No Image
عمان الثقافي

يحيى سلام: اللغة هي الأداة التي تصنع القصة، كما الريشة التي ترسم اللوحة

28 ديسمبر 2022
الكاتب الذي يفتح صندوق الحنين تحريضا للكتابة
28 ديسمبر 2022

- كلما تقدم الكاتب في العمر بطبيعة الحال تكثر تجاربه وتتشابك، وتحضر بقوة في النصوص

- التصاق الواقع بالخيال لا بد منه في السرد، فالقارئ أيضا يهمه أن يجد ما يمثله ويخصه

- أبتكر الشخصيات المتخيلة لتتجسد ككائن يتحرك ويتكلم في القصص

- الكتابة الناجحة هي التي تسعد وتفيد القارئ وتترك أثرها عليه، بغض النظر عن نوعية شخوصها

- نهاية القصة هي عنصر مهم، وأحرص على صياغة نهاية لا يتوقعها القارئ

- القصة العمانية القصيرة بحاجة إلى مزيد من الانتشار ليعرفها الآخر

عندما أوصيت صديقا عزيزا بأن يُحضر لي «وقت قصير للهلع» المجموعة القصصية الجديدة للقاص يحيى سلام من الشارقة توقعت أنني سأجلس لقراءة عدد وفير من القصص، ثم اكتشفت أن المجموعة تضم ثلاث قصص فقط لكنها طويلة، خطر ببالي أنه ربما هكذا يودع القاصون القصة القصيرة إذا ما حضرت نية السفر إلى الرواية في قلوبهم، وبالنسبة لي أن نفقد قاصا رائعا أمر مخيف، فكيف إذا كان قاصا مهمًّا! فسألت يحيى سلام عن ذلك فقال مُطَمئِنا إنها فكرة وإن راودته فهي ليست بهاجس في الوقت الحالي، قبل أن يضيف: «ربما ستكون كذلك.. من يدري؟»، وقبل أن تستقر فكرة كتابة الرواية الأولى عند واحد من أهم كتّاب القصة القصيرة في عمان قررنا أن نتوقف للحديث عن آخر مجموعة له «وقت قصير للهلع» التي ضمت قصة «الإصبع» و«غليان الشاي» و«صندوق المفاجآت الملونة»، فكان هذا الحوار.

• إلى أي حد كان للواقع دور في صناعة أحداث هذه القصص؟

سؤالك ذكرني بقصة طريفة لدوستويفسكي عنوانها «التمساح» بنيت أحداثها على فكرة متخيلة عن تمساح يبلع إنسانا ويظل حبيسا في جوفه، وأتاح السارد له أن يتحدث من جوف التمساح ويطرح أفكارا وتأملات عن الواقع، وهنا لا أنسى أيضا قصصا خالدة وموغلة في الخيال والرمزية كالأنف لجوجول والصرصار لكافكا. عموما الذي أريد أن أقوله: مهما بلغ الخيال ذروته في القصة، ومهما شطح الكاتب في اختراع الأحداث والأفكار غير المباشرة والموغلة في الرمزية، فهو بلا شك يعتمد بشكل كبير على الواقع، لأن الواقع بحد ذاته غريب وعجيب. وبالرغم من أن أحداث القصص الثلاث في كتابي الأخير متخيلة ومبتكرة لكنها استفادت بشكل كبير من الواقع وتأثير حكاياته علي ككاتب، وعلى سبيل المثال قصة الإصبع بدأت بحدث قصير جدا سمعته ذات مرة من طبيب عن رجل طلب رسم دائرة في قدمه حتى لا يحدث خطأ أثناء إجراء العملية، ذاك الطبيب رمى هذا الحدث على مسامعي في جملة واحدة، ولم يتحدث عن تفاصيل أخرى، التقطته مستغربا طلب المريض، وبدأت أتذكره مرات عديدة، ظل يطاردني لأيام، أثار في نفسي دهشة ما، تأملته مليا، تساءلت عن سبب هذا الطلب، عن دور الخوف والوسواس في طلبه، في الأخير كتبت الفكرة الأساسية وتناسلت منها أحداث القصة. وهذا يعتبر أسلوبا أو طريقة للاستفادة من أحداث الواقع الغريبة والصادمة، تلك التي تحفز على الكتابة وخلق عوالم قصصية، وهناك أمثلة أخرى تعتبر عكس المثال الذي ذكرته، كابتكار الفكرة الأساسية للقصة وقد تكون غريبة، ومن ثم ربطها بمشاهد تستند في أحداثها على الواقع المعاش.

والتصاق الواقع بالخيال لا بد منه في السرد، فالقارئ أيضا يهمه أن يجد ما يمثله ويخصه من مشاهد ومواقف في ثنايا القصة القصيرة أو الرواية.

• من يقرأ القصة الثانية في المجموعة والتي جاءت بعنوان «غليان الشاي» يشعر أنك كتبتها بحس المقاول، إلى أي مدى خبرة الكاتب في مجال معين تخدم في كتابة مغايرة؟

بطل القصة وظيفته بنّاء منازل، فكان لا بد من الاستفادة من عوالم بناء المنازل، وشخصيا عايشتها، ولا أعتقد بأن القصة كتبت بحس مقاول، فالتقنية الفنية التي بنيت عليها القصة اعتمدت على ساردين اثنين؛ الأول هو العامل من خلال يوميات كتبها واصفا بيئة وحكايات عمله وزملاءه ورئيسه وغيرهم، والثاني هو السارد الراوي في الجزأين الثاني والثالث من القصة، ذلك الذي عثر على اليوميات وترجمها. وخبرة وتجارب الكاتب لهما دور كبير في الكتابة، فهي تمثل الوقود التي تشعل الحكايات والأفكار والرؤى، فالتجارب لا تأتي إلا من معترك الحياة ومتاهاتها، وكلما تقدم الكاتب في العمر بطبيعة الحال تكثر تجاربه وتتشابك، وتحضر بقوة في النصوص، ولا يمكن أن تتجلى وتُوجد إلا بالقراءة المكثفة، لأن تجارب الحياة في الفن ستكون باهتة وعادية بدون ثقل القراءة.

• هناك حالة من الشك وعدم التحقق من هوية الشخصية في الأجزاء الأخيرة من القصة الثانية والثالثة، هل لهذا مغزى؟

يمكن اعتباره نوعا من أساليب الكتابة والحيل الفنية التي أهدف منها مشاركة القارئ في صنع الحدث، وربما حثه على أن يفكر ويبحث عن استنتاجات. ففي القصة الثانية نجد السارد واقع في متاهة الشك، فهل يصدق اليوميات أم يقتنع بإفادات الفورمن المناقضة لليوميات، القصة تترك للقارئ صنع تفسيراته ومساحة لربط الأحداث للوصول إلى حقيقة ما، وفي القصة الثالثة السارد حينما شاهد شخصية تشبه بطلة القصة طرح سؤالا وهو عبارة عن خيط يجر القارئ للتأكد من شخصيتها والقارئ الذي قرأ القصة جيدا حتما سيعرف ما هو هذا الخيط.

• من أين يستلهم يحيى سلام شخصيات قصصه؟

هناك ثلاثة مصادر، وهي الواقع وذات الكاتب والشخصيات المتخيلة؛ فالواقع له دور كبير برفد الحكاية بالشخوص، ففي حياتنا اليومية نصادف العديد من البشر بصفاتهم وأطباعهم المختلفة وصراعهم مع الحياة بخيرها وشرها، وحتى الحيوانات والطيور والحشرات تحضر في الحكايات فهي تعيش بيننا. والمصدر الثاني هو ذات الكاتب حينما تتقمص أداورا معينة كالراوي، أو الطفل، أو السارد العليم، أما الشخصيات المتخيلة هي البعيدة إلى حد ما عني ككاتب، لم أعايشها، ويمكن أن تكون موجودة في الواقع، أو مرت في الأحلام والكوابيس، فأبتكرها لتتجسد ككائن يتحرك ويتكلم في القصص.

• هل الكتابة عن المهمشين والمنبوذين تنجح في تحقيق تعاطف القارئ برأيك؟

الكتابة الناجحة هي التي تسعد وتفيد القارئ وتترك أثرها عليه، بغض النظر عن نوعية شخوصها وأبطالها، وكل ذلك يعتمد على رؤية وثقافة القارئ، وإيمانه بأهمية الإبداع السردي ومدى تأثيره في الحياة.

• قد يتكرر الموضوع عند يحيى سلام لكن الكتابة تختلف، ما الذي يغريك في العودة إلى الموضوع أكثر من مرة؟

لا يوجد تخطيط لطرح مواضيع كتبت عنها في قصص سابقة، هي هكذا تأتي ربما نتيجة تكرارها في حياتنا وتعايشنا معها، وبالتالي تسرد فنيا وفق رؤية جديدة ومغايرة بناء على تراكم الخبرات والتجارب، ومن أمثلة المواضيع التي دائما تتكرر في كتاباتي هي تلك التي تجسد الطفولة، لأنها تحتوي على مخزون حكايات لا ينضب، تلح علي بين فترة وأخرى محاولة فتح صندوق الحنين الذي بداخلي لتحرضني على الكتابة، فأراها تستمر معي بأشكال طرح مختلفة، فنحن جميعا نعي جيدا آثار فقدانها، وكيف نحاول استحضارها في مخيلاتنا، وبالتالي في السرد.

• نهايات القصص في المجموعة مفاجئة، هل تفكر فيها طويلا أم أنها تأتي عفوا؟

بالنسبة لي نهاية القصة هي عنصر مهم، وأحرص على صياغة نهاية لا يتوقعها القارئ، طبعا هذا ليس دائما لأن ذلك يعتمد على أحداث القصة وتسلسلها، فبعض القصص لا يمكن أن تكون نهايتها إلا تلك التي تحتمها مسارات الحكاية، وبعضها نهاياتها مفتوحة، وهي الأنسب لجعل القارئ شريكا في صنع نهاية حسب تفسير وفهمه للأحداث، وكم هو ممتع بأن يكتشف الكاتب نهايات لم تخطر على باله حينما يقترحها عليه قارئ حذق.

• لا خطية الزمن والبدء من الحدث الأوسط، لماذا اعتمدت هذه التقنية في السرد في أكثر من قصة؟

أنت تشيرين إلى القصة الثانية والثالثة، حيث اعتمدت في كلتيهما على مشاهد مجزأة ومتصلة في الوقت نفسه، ويمكن قراءة كل جزء أو مشهد كقصة منفصلة مكتملة الأركان إلى حد ما، ولكن حدثها لم ينته، حيث أن كل جزء يشعل لدى القارئ أسئلة ورغبة في اكتشاف المزيد من الأحداث، فهو يريد أن يصل إلى مرحلة الشبع، يريد أن يجمع المشاهد المقطعة ويركبها ليصل إلى الصورة المكتملة، صورة الحكاية، وهذا الأسلوب مفضل لدي أكثر من غيره، لأن عنصر التشويق فيه حسب وجهة نظري أقوى من الحدث الذي يعتمد على زمن تصاعدي.

• لغتك المقتصدة، هل هي نتاج تشذيب بعد الكتابة الأولى؟ أم صنيعة الدربة الطويلة والخبرة في كتابة القصة القصيرة؟

الاثنان معا، فاللغة هي الأداة التي تصنع القصة، كما الريشة التي ترسم اللوحة، فلا بد من اللغة أن تمر بمراحل مراجعة وإعادة صياغة لأكثر من مرة، وهذا ضروري حتى وإن كانت خبرة الكاتب طويلة في التعامل مع اللغة، خاصة إذا وضع نصب عينيه الاهتمام بجودة النص الذي يكتبه وينشره فيما بعد، وبالنسبة لي كانت هذه الأداة الرائعة محل تجريب ممتع في كتابة القصص القصيرة، بدأتها بلغة تقترب من الشعر، مع المحافظة على روح الحدث والحرص على عدم تغييبه، فكان الهدف أن تكون اللغة هي الأقوى والأبرز بين عناصر القصة الأخرى، وبعد ذلك تعددت تجاربي وتعاملي مع اللغة بشكل متواز مع أسلوب الطرح والأفكار من كتاب إلى كتاب، وحتى الآن لم أصل بعد إلى الكتابة التي أطمح إليها.

• رغم نضج تجربة القصة القصيرة في عمان، لكنها لا تزال خارج منافسات الجوائز، لماذا برأيك؟

لا يمكن المراهنة على الجوائز في تقييم الأفضل في الكتابة، فالنص الإبداعي الناجح سيفرض نفسه سواء نال جائزة أم لا، والمسابقات كما نعرف تعتمد على لجان معينة لها نظرتها وقراءتها الخاصة قد يختلف معها الكثير، ولكن في الوقت نفسه، الجوائز تكشف في أحايين كثيرة عن مبدع له صوته المتفرد في الكتابة، ولم يكن معروفا، وتلك الجائزة التي استحقها ستقدم كتاباته إلى شريحة واسعة من الكتاب الآخرين والقراء والنقاد.

وإذا كانت تجربة القصة القصيرة في عمان ناضجة فلماذا تحتاج إلى جوائز ؟ ولكنني أرى بأنها بحاجة إلى مزيد من الانتشار ليعرفها الآخر وخاصة القارئ غير العربي، وهذا سيتحقق بتبني برنامج وطني لترجمة هذا الكم من الإبداع السردي في عمان إلى لغات أخرى، والعمل على خطط تسويقية طموحة توصل نتاج المبدعين العمانيين إلى العالمية.

•باعتقادك لماذا يجد كتاب القصة صعوبة في العودة إليها بعد الاتجاه إلى الرواية؟

هل هذا صحيح؟ لا يوجد ما يثبت ذلك، بمعنى أنها ليست ظاهرة، وإذا كانت كذلك فالدراسات هي التي ستعطي إجابات على إيجاد تفسير لها. وهناك كتاب كتبوا القصة القصيرة، وانتقلوا إلى كتابة الرواية ورجعوا مرة أخرى إلى كتابة القصة القصيرة، على سبيل المثال وليس الحصر جوخة الحارثي ومحمود الرحبي، والراحل عبدالعزيز الفارسي وحمود الشكيلي، وطبعا هذا يعتمد على الكاتب وقراره في الاستمرار في كتابة نوع واحد من السرد، ومن خلال اطلاعي القريب على تجربة كتابة الرواية في عمان أستطيع القول بأن أغلب الكتاب الذين أبدعوا في كتابة الرواية كانوا مبدعين في كتابة القصة القصيرة.