1974172
1974172
عمان الثقافي

يوميات الحرب.. نجونا لكن لا نعدكم بالنجاة دوما

27 أبريل 2022
27 أبريل 2022

من عاش هنا فقد عاش بالصدفة، فالأصل ربما التعرض للموت، أو الإصابة أو الاعتقال، ولا ندري كيف نصف من قُتل، هل كان من العادي أو الصدفة؟ هو سؤال تراجيدي فعلا، لكن ما هي تراجيدية أكثر الإجابة!

لكل منا ما وهب في هذا المكان، وما وهبته الحرب من موت أو حياة محاذية له، على حرف، كأن شعرة تفصل عالم الموت والحياة.

لي، وأنا من هذه المكان، سرديتي، فقد تعرضت للموت جنينا، وأبا، حين كنت أتجنب الحاجز العسكري الذي كان يفصل بيتي عن عملي، إذن فقد بدأت يوميات الحرب قبل مولدنا، وما زالت، والمأساة أنها تستمر بتّوارث..

ترى ما المسافة بين الخاص والعام؟

كان يوما حزيرانيا، الرابع منه، حين سمع أهل القرية عن اندلاع الحرب من المذياع، فراحت أختي الكبرى تنادي والدي، الذي كان يعمل منذ الفجر في كروم العنب تحضيرا لموسمه بعد شهرين، يصل الوالد ليجد الناس قد انطلقوا إلى الجبال خوفا، في حين راح آخرون ينتظرون إعلان الجيوش العربية للتوجه غربا نحو أجزاء الوطن المستلب قبل 19 عاما للاحتفال بالنصر في يافا. لم تمرّ ساعات حتى بدأت الطائرات الإسرائيلية تحلق على ارتفاعات قليلة فوق قرى جبال القدس، تبث الذعر. بقي والدي مع جدتي أم يقين، ولم يقبل ترك البيت، حيث إنه اختبر الحرب الأولى عام 1948، فما زال نادما على ترك بيته الثاني هناك في «سلبيت» قرب مدينة الرملة، فإلى أين سيمضي الآن؟

كان نصيب أسرتي مغارة «أم السخنة»، الأطفال سعيد ويسرى ونصار وناصر ومنصور ونعمة، ووالدتي، أما كاتب هذه الأسطر فكان في الشهر السادس في بطنها، وكاد ألا يتم الحمل، بل كادت أن ترحل أم الأطفال عندما وقع جزء من صخر المغارة عليها، لكن تتلطف الأقدار فتنجو الأم، وجنينها.

يبعث والدي قريبا لينادي على أسرتنا لتصعد الجبال للعودة إلى القرية، حيث إن فضاء بيتنا وساحاته صار ملاذا لأهالي القرى الغربية المحاذية لفلسطين عام 1948، (أو ما اصطلح إسرائيليا عليه بما يسمى بالخط الأخضر) فنحن اللاجئين الباحثين عن ملاذ صار بيتنا ملاذا.

في يوم ربيعيّ، ونحن نرعى شياهنا، هتف طفل لنا بأنه توجد هنا مغارة اسمها «أم السخنة»، كنت فتى شغوفا، وكنت قد سمعت روايات من الوالدة والأخوة والأخوات، تركنا شياهنا ترعى واتجهنا بسرعة، وصلنا وانتبهت لبابها شبه الدائريّ الضيّق، وقفت ببابها، فظهرت أمامي أمي الحامل بي، والأطفال والأسر، وأول ما فعلت هو النظر إلى أعلى المغارة، منبها الأطفال حتى لا تسقط صخرة أخرى علينا. اندفع أحدهم يبحث عن رصاص تبقى من الحرب.

في الطريق بين الجيب والرام على طريق القدس، لم تكن الطريق سالكة، بسبب انتشار جيش الاحتلال الجديد، حيث ما زال بعض المجاهدين يطلقون النار بين الحين والآخر، ففي المكان معسكر أردني تم إجلاؤه، حين ذهب والدي وخالي عبد الله بأمي التي جاءها مخاض الولادة إلى مستشفى «الأوغستا فكتوريا» أي المطلع، أخبرهم الحارس بأن قسم الولادة قد تم قصفه من القوات الغازية أثناء حرب الأيام الستة، قبل شهرين، وأنه لم يُصلح بعد، لم تطل رحلة البحث، فهبطوا معا من ذلك المستشفى على رأس جبل الطور إلى وادي الجوز، حيث مستشفى الهلال في القدس، وهناك أبصرتُ النور، في حين راحت والدتي في نوم عميق بعد طول ألم وتعب وآثار حرب، نلت رضا الممرضة ومحبتها كوني الطفل الهادئ الوحيد وسط أطفال يبكون.

سأسير هناك بعد 19 عاما مع زملاء الدراسة باحثا عن المستشفى لأعلم أنه تم نقله لمنطقة «الصوانة» في طلوع جبل الطور، حيث بلدة الطور، ثم لأسير على درب السيد المسيح حين هبط إلى القدس راكبا أتانه قادما من صومه في أريحا، بعد حادثة التجربة على جبل قرنطل، حيث استقبله الأهالي بأغصان النخيل، فصار سبت النور مذكرا بهذا الحادث.

أمي، الثلاثينية وقتها، في صيف حرب عام 1967، تذكرت هي حرب عام 1948 حين كانت عروسا، وكيف تم طرد الفلاحين بقوة السلاح، تاركين البيادر ملأى بشمائل (جمع شمال) القمح والشعير وحبوب أخرى، أمي التي أورثتني مهارة السرد، روت لنا عن اللاجئين واللاجئات، من مدينتي الرملة واللد، وسأسمع فيما بعد شهادات مؤلمة، لربما فقط أستطيع ذكر بعضها، عن أقدام النساء اللواتي تنزّ دما من السير في الجبال بحثا عن ملاذ آمن.

وكلٌ قصته مع الحروب، فأبي الذي كاد أن يقتل في حرب عام 1948 حين تسلل من بيتنا في جبال القدس إلى بيتنا في سهول الرملة وتلالها ليأتي للأسرة ببعض القمح، لاذ إلى مغارة مرتفعة، حين أطلقت العصابات الصهيونية نيرانها تجاهه، فانتظر سواد الليل ليرتديه وهو العارف بتفاصيل الجبال وصخورها ودروبها الجبلية عائدا إلى والديه، وهو نفسه كان ابن العامين، حين دخلت القوات البريطانية منطقة القدس، حين بعثه جدي ذياب منصور، الشاويش في الجيش التركي، إلى دير ألماني تأسس لذكرى لقاء المسيح بتلاميذه بعد أن قام في قرية القبيبة جنوب القرية طلبا للأمان، لعل الغزاة الجدد وقتها يحترمون الدير، ففوجئ من ينظر تجاههم يرعى تسلقهم للجبل، بـ«قلة» أي قنبلة كبيرة من الجيش التركي تجاه القوات البريطانية، تروي جدتي نجيبة العبد الله أنها شعرت بأنها طارت ووقعت على الأرض، تنجو جدتي وطفلها، ليتابعا الرواية، حيث إن المصري الذي كان مجندا جبرا عنه في الجيش البريطاني، لم يكمل مواله، فارتقى إلى رب رحيم:

يا عزيز عيني وأنا عايز اروح بلدي

...وأضم محمد ولدي

سأرتقي الجبل ذات نهار متذكرا تلك الحادثة باحثا عن ذلك المكان الذي كاد أبي الطفل وجدتي أن يلاقيا حتفهما، هناك نظرت إلى الجبل المقابل على طريق منطقة «اللطرون» حيث نصب الأتراك مدفعا ضخما، فقد وقعت إحدى جبهات الحرب العالمية الأولى في فلسطين، وهكذا رحت أرجع للكتب وللروايات الشفوية من الكبار عن الكبار، في تلك المنطقة مقبرة تضم عامر ابن الجراح (أمين الأمة) الذي توفي في مرض الطاعون.

وسيكبر الطفل بضع سنوات وهو يسمع عن تلك الحرب، التي ولد بعدها بشهرين، لم أكن وقتها أعرف أن نصف أهل قريتنا قد رحلوا خوفا إلى شرق نهر الأردن، ومن بينهم أختي الكبرى، التي واريناها الثرى قبل شهرين، فلم أدر ونحن في مقبرة «شفا بدران» غرب العاصمة الأردنية، هل كنت أبكيها أم أبكي كل من قضى بعيدا عن بلاده.

فلسطين الحبيبة كيف أغفو وفي عيني أطياف العذاب

فلسطين الحبيبة كيف أحيا بعيدا عن سهولك والهضاب

كنت عندما أصل هذا البيت أبكي وما زلت:

تناديني السفوح مخضبات وفي الآفاق آثار الخضاب

كان لدى الشاعر عبد الكريم الكرمي «أبو سلمى» أمل بالعودة، ولكن منذ مايو 1948، واللاجئون يموتون خارج بيوتهم، وبدلا من أن تكون حرب 1967 مخلّصة، فقد ضاعفت أعداد اللاجئين، ومنهم أختي التي رافقت زوجها إلى شرق الأردن، والتي لم تعد إلا زيارة قصيرة بعد اتفاقية أوسلو للسلام الذي لم يتم، فلم يكن ليبدأ أصلا ليتم.

غدا سنعود والأجيال تصغي

إلى وقع الخطا عند الإياب

كانت مشاعر حرب 1967وذكرياتها، تظهر في أيام العيد، حيث يتذكر الباقون الذين رحلوا تاركين البيوت مهجورة إلا من أعشاش العصافير، كنت أفرح قليلا مع الأطفال، لكن لم نكن نحب العيد فعلا، فلم نكن قادرين على تفسير دموع الأهل، فحينما كان والدي يزور عمتي، لم أكن أرى التهنئة، كنا نضع نحن الأطفال علبة الحلوى جانبا، في حين يمسح والدي وعمتي دموعهما، سنعرف بعد سنوات السرّ، فقد استشهد ابن عمتي بعد الحرب حيث كان فدائيا إضافة إلى كونه طالبا في جامعة دمشق.

في يوم رمضاني، سمعنا في الراديو عن حرب أخرى، لكن لم نكن نرى سوى الطائرات في السماء، كانت حرب رمضان عام 1973، كنا نأكل بعض الخبز في «الفرصة» في ملعب المدرسة، وعيوننا تنظر إلى السماء حيث الطائرات، كنا نشعر أحيانا أننا في لعبة، كنا أبناء وبنات ست سنوات، لم نعش الحرب السابقة، ولا هذه الحرب.

كان أخي الأكبر طالبا في كلية طب جامعة القاهرة، وكان قد سافر قبل يوم واحد من بدء الحرب، فصرت أربط بين مصر وأخي، هل يرى أخي منصور الحرب هناك؟ وسوريا أين هي؟ من يومها صرت أحب كتب التاريخ، بالرغم من كثرة أسئلتي لم أكن أتلق أجوبة لا في البيت ولا في المدرسة.

سنعيش تحت الاحتلال أطفالا، ونرى مسيرات جنود الاحتلال الصامتين إلا من اللاسلكي «المخشير»، متعجبين كيف يتحدث الجنود من خلاله مع آخرين بعيدين لا نراهم بدون سلك! أصبح الجيش الذي لا يقهر يعاني من المقاومين، ومن عمليات الفدائيين، فشهدنا اعتقالات شباب من القرية، وظلت الاعتقالات مستمرة طوال عمري وأنا أودع الـ55 عاما، لكن سيظل للاعتقالات الأولى وقعها خاصة لابن عمي ثم ابن خالتي، ثم استشهاد أحد الأقرباء في المعتقل في أول الثمانينيات.

كان عام 1979، فاصلا في حياتنا حين شهدنا انتفاضة لأسابيع، شهدت إضرابات ومظاهرات ضد ما سمي وقتها بالحكم الذاتي الذي تم اقتراحه على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسنسير هاتفين مع الطلبة الثانويين الأكبر منا:

فليسقط مناحيم ميسلون

رئيس الإدارة المدنية (العسكرية فعلا)

يا شباب انضموا لينا

بسام الشكعة غالي علينا

وبسام الشكعة رئيس بلدية نابلس الذي تعرض للغم هو وكل من كريم خلف رئيس بلدية رام الله، من خلال جماعة يهودية متدينة عرفت «بغوش أمونيم» المتطرفة والسرية، لذلك فقد أضربنا ما يقارب الثلاثة أسابيع تضامنا، علما أننا كنا نفرح بهذا الإضراب للتخلص من واجبات المدرسة، كنت ابن 12 عاما، لم تكن المظاهرات حربا كما نرى بالتلفزيون.

في كل عام مدرسي جديد، كنا على موعد مع الإضرابات، خصوصا في المناسبات الوطنية، وبالطبع كان المنهاج يخلو من كل ما هو فلسطيني، فقط تعلمنا من الكبار وبعض ما تيسر من كتب لم يصادرها الاحتلال بعد، حيث كان يصادر كل ما له علاقة بتاريخ فلسطين وجغرافيتها وشعر شعرائها ورسومات الفنانين، وسنقرأ في الصحف عن مهاجمة الاحتلال للمسارح ومعارض الفنون وإلغاء المباريات الرياضية.

سنبحث أطفالا عن أشعار محمود درويش وسميح القاسم، فلا نجد غير القليل، فننتقل إلى القدس فهناك دواوين يمكن شراؤها، سنحب الشعر وحب الوطن، وفي كل عام سنتعرف على أسماء الكتاب والأدباء الذين كتبوا عن فلسطين ولفلسطين.

حتى كان يوما شتائيا ونحن ندخل العشرين من العمر، خلال بضعة أيام فقط، انتقضت فلسطين هنا، في حالة لولا أنني شهدت جزءا منها لما صدقت، تلك كانت ملحمة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجر!

هل نصفها بالحرب؟ هي كذلك، لكنها طالت واتسعت وتنامت وأبدع الكل الفلسطيني في النضال الذي كانت الشجاعة سفرا مهما فيها، فانتشرت أخبار البطولة، وتغلب الكفّ على المخرز!

مرة أخرى، سيقتحم جنود الاحتلال بيتنا حين كنا نغط في نوم بعد الظهيرة، كي ننزل الأعلام الفلسطينية، فيرفض أخي الأكبر، فيضربه ضابط الاحتلال بـ«دبسة» هراوة، فيصاب، ليعتقل وأمي تبكي أمام البيت، مرّ كل ذلك في دقيقة، لمت نفسي لأنني، وهذا ما لا يعرفه أحد حتى الآن، أنا من علق العلم على أسلاك الكهرباء وأنا عائد ليلا من دار أختي، ووقتها حدث تحول فكري وسياسي في حياتي تجاه الأيديولوجيات والأفكار باتجاهات نقدية أثّرت على مسيرتي في الحياة والكتابة.

من هناك، إلى مصر للدراسة في كلية الآداب، حيث سأظل على اتصال بأخبار الوطن، وأغيب عامين، ثم لأزور البلاد وقد تغيرت تماما خلال ثلاثة أعوام من الانتفاضة التي بدأت آخر عام 1987، وهناك نشاهد محطة مدريد والمؤتمر الدولي للسلام عام 1991.

وما أن تنتهي السنة النهائية حتى أعود، لأعمل معلما، لتبدأ مرحلة أوسلو عام 1993، التي سنكون شاهدين عليها وبين ضحايا السلام المزعوم، لأعمل محررا صحفيا عام 1995، ثم أصبح أصغر محرر ثقافي، لكن لا سلام يحل، بل حرب تطول، من انتفاضة النفق، إلى سلسلة انتفاضات صغيرة ضد الاستيطان الذي استمر، ولم يكد سبتمبر عام 2000 ليطل، حتى اندمج الكل الفلسطيني في انتفاضة ثانية، عانق فيها الحجر الرصاص، فكانت دامية جدا، وظلت عيوننا دامعة طويلا.

شخصيا، كان زواجي في عامها الثاني، وكم كانت مخاطرة الإتيان بعروسي، الفنانة التشكيلية رانية العامودي، وما لقيناه من أهوال ومخاطر، وكان الوصول بالعروس حدثا، ثم لنقضي ما تبقى من ليلة العرس في اشتباكات بين الشبان وجنود الاحتلال الذين هاجموا القرية المسالمة، كنت أنظر من الشباك للاطمئنان على الشباب، ومرت الليلة بسلام، لكن بقي أثر رائحة البصل الذي نصحنا بشمه حينما تم إطلاق قنابل الغاز، وما زلت أتذكر كيف ركضتُ والعروس من بيت أبي إلى بيت الزوجية.

لكن الحب انتصر، وأثمر الزواج عن التوأمين محمد وأسماء، وسأدعو الله كل يوم وأنا أودعهما للذهاب من بيت دقو غرب القدس إلى رام الله، بأن أعود سالما، إلى أن يكون نهارا كدت أموت فيه خنقا، لم يكن غازا مدمعا ذلك الذي ألقاه الجنود على من يدورون حول الحاجز لتجنبه، للوصول إلى البيت، كنت قد اختبرت الغاز المدمع كمئات الآلاف من الفلسطينيين، لكن هذا شيء آخر، فتذكرت ما كنت أحرره في الصحيفة، وها أنا الآن أختبره، ووقتها قلت هل سأنجو حيث استشهد آخرون بسببه!

ركضت بعيدا عن الشارع وهبطت إلى كرم أشجار، جلست تحت شجرة وأخذت أتنفس بصعوبة، لكن بإصرار على الحياة، وعيوني وقتها لا ترى غير محمد وأسماء اللذين لم يكملا العام بعد.

وكما ترون فقد نجوت، لكن لا أعدكم دوما بالنجاة، التي قد تكون صدفة!

وهو ما ذكرته لأسرتي بعد أعوام ونحن نمر من هناك حين صار التوأمان 10 سنوات، وأحمد الذي جاء بعدهم بعام، فهل سنكرر الحكاية نفسها لسارة طفلتنا اليوم ابنة العشر سنوات؟

نجوت، كما نجوت جنينا وكما نجت أمي وأبي وكثيرون، رحلوا أو ما زالوا، إنها الحرب لا تسقي إلا الدموع والألم، تلك الحرب المفروضة علينا، ونحن ليس لنا إلا أن نعيش!

و«سنحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا» كما أحبها محمود درويش.

تحسين يقين كاتب وأديب فلسطيني فاز كتابه «برتقالة واحدة لفلسطين» بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات.