عمان الثقافي

هل يمكن للقصيدة العربية أن تتخلص من الغنائية؟!

27 ديسمبر 2023
27 ديسمبر 2023

يعد مفهوم «الغنائية» ليس فقط واحدًا من المفاهيم الملتبسة في ثقافتنا المعاصرة، لكنه أيضًا واحدٌ من المفاهيم السائد فهمها على غير حقيقتها؛ ربما جهلًا، وربما استسهالًا بسبب جِذر الكلمة الذي يصرف الذهنَ إلى الغناء المرتبط بالموسيقى أو الإيقاع. فيكون مفهوم الغنائية دالًا على الإيقاعات الموسيقية في الشعر، تلك التي تمنحه صلاحية الغناء، بمعنى أن تكون القصيدة صالحة لتُغَنى.

وهو مفهومٌ مباشِر يقزّم معنى الغنائية الذي وضعه النقاد والفلاسفة مِن أيام أرسطو حتى يومنا هذا، فليست الغنائية إيقاعًا وموسيقى فقط، لكنها تنطلق كمصطلحٍ أو مفهوم مِن حالة التعبير عن العاطفة الذاتية ومشاعرها (الحب، الحزن، الغضب، الكُره.. إلخ.) أو ما يمكن إجماله فيما أشار إليه أحد الباحثين بقوله: «وتُعبِّر الغنائيّة العربية عن نفسها في ثلاثة سجلّات رئيسة: الحبّ، الطبيعة والفضائل الإنسانيّة».

ومن ثَم سيطرة الذات الشاعرة على عمليات التعبير، وظهور الأنا عاليةً مدوية، تعبّر عن عواطفها ومشاعرها ووجدانها، ويمكن الائتناس هنا باطمئنانٍ تام إلى ما سَبق أن قام به أرسطو من تقسيمه للشعر بأنه ثلاثة أنواع، شِعر ملحمي، وشِعر درامي أو تراجيدي، وشِعر غنائي.

والشعر الملحمي هو الذي يتناول حدثًا مهمًا، أو قصة طويلة فيها من الإثارة والتشويق ما فيها، لها بطلٌ أو عدة أبطال يبدون خارقين، وتتناول أشياءَ وأحداثًا تلعب في أحايينَ كثيرةٍ كائناتٌ خرافية دورًا أو أدوارًا فيها. ومِن نماذج الشعر الملحمي ملحمة جلجامش، وملحمة مها بهارتا، والإلياذة والأوديسا.

بينما الشعر الدرامي أو التراجيدي يقوم على التحدث أو التمثيل، وهو أقرب إلى الأداء المسرحي الذي يعتمد على عدة مونولوجات، وقد ظهر في أثينا على يد ديونيسوس، ومن نماذجه المتأخرة جحيم دانتي، وكثير من أعمال شكسبير.

ويأتي الشعر العربي القديم منتميًا إلى مفهوم الشعر الغنائي، سواءٌ أكان فهْم الغنائية متعلقًا بالموسيقى والإيقاع، أم كان متعلقًا بالعاطفة والوجدان، وظهور الأنا أو الذات الشاعرة عاليةً مدوية. فكل قصائد الغزل والمديح والهجاء والرثاء وغيرها من الأنواع في الشعر العربي تَظهر فيها الذات الشاعرة معبّرة عن حالاتها الوجدانية والعاطفية، كما أنها منتمية كلها دون استثناء لإيقاعٍ عروضي موسيقي مقنّن لا يجوز الخروج عنه، كما صاحبتْ هذا الشعرَ حالاتٌ شائعة ومشهورة من الغناء التطريبي الذي كان يؤديه مغنون، وهو ما أكده حسان بن ثابت في قوله:

تَغَنَّ بالشعر إمّا كنت قائله... إنّ الغناء لهذا الفن مضمارُ

ولن يغيب عنا هنا أن العرب أطلقت على بعض شعرائها اسم «صنّاجة العرب»؛ لأنه فيما قيل كان بعضهم ينشد شِعره على آلةٍ غنائية، كما أنه وردت قصص وروايات تراثية لا حصر لها، كان حضور الشعر والمغنين أو المغنيات فيها كبيرًا، وكان يُطلَب منهم التغني بأبياتٍ شعرية معيّنة.

«وقد كان الشعراء يغنون أشعارهم، والأدلةُ على ذلك كثيرة؛ فالمهلهل أقدمُ شعراءِ العرب وأول مَن قصد القصائد، كان يغني شعرَه، ومما غنّى فيه ورواه الرواة قصيدته:

طَفْلَةٌ ما ابنةُ المجلَّل بيضا... ءُ لعوبٌ لذيذةٌ في العناقِ

أمّا امرؤ القيس فقد ذَكر إعجاب بعض النسوة بصوته؛ إذ يقول:

يَرِعْنَ إلى صوتي إذا ما سَمِعْنَه... كما تَرْعَوِي عِيطٌ إلى صوت أَعْيَسَا

ويقول أبو النجم العجلي في وصف قينة:

تـُغنّي فَإنَّ اليوم يومٌ من الصِّبَا... ببعض الذي غَنَّى امرؤ القيس أو عمرو»

مما يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الشعر العربي شِعر غنائي بالمفهوميْن المشار إليهما، مع ملاحظة أن وَسْم الشعر العربي بـ «الغنائي» لم يرِد في كتب النقاد العرب الذين لم يكونوا وقتها مشغولين بفكرة تصنيفه كمقارنة بينه وبين أنواع الشعر الأخرى.

لكنّ مفهوم الغنائية هذا ظَهر في وقتٍ متأخر كثيرًا في العصر الحديث، وتقريبًا مع ظهور قصيدة النثر التي ناصبَ كثيرٌ من أنصارها العداءَ لفكرة التطريب الإيقاعي بصفته الغنائية، معلنين خلو تجاربهم الجديدة من تلك الغنائية.

وهُم هنا يفهمون الغنائية بصفتها الإيقاعية فقط المتمثلة في الوزن والقافية، لكنّ تجربة قصيدة النثر أثبتت أن كثيرًا من نماذجها وتجاربها لم تتخلّ عن الغنائية بالمفهوم الآخر الذي يعني حضور الأنا، وغلبة العاطفة والوجدان.

ولقد يشيع في ثقافتنا المعاصرة اتهام نماذجَ شعريةٍ بعينها بأنها غنائية، أو مفرِطة في الغنائية، وليس مِن غرضٍ مِن اتهامٍ كهذا إلا وصْم تلك النماذج بإيقاعاتها الموسيقية العالية، وبخاصة مع بحورٍ شعرية تطريبية كالوافر والكامل والرجز والمتدارك، والأمر هنا واحدٌ في القصيدة الخليلية أو في قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر. والحقيقة أن مفهوم «الغنائية» يمتد إلى أبعد وأعمق من هذا، ويمكن ضرب أمثلةٍ لِما يمكن أن تندرج الغنائية في سياقاته:

- فكرة الإنشاد، هي فكرة تنتمي لأفق الغنائية؛ لارتباطها بالصوت والحركة، ومن ثم التنغيم والإيقاعات وما يأتيه الشاعر المنشد من مد وإمالات بغرض التأثير في المتلقي المستمِع، بعكس القصيدة المكتوبة التي تمنح نفسها وسائل وآليات أخرى تتعلق بالذهن والتفكير أكثر مما تتعلق بالأذن ومن ثم بالعاطفة والوجدان.

- ابتعاد القصيدة، أو خلوّها التام من التاريخي والأسطوري، ومن الإحالات الذهنية للرؤى المركّبة، واعتمادها الكُلي على الأنا والعاطفة والوجدان الذاتي.

- انشغال الذات المنتجة للنموذج الشعري بالإيقاع، وليس المقصود هنا حرص القصيدة على بحر أو وزنٍ بعينه، لكنّ المقصود اضطرارها في التعبير عن حاجاتها ومشاعرها إلى الانسياق وراء الإيقاع العروضي على حساب المعنى أو الدلالة.

ومن ثم يمكننا القول إن الشعر العربي القديم كله شِعر غنائي، قولًا واحدًا، ومعظم النماذج الشعرية الحديثة والمعاصرة كذلك، دون أن نعتبر ذلك تهمة أو عيبًا في القصيد العربي؛ لأنه انتماءٌ فِطري طبيعي متعلق بطبيعة نشأة الشعر العربي في بيئته ومحيطه، وما كان مطلوبًا من الشاعر العربي القديم أن يكتب عن ملاحمَ أو قصصٍ وحكايات وأبطالٍ معتمدًا على مفاهيمَ وتصوراتٍ لا تعبّر لا عن بيئته ولا عن شخصيته.

قصيدة التفعيلة والغنائية

مِن الصعب القول إنّ قصيدة التفعيلة كانت خروجًا على غنائية الشعر العربي، ربما كانت امتدادًا لها، ربما كانت تطورًا لمفهوم الغنائية، بالاعتماد على تفعيلةٍ أو نغمةٍ موسيقية واحدة متكررة، أو حتى تغيير التفعيلة أو النغمة في القصيدة ذات المقاطع المتعددة. كل ما حاولته قصيدة التفعيلة الهروبَ فقط من أسْر شكل البحر الواحد الذي يتكون من عدة تفعيلات ثابتة، للاعتماد على تفعيلةٍ واحدة، ليظل الإيقاع الموسيقي العروضي قائمًا، كما ظَل الملمح الآخر للغنائية المتمثل في العاطفة والوجدان وسيطرة الأنا قائمًا كما هو، بل ربما تجلّى أكثر في نماذجَ شعريةٍ ذائعة الصيت تمثل تجاربَ كبرى في الشعرية العربية الحديثة، والتي مثّلها نزار قباني، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وغيرهم.

قصيدة النثر والغنائية

يمكن الزعم أن ظهورَ قصيدة النثر في الثقافة الشعرية العربية الحديثة محاولةٌ لتجاوز الغنائية في واحدةٍ مِن صورها، وهي صورة الإيقاع المباشِر، بتخلّيها عن الوزن والقافية، ومحاولتها الدائمة والمستمرة في البحث عن إيقاعٍ غير تطريبي. لكنْ لن يفوتنا هنا أن نؤكد أن نماذجَ كثيرة جدًا تنتمي لأفق قصيدة النثر تمثّل الغنائية في صورها الأخرى التي أشرنا إليها، وهي تلك الصور المرتبطة بالذات والمعنى، ومن النادر أن نجد نماذج تخرج تمامًا عن مفهوم الغنائية، ونقول مِن النادر لأن هناك محاولاتٍ يمثلها أدونيس وغيره في بعض نماذجهم الشعرية، الأمر الذي يمكن بسببه فهم حالة الدهشة والغرابة أمام تلقي هذه النماذج عند الذائقة العربية التي ترى في تلك النماذج خروجًا على كل التقاليد الشعرية، ويجد المتلقي صعوبة بالغة في التواصل معها بصفتها غريبة وغير مألوفة.

ونخلص من هذا كله إلى أن الغنائية سمةٌ لازمة من سمات الشعر العربي، منذ نشأته وحتى لحظتنا هذه، ولا نظنها عيبًا ولا قدحًا؛ لأنها ملمح رئيس من ملامح بِنيتِه التشكيلية التي ارتبطت بنشأة الشعر نفسِه في بيئته وثقافته ومُنتِجيه، كما أن ارتباط الشاعر بالقيمة التي يمثلها كونه شاعرًا فرضت عليه فرضًا التعبير عن عاطفته ووجدانه مهما اختلفت التجربة التي يتناولها، ويظل المأخذ الوحيد، من وجهة نظرنا، على مفهوم الغنائية هنا هو ارتفاع الصخب الإيقاعي الموسيقي الذي يمكن أن يطغى في تجاربَ كثيرةٍ على المعنى والدلالة.

أشرف البولاقي كاتب مصري