رغم أنه قد يكره فقط المصريين، وربما البنجلاديش، وربما الهنود، وربما كل الغرباء. إنه يحب وطنه الكويت لكنه يخشى عليه من الكويتيين أنفسهم، إنه يريد أن يصبح كاتبا حقيقيا رغم أنه يخشى على بلده من الكتَّاب.

عمل ماتع، يمكنك أن تقرأه باعتباره سيرة للدكتور نازل، أو كتابا عن التحولات التي جرت للمجتمع الكويتي، أو مجموعة قصصية، أو رواية.

كتاب مختلف بطله شخص واحد أو مائة. كاتبه مؤلف واحد أو مجموعة. كتاب يترك في نفسك تأثيرا قويا، تغلقه لكنه لا يغادرك بسهولة، فقد أصبحت جزءا من عالمه وأسراره، ومحاذيره. كتاب رائع لطالب الرفاعي المبدع صاحب التأثير الكبير.