No Image
عمان الثقافي

هل يمكن الخروج من الغرب؟.. نحو جماليات ديكولونيالية

30 أغسطس 2023
30 أغسطس 2023

تمثّل الجماليات الديكولونيالية منعرجا فلسفيا حاسما في تاريخ فلسفة الفنّ المعاصرة منذ بداية القرن الحالي. ولقد قامت هذه الجماليات عموما على رهان تحرير الخطاب الجمالي من وهم الكونية الغربية التي بنت عليها أوروبا مسار الحداثة وقيمها المعرفية والأنطولوجية والتأويلية. وذلك من أجل إرساء عالم متعدّد الكونيات والجماليات وأشكال الإحساس وتجارب المعنى. ولقد ظهرت هذه الجماليات إثر منعرج فكريّ أسّس له والتر منيولو انطلاقا من أطروحة «العصيان المعرفي» الذي يراهن على نزع الاستعمار عن المعرفة وعن الوجود وعن الجامعة وعن الجماليات. وهو أمر يقتضي النضال من أجل تحرير الحواسّ والأحاسيس المعتقلة من طرف الحداثة الغربية في جانبها المظلم أي الكولونيالي. كيف يمكن تخيّل عوالم فيم أبعد من الرأسمالية والشيوعية، وكيف يمكن اختراع درب ثالث منه تنبثق ذاكرات منسية وانفعالات مشطوبة ومهملة من طرف التاريخ الوحيد للكونية أي التاريخ الغربي الذي أنتج الإمبريالية والاستعمار العالمي؟ كيف بوسعنا إعادة اختراع الهويات التي تمّ إنكارها أو الدفع بها إلى دائرة الصمت من طرف الجماليات الكولونيالية الحديثة؟

  • في مفهوم الديكولونيالية

ظهرت الديكولونيالية كضرب جديد من الفلسفة المغايرة لمركزية اللوغوس الغربي، منذ تسعينيات القرن الماضي بخاصّة مع فلاسفة من أمريكا اللاتينية ومن الهند ومن إفريقيا. بحيث ينتمي أقطابها إلى جغرافيا «جنوب الحداثة» بعامّة أولئك الذين يقطنون بعقولهم ومخيالهم خارج الغرب الأوروبي الاستعماري. ( فرانز فانون، إيمي سيزار، والتر منيولو، انريك ديسال، لوي مارتيناس، ألانا لوكوورد، بادرو بابلو غوماز..) يتعلّق الأمر بجملة من التحوّلات الجغرافية الابستمية كما يذهب إلى ذلك زيزاك. ويمكن الحديث عن جملة من قواعد المنهج الديكولونيالي التي تمّ إحصاؤها كما يلي: أوّلا تملّك التقليد الأوروبي النقدي وتعميقه. ثانيا: اعتماد الفلسفة الأوروبية النقدية في تأسيس الديكولونيالية (ماركس، نيتشه، فرويد...). ثالثا: إعادة تأويل النظريات الفلسفية الأوروبية النقدية منها (الاختلاف والغيرية..) وتبيئتها ضمن المصطلح المحلّي للثقافات من خارج أوروبا. رابعا: تخريب الخطاب الغربي الكولونيالي وبعثرة مفاهيمه في نوع من العصيان المعرفي. خامسا: تنشيط المحلّي الثقافي والإبداعي من داخل ذاكرة أو تقليد أو جغرافيا معرفية..

في حوار معه منشور على الأنترنت، يعرّف بادرو بابلو غوماز الديكولونيالية بوصفها «طريقة في تنضيد النظام العالمي» مميّزا بين ثلاثة أنماط من تنضيد هذا النظام وهي على التوالي: إعادة التغريب، نزع الطابع الغربي، والديكولونيالية. ويبسط مميّزات كلّ واحد منها بحيث تسعى الأولى إلى المحافظة على سلطة الغرب في التحكّم بالعالم، (المركزية الأوروبية والاقتصاد الليبيرالي). أمّا الثانية فهي تقيم معركة مع الغرب بخصوص السيطرة على العالم، من أجل عالم متعدّد الأقطاب غير مركزي وغير أوروبي، لكنه عالم رأسمالي. وبالنسبة لإعادة ترميم اليسار فإنّ ذلك إنّما يتمّ في أفق نقد للرأسمالية، لكنّه يبقى متسامحا إزاء المركزية الأوروبية. أمّا الطريق الثالثة فهي الديكولونيالية، بما هي تسعى إلى نقد المركزيّة الأوروبية القائمة على الرأسمالية والليبيرالية الجديدة، وعلى التمييز العنصري الإبستمولوجي وكل ادعاءات الحداثة الكولونيالية. لذلك تقترح الديكولونيالية فتح آفاق جماعية ممكنة غير رأسمالية وغير كولونيالية.

ليست الديكولونيالية كما يعرّفها بابلو غوماز شيوعية ولا رأسمالية إنّما هي تصميم طريق ثالثة من أجل رسم منعرج فكريّ مغاير وضرب من «الانقلاب الراديكالي» تصبح فيه المؤسسات في خدمة الحياة بدلا عن خدمة رأس المال. وانطلاقا من توصيف والتر منيولو القائل بأنّ «الكولونيالية هي الوجه المظلم من الحداثة»، يميّز بادرو بابلو غوماز بين الكولونيالية وما بعد الكولونيالية والديكولونيالية. فإذا كانت الكولونيالية هي سلطة شعب أو أمّة على أمّة أخرى، فإنّ ما بعد الكولونيالية هي نقد لهذه السلطة الاستعمارية، أمّا الديكولونيالية فهي اقتدار معرفي وجمالي وسياسي على كشف الأبعاد العميقة لكولونيالية هذه السلطة. وهو ما تنجزه «الديكولونيالية الجمالية» بوصفها لا تكتفي بنقد النظريات الجمالية القائمة على الميز العنصري والهيمنة الذكورية والمركزية الأوروبية، بل هي تسعى إلى فهم آليات هذه النظريات الجمالية الكولونيالية التي تميّز بين الفن وما ليس بفنّ، وفق ترتيب أنطولوجي ينزع الإنسانيّة عن الجماعة الجمالية التي توجد في جغرافيا ثقافية خارج الذائقة الغربية.

  • كيف يمكن للجماليات الديكولونيالية أن تحرّر المحسوس:

لقد ظهر مفهوم الاستطيقا الديكولونيالية لأوّل مرّة سنة 2003 من طرف الفنان الكولمبي أدولفو ألبان ألشينت، وتمّت استعادة المفهوم من طرف والتر منيولو الذي كتب عنه سنة 2009 وتمّ نشر مقاله سنة 2010 إثر فعاليات ورشة فنّية تمّ فيها عرض جملة من الأعمال الفنّية لفنّانين غير غربيين. ولقد تمّ تأويل هذه الممارسات الفنّية بوصفها أعمالا جماعية تقترح تحرير المحسوس والأحاسيس والاعتراف بهويات إبداعية غير غربية مضادّة للتيّارات الإمبريالية للعولمة، في أفق جمالي ديكولونيالي لاكتشاف أنماط جديدة في التفكير بالأمكنة وبالفنون وبالبويطيقا. وهنا تنبثق مسارات تحرير المحسوس على أرضية جغرافيا ديكولونيالية أفريقية. وذلك يتجلى في عالم عابر للحداثة الأوروبية وفي أفق إعادة تنضيد لنتائج خمس مائة سنة من الكولونيالية، وهو عالم تحوّل إبداعي وأفكار مستقلّة وحريات ديكولونيالية في كلّ مجالات الحياة.

إنّ ما يحدث تحت راية هذا التحوّل الإبداعي هو ضرب من «الثورة الكوكبيّة في المعرفة والإحساس»، وفق عبارات بيان الاستطيقا الديكولونيالية. بحيث تمظهرت داخل الممارسات الفنّية غير الغربية المرئية والمسموعة والمكتوبة العديد من الهويات العابرة للأمم، تعدّد رائع للقدرات الإبداعية الإنسانية تطمح إلى تملّك الاختلاف وتأكيده بدلا من مجرّد الاحتفال البرجوازي به. لقد التحقت الاستطيقا الديكولونيالية بتحرير المحسوس المعتقل من طرف الحداثة الأوروبية في جانبها الأكثر ظلمة أي الكولونيالية على حدّ توصيف لوالتر منيولو.

  • إنّ الاستطيقا الديكولونيالية هي بهذا الاعتبار «الجنوب المعولم»، وشعارها «نحن هنا لأنّكم كنتم هناك». إنّها مشروع جمالي يهدف إلى مواجهة عالم مثقل بالسلع والمعلومات التي تستعمر الحياة وتعتقل القدرات الحيوية الإبداعية والخيالية بتحويلها البشر إلى كائنات استهلاكية والعالم إلى سوق مطلقة مثيرة للغثيان. ومن أجل ذلك تقترح الديكولونيالية الاستطيقية تحرير المحسوس من خلال المراهنة على القضايا التالية:

- أوّلا: لا يتعلّق الأمر بنموذج واحد للكونية الإنسانية بل بكونيّات وعوالم وصياغات متعددة للحقيقة والسرديات والمسارات والذاكرات.

- ثانيا: إنّ السؤال الديكولونيالي إنّما يكمن في ما يلي: «كيف نستعيد إنسانيّتنا بعد أن تمّ السطو عليها أو إقصاؤها أو إدماجها، من طرف الغرب الاستعماري؟». وحينما نقول «إنسانيّتنا فنحن نقصد قدرتنا على اختراع نمط الإنسانية الممكن لنا» أي بدائل ابستمولوجية وإبداعية مغايرة. والمقصود بذلك: كيف ننصت ثانية إلى الأصوات التي اعتقدنا أنّها صمتت أو تمّ إسكاتها ؟ كيف نأخذ الكلمة مرّة أخرى في باحة الإنسانية الحالية؟ وتبعا لذلك فإنّ ما تراهن عليه الاستطيقا الديكولونيالية هو ضرورة الانفتاح على أنماط متعدّدة من الكينونة أي على كينونات وممارسات حيوية وروحية وإبداعية مغايرة. يقول واتر منيولو: «لقد حوّلنا أوروبّا إلى مجال تحليل بدلا عن مزوّد للمصادر الثقافية والابستمولوجية».

يشير علينا بابلو غوماز بتعريف للاستطيقا الديكولونيالية قائلا إنّها لا تتمثّل في استطيقا واحدة بل في جماليات متعدّدة»..وذلك من أجل تصميم فضاء جمالي يحافظ على الاختلافات والحوارات بين الاستطيقات المختلفة من أجل تخطي الكولونيالية المعولمة. لكن هذه الجماليات الديكولونيالية لا يمكنها ألاّ تأخذ بعين الاعتبار الفلسفات الأوروبية التي مهّدت لظهور جماليات الاختلاف والغيرية.. يكتب غوماز في هذا السياق ما يلي: «لذلك يأخذ الموقف الديكولونيالي بعين الاعتبار النقد الذي يوجّهه اليسار للرأسمالية ونقده الداخلي للاستطيقا، إنّ دافعه في ذلك لم يكن فقط مضادّة الرأسمالية».

تمثّل الديكولونيالية الجمالية ضربا من العصيان الجمالي للاستطيقا الغربية المعولمة، تلك التي تنزّل الفنّ الغربي في أقصى نقطة من سلّم الإبداع. ويتمثّل هذا العصيان الجمالي في توقيع جملة من أشكال مقاومة الحداثة الاستطيقية الغربية يمكن تجميعها في الأفكار التالية: أوّلا: اعتبار الاستطيقا موضعا نظريا مركزيا من كولونيالية الوجود والطبيعة، بوصفها استعمارا لمنطقة المحسوس.

- ثانيا: إعادة النظر في التمييز الاستطيقي الغربي بين الفن وما ليس فنّا، وذلك من أجل الإنصات لأولئك الذين تمّ تصنيفهم خارج دائرة الكولونيالية الجمالية بوصفهم لا يملكون ذائقة كونية أو غير قادرين على إنتاج فنّ وفق المعايير الغربية. لكنّ هذا لا يعني ضرورة إدماجهم داخل دائرة الاستطيقا الكولونيالية.

- ثالثا: ليست الديكولونيالية الجمالية موقفا كلّيانا نظريا مماثلا للاستطيقا الكلّيانية، إنّما هي موقف أنطولوجي يقوم على تعدّد البدائل وتعدّد صياغات الحقيقة. لذلك لا تقوم هذه الاستطيقا على التجديد كمعيار جمالي للإبداع لأنّ التجديد مقياس كولونيالي بامتياز بوصفه يتوافق مع مطلب السوق الرأسمالية.

- رابعا: إنّ الاستطيقا الديكولونيالية مطالبة أيضا بتحرير الذاكرة من الاستعمار في مجال الفنّ من أجل إعادة تنضيد «الجغرافيا السياسية للمحسوس» وذلك في أفق الاعتراف بتعدّد الجماليات والجغرافيات الإبداعية. وهذا يعني تحديدا التحوّل الابستمي من تاريخ غربي للفنّ إلى تاريخ عالمي للفنون. وهو تاريخ يفترض بالضرورة أنّ لكل الثقافات مسارات مختلفة للعالم المحسوس وتنضيدات رمزية خصوصية. وفي هذا السياق يصرّح غوماز «أنّه ضمن هذا التاريخ العالمي للفنون، لن يكون الفنّ غير فصل ولن يكون مركز السردية أو موضوعها الوحيد». وإنّ هذا التاريخ العالمي للفنون هو الذي سيحرّر الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا من الكولونيالية الغربية للوجود والمعرفة. حينئذ فقط يجد «المحلّي» مكانته الأساسية من أجل اللقاء بممارسات وذاكرات محليّة تهيّئ أفقا عالميّا لأزمنة مختلفة عابرة للحداثات وللجغرافيات.

لكن هل يمكن الخروج من الاستطيقا الكولونيالية ؟ وهل يمكن أن نخترع مقاييس جمالية خارج ترسانة النظريات الغربية ؟ يجيب غوماز بأنّ الاستطيقا الديكولونيالية لا تشتغل وحيدة على عصيان الخطّة الكولونيالية، بل هي تشتغل في الوقت نفسه الذي تعمل فيه مشاريع أخرى معرفية ووجودية من أجل التحرّر من السلطة الكولونيالية. ولأنّ كولونيالية السلطة قد تحوّلت إلى ذاكرة عمرها أكثر من 5 قرون، فبوسعنا مواصلة زعزعة نظام الهيمنة والتحكّم الكولونيالي، وذلك في أفق الإيمان بأنّ الكولونيالية ستصل إلى نهايتها أيضا. وبالرغم من أنّ الكولونيالية لا تزال مستمرّة، يمكننا دوما التحرّر منها حتى وهي تواصل ممارسة سلطتها علينا. إنّ الديكولونيالية مشروع طويل النفس يهدف إلى إنجاز فضاءات أفقية للترجمة والتعاون واللقاء بالآخر والإبداع الجمالي من أجل إعادة وجود وجغرافيا سياسية واستطيقية مغايرة.

لكن أيّ معنى للفنون الديكولونيالية؟

يتعلّق الأمر بمشروع عالمي عابر للحداثة، متعدّد الكونيات، متعدّد الأقطاب وغير غربي وغير رأسمالي.وذلك يعني أنّ الفنّ الديكولونيالي هو فنّ مترحّل علامته الأساسية شكل من الترحال وقدرة على اللقاء بالثقافات الأخرى وإتيقا الترجمة. ليست الديكولونيالية الجمالية بهذا المعنى دعوة إلى شكل من الأصولية الثقافية إنّما هي تنخرط ضمن إعادة كتابة للتاريخ العالمي بنقد المركزية الأوروبية كما يقرّ الفيلسوف والمؤرّخ المكسيسكي من أصل أرجنتيني إنريك دوسال الذي يدعو إلى «حداثة عابرة» في أفق مشروع تحرير إتيقي عالمي. يتعلّق الأمر بالبحث عن «قصّة أخرى» أو «سردية ثالثة» غير شيوعية وغير رأسمالية. وفي هذه القصّة ينبغي على الغرب نفسه تغيير سرديته حول نفسه بوصفه مطالبا بالانخراط في أفق ما بعد كولونيالي. أي هو مطالب بتغيير سلوكاته ومقاييسه الجمالية على نحو مضادّ جذريّا لسلوكاته ومعاييره ومساراته الاستعمارية. وذلك يتطلّب رسم «تاريخ أفقي للفنون» بحسب مفهوم لمؤرّخ الفنون البولوني بياتر بيوترويسكي.

تحرير المحسوس في ضوء المقاربة الديكولونية:

في أيّ معنى نحن مطالبون اليوم بتحرير المحسوس؟ أي ممّ نحرّر حواسّنا ومشاعرنا ومخيالنا؟ نحن في حرج ميتافيزيقي ازاء هذا السؤال. وذلك أنّنا نحتاج اليوم أوّلا إلى تحرير المحسوس بتأهيله واختراعه وتنشيطه بوصفه اختلافا ثقافيا نؤكّد به نمطا من الكينونة غير الغربية ونمطا من الجمالية غير الكولونيالية ونمطا من الكونية غير الأوروبية. لكنّنا نحتاج ثانيا إلى تحرير المحسوس أي الحياة الإبداعية والروحية والثقافية من كلّ نزعة أصولية أو هووية. فالتحرّر من الكولونيالية بوصفها الوجه المظلم من الحداثة الغربية لا يعني التحرّر من الغرب. ثمّة فرق شديد بين الغرب الاستعماري والنقد الفلسفي الأوروبي لكلّ أشكال استعمار الشعوب والعقول واستعبادها، واحتكار مجال الحياة بيد الهيمنة الرأسمالية وعولمة السلع. وبالتالي ليس الغرب فقط هو ما ينبغي أن نواجه هيمنته الثقافية على مشاعرنا وعقولنا وأجسادنا، بل الشرق أيضا بدياناته في وجهها المظلم أيضا الأصوليات بأشكالها. فتحرير المحسوس الديكولونيالي ليس دعوة إلى معاداة الغرب ولا هو عودة حنينيّة أصولية إلى شرق الإمبراطوريات والهيمنة البطريكيّة والمركزيات الدينية أو اللغوية.

خاتمة:

1) إنّ مهمّة تحرير المحسوس من وجهة نظر نزع الاستعمار الغربي الجمالي عنه، لا ينبغي أن يتضمّن إذن أيّة كراهية للغرب؛ لأنّ الكراهيّة هي العدو اللدود للفلسفة ولأي شكل من الإبداع. إنّما يقتضي فقط اعتبار الجماليات الغربية مجرّد فصل في تاريخ أنماط الكينونة في العالم.

2) إنّ تحرير المحسوس يعني فسح المجال أمام التجارب الفنية في جغرافيتنا الخاصة للتعبير عن نفسها بوصفها نماذج إبداعية مختلفة عن نماذج المركزية الأوروبية. لسنا مطالبين أن نحاكي بيكاسو كي نصبح رسّامين. أو أن نكتب مثل كافكا كي نصير روائيين. أو أن نمثّل شكسبير على مسارحنا كي نوصف بالمسرحيين. نحن مطالبين فقط بالانبثاق والتدفق ككائنات حيّة داخل مسارات حيويّة. إنّ تحرير المحسوس هو اللقاء بالأحداث الفنّية التي تحدث في جغرافيّتنا دون أن تحتاج إلى أيّة مباركة غربية أو شرقيّة.

3) علينا إذن أن نحرّر النزعة الديكولونيالية نفسها من كلّ أشكال سوء الفهم العالقة بها. في معنى أنّ تأكيد اختلاف تجارب المعنى في ديارنا، لا يعني تحوّل اختلافنا إلى تعلّة إرهابية لكراهيّة الغرب تحت راية هووية. «ليس الغرب عدوّا مطلقا لنا بل هو مجرّد جار ميتافيزيقي» وفق تعبير لفتحي المسكيني، وفق ديكولونيالية النوابت التي تنبت من لدن نفسها ضدّ منطق الإمبراطورية في كل مكان. وهو بيان ديكولونيالي يقول فيه المسكيني «أنّنا لسنا مطالبين بمعاداة الغرب بل بفرض اقتراح إيجابي عليه بوصفنا أندادا ثقافيين له».

4) وعليه فإنّ «العصيان المعرفي» للغرب حينما يتحوّل إلى ذريعة أصولية، سيسقط الديكولونيالية في قبضة الإرهاب الذي لا يؤسس لغير الخراب. وتبعا لذلك لا تكفي معاداة الحداثة كي يكون المرء ديكولونياليا.

5) إنّ المعنى الإنجازي الوحيد لجماليات ديكولونيالية يكمن في الاشتغال على الجغرافيا الإبداعية التي ننتمي إليها. وحده تثمين المسارات الفنّية للجماعة الثقافية التي تنتمي إليها على نحو إبداعي وحيويّ وسياسيّ كفيل بتحرير المحسوس من وجهة نظر ديكولونيالية.