No Image
عمان الثقافي

أهم تمارين الكتابة عندي

24 أبريل 2024
24 أبريل 2024

ترجمة: أحمد شافعي

«اكتب عبارة تراها كريهة، عبارة لا يمكن أن تقولها أبدا».

كان الذهول يرتسم على وجوه طلبتي، لكنهم يتعاونون، مدركين أنني لن أجمع منهم هذا التمرين، وأن ما يكتبونه سوف يبقى شخصيا ما لم يروا هم إشراك الآخرين فيه. فكل ما كان مطلوبا منهم هو المشاركة.

كانوا في صمت يمضون في تدوين كلمات قلائل. وإلى هنا لا بأس، فلم نكن بعد بلغنا الطلب الصعب: اقضِ عشر دقائق في كتابة مونولوج بضمير المتكلم تقوله شخصية خيالية هي التي تنطق هذه العبارة المزعجة. وهذا الجزء من التمرين يستنفر في العادة نظرات متوترة، وحينما يحدث ذلك أذكِّر طلبتي بأن جملهم لا تمثلهم وأن حديثهم بصوت أشخاص آخرين يمثل مهارة أساسية من مهارات الروائيين. وأوضح أن الجملة المزعجة لا بد أن تظهر في المونولوج ولا ينبغي اختزالها ولا ينبغي أن يشعر الطلبة أنهم يطلبون المغفرة أو يتحملون المسؤولية. فالمطلوب ببساطة هو أن تأتي لحظة في ثنايا المونولوج -وإن تكن سطرا عابرا- يمكن أن نشعر فيها بالتعاطف مع صاحب المونولوج. فلعل صاحبه امرأة يعتريها القلق على حفيد مرض، ولعله رجل يسيطر عليه حب تركه يفلت من بين يديه، ولعله امرأة يؤرقها البحث عن سبيل للحفاظ على بقاء تجارتها ودفع أجور العاملين لديها، وفي حال أداء التمرين على النحو الصحيح فإنه يسدد لكمة مزدوجة: نفورا من سلوك أو رؤية مقرونا باعتراف بالمشترك الإنساني.

على مدار أكثر من عقدين أقوم بتدريس تنويعات من هذا التمرين على الكتابة الروائية. طبقته في جامعات ومدارس متوسطة وورش كتابة خاصة، مع أطفال في السابعة وشيوخ في السبعين. لكن في السنين الأخيرة، بات التعرض لهذا التمرين، وللوثبة الخيالية التي يرمي إلى تعليمها، مختزلا في وخزة إبرة، فمع ازدياد الغضب في الحوار العام في بلدنا، بت ألحظ أن تعامل الطلبة مع التمرين ازداد هشاشة، بغض النظر عن ميولهم إلى اليمين أو إلى اليسار.

في كل فصل دراسي أتساءل عما لو أن المنفذ الذي نسمح به لتمثلنا للآخرين قد ضاق ضيقا بالغا فما بات يتيح رؤية كاملة لإخواننا في الإنسانية. لعل بعض الأزمنة تبلغ من البغض أو الألم ما يجعل الناس ينغلقون ببساطة على أنفسهم في صوامعهم. مؤكد أنني أيضا شعرت بالانسحاب إلى نفسي، وثمة أزمنة تكون فيها الوثبة إلى زوايا الآخرين في النظر أقرب إلى المحال.

ولكن هذه الوثبة هي وظيفة الكاتب، ولا معنى للاكتفاء بنصفها فقط. فالأدب القصصي الجيد يقوم بحيلة سحرية ذات قوة عبثية: يجعلنا نهتم. فمن خلال الاستجابة لمتاعب شخصيات مخترعة - من قبيل آخاب أو أمارانتا أو سيث أو ستيفنز أو زووي أو زوربا ـ قد نذرف الدمع أو نطلق الضحكات أو تتواثب قلوبنا. هؤلاء الأشخاص يستثمروننا نحن القراء وهذا أمر مختلف تماما عن موافقتهم الرأي أو حتى الإعجاب بهم. وفي الأدب حين يبلغ أفضل حالاته تكون الشخصيات شديدة الحيوية، معقدة، متناقضة، بل ومثيرة للغضب ومع ذلك نمضي معها مبتعدين عن تصوراتنا المسبقة وفي بعض الأحيان لا نرجع.

وتمثُّل الآخر، وهو العضلة التي يرمي هذا التمرين إلى تدريبها، شرط مسبق للأدب القادر على معاركة العالم الحقيقي، فهو يتيح لنا على الصفحة أن نلمح علامات الإنسانية، وخارج الصفحة يمكن أن يعلمنا كيف نجري حوارًا مع أغرب الغرباء، وأن نبلي أحسن البلاء في ظل الاختلاف، بل إن بوسعه أن يؤثر في خيارات حياة أو موت نتخذها غريزيا في أوقات الأزمات، وهذا الضرب من التمثل والتعاطف لا علاقة له بأن نكون لطفاء، وما هو للمطمئنين إلا أمان ما يعرفون.

وحتى في حدود أمان الصفحة، ثمة غواية إلى أن تجتنب تحدي التمثل، بدلا من شيطنة الأشرار وتقديس الأبطال، لكن ذلك يحدث عندما تخمل الإبرة في البوصلة الأخلاقية. فحينئذ نبحر إبحار العميان، واثقين أننا نعرف كيف هم الأشرار، وأنهم ليسوا إيانا، وإذن فنحن آمنون من خطر الوقوع في الخطأ.

أما أفضل كتابنا في المقابل فيصورون البشر بكامل تعقيدهم. هذا ما تفعله جيش جين في قصة قصيرة بعنوان «من الأيرلندي؟» وما يفعله روهينتن ميتري في رواية «التوازن الهش». سطرا بعد سطر، يضيء أمثال أولئك الكتاب العوالم الداخلية للشخصيات المؤذية، وهذا يختلف عن الصفح عنهم. فلا أحد يقول مطلقا: إن توني موريسن تصفح عن تشولي بريدلاف الذي يغتصب ابنته في «العين الأكثر زرقة». ولكن ما تفعله موريسن بدلا من ذلك هو أجرأ ما رأيته في الكتابة من أفعال الفهم الأخلاقي والعاطفي.

في التمرين الدراسي، قد تكون العبارات المزعجة التي يدونها طلبتي شخصية (لن تصبح كاتبا أبدا ... أنت قبيحة) أو دينية أو سياسية. كتب طالب ذات مرة عبارة تدين الإجهاض فيما كتب طالب في الجهة المقابلة من الطاولة عبارة تدافع عنه. في بعض الأحيان تظهر التنميطات، والتشنيعات، وأي شيء يود الطلبة أن يتعاملوا معه. وبالطبع، من المزعج أن تضع نفسك في موضع غيرك ممن تنفر من أقوالهم أو أفعالهم. ولذلك فإن طلبتي عند كتابة هذه المونولوجات وهم من الخريجين الجامعيين الذين يعرفون ما معنى «ضمير المتكلم»، يراوغون ويكتبون بضمير الغائب، فيلجؤون إلى المسافة في «قال» بدلا من «قلت».

لكن في حال احتمالهم تحديات ضمير المتكلم، قد يحدث في بعض الأحيان شيء ما. يهتزون ويتلهفون على التوسع في ما كتبوه. وأرفع رأسي بينما أرتب أوراق ملحوظاتي فإذا بي أرى طالبا يتمهل بعد انتهاء الجلسة وإذني لهم بالذهاب وقد ارتسم على وجهه تعبير تحفز وإذا به يقول: إن التمرين أشعره بشيء كان يحتاج إلى أن يشعر به.

على مدار السنين، أصبحت عبارات طلبتي أشد سياسية واصطلاحية (البائسون ...الحساسون)، فحلت العبارات الرسمية محل لغة التجربة الشخصية، فعدَّلت التمرين. تخوفا من أن أكون مفرطة في التفاؤل بدموية الفخ، جعلت التمرين صامتا تماما، بحيث لا يسمع طالب عبارات غيره المزعجة أو يخشى من إصدار حكم عليه. ومن يريد عرض مونولوجه عليّ يمكنه أن يبقى بعد الحصة بدلا من أن يقرأها على المجموعة. ثم أضفت بعد ذلك تنبيها آخرا: إذا وجدت عبارتك المزعجة مهينة أكثر مما يجب بحيث لا تتخيل قائلها إنسانا مكتمل الإنسانية، فاختر عبارة أقل إزعاجا. ثم زدت نطاق المعايير ضيقا: لا سياسة. والحصص الافتراضية في فترة الوباء جعلت القبول بالمخاطرة أصعب، فأرجأت التمرين إلى وقت متأخر من الفصل الدراسي حتى يكون الطلبة أكثر ارتياحا.

حدث بعد إحدى الجلسات أن تمهلت طالبة في غرفة الاجتماع الافتراضية. كانت قد عجزت عن تمثل صاحب المونولوج بسبب تبنيه موقفا سياسيا تحتقره، واستاءت من عجزها ذلك، وأعجبتني أمانتها، فقد أنشأت صورة كاريكاتورية وعرفت ذلك، وأغلبنا يفعلون ولا يعرفون.

على مدى سنين كنت أؤدي التمرين مع طلبتي. في بعض الأيام لم تكن تخطر لي فكرة. لكن حينما كانت الأمور تسير على نحو طيب، كنت أجد التجربة مثيرة للقلق. ويتبين أن الشق الصعب ليس التمثل نفسه ولكن ما يترتب عليه، وهو فكرة قاتلة مفادها أن من أقدِّر مخاوفهم أو مباهجهم أو ظرفهم قد يكونون هم أنفسهم لا مبالين تماما بأعز مفاهيمي عن العالم.

ثم يعلو رنين نهاية الدقائق العشر وأعيد نفسي من جديد إلى عمل الفصل الدراسي، جافلة من اتساع العالم لكنني أكثر فضولا تجاه من فيه من الناس، وأنا أثق في فضولي، فأي خيار أفضل منه لأي منا؟ وفي أمان قاعة الدرس أظل أحاول أن أرد للأدب ما يعطيني الأدب إياه: تلك الحيلة السحرية البسيطة القوية التي يمكن أن يؤديها أي منا، طالما كان مستعدا للمخاطرة.