عمان الثقافي

هكذا بدأ الأمر

25 أكتوبر 2023
قصة قصيرة:
25 أكتوبر 2023

ذهبت أنا وجير إلى حلقة الصغار التي كانت تديرها زوجة القس، فلمَّا انتهت حلقة الصغار، لمَّا انتهينا من أكل المقرمشات وشرب الشوكولاته الساخنة، ومن الغناء والكلام، ومن الصلاة، لمَّا تُركنا وشأننا، لمَّا صار بوسعنا أن نخرج مسرعين من الغرفة الضخمة، الغرفة البالغة من فرط ضخامتها ثلاث غرف طبيعية، الغرفة ذات الأبواب الداخلية، الأبواب التي انفتحت الآن، لمَّا انتهينا، أنا وجير والآخرون، من عمل كل شيء يجب عمله على من يريدون الذهاب إلى حلقة الصغار في مزرعة القس، لمَّا انتهينا من ذلك، لمَّا صار بوسعنا أن نسارع خارجين من الغرفة الهائلة، ونعبر الصالة، ونصعد الدرج، نصعد إلى العليَّة، لمَّا لم يبق مزيد من الأغنيات تغنَّى، لمَّا جرينا صاعدين إلى العليَّة الضخمة، واستلقينا على الأرض، ولمَّا دخل الآخرون يجرون، ولمَّا دخلت البنات، ولمَّا دخلت تلك البنت بالذات.

لمَّا دخلت هي.

لمَّا دخلت بعد الإجازة، بعد كل الإجازات، لمَّا رأيتَها، لمَّا دخلت بشعرها الطويل، وذينك النهدين الصغيرين لا يكادان يبدوان تحت قميصها، لمَّا صعدت الدرج تجري وعلمتَ أنك لن تجرؤ أبدا على الحديث إليها، وأنت تصارع وتصيح هناك على الأرض، تلاعب جير أو غيره من أصدقائك، لمَّا دخلتْ فهدأتم، وكففتم عن التراكل، وكفتتم عن التعابث، والتمازح، والتصايح، هدأتم، وشعرتَ أنت بشيء من الحرج، نهضت عن الأرض وفجأة لم تعد تعرف إلى أين تذهب أو ماذا تفعل بنفسك، اضطرب قلبك لأنها باتت حاضرة، قريبة منك، بشعرها، وجسمها، كانت على بعد خطوات قليلات منك، شديدة القرب، وما كان بوسعك أن تحدثها مع أنها بعثت لك رسالة قبل يومين، مع أن واحدة من صاحباتها جاءت إليك، وضاحكةً قالت لك إنها يفترض أن تبلغ السلام منها إليك، منها، منها، البنت ذات الشعر الطويل. لمَّا وقفتْ هناك، في هدوء، تكلم إحدى البنات الأخريات، في علية مزرعة القس شبه المعتمة، مع بقية الصغار الذين ذهبوا إلى حلقة الصغار، وكلنا كنا نذهب، تقريبا كل الصغار في المنطقة كانوا يذهبون، لمَّا وقفت هناك بنهديها الجديدين، وشعرها الطويل، وابتسمت لصاحبتها، ووقفت أنت هناك، وقفت وحدك والباقون يتصارعون، وغمرك الحزن واستشرى بداخلك، آنذاك تقريبا بدأ الأمر.

ذلك لمَّا جاءتك الموسيقى.

هناك وآنذاك جاءتك، وما برحتك. وبعدها، بعد أن انتهت حلقة الصغار في بيت القس وحان وقت الرجوع إلى البيت. كان يفترض أن يذهب الجميع، كلُّ واحد وحده، ولم يفعل ذلك أحد. سرنا في الطريق. جماعة من الصبيان والبنات سارت على الطريق، متبعدين عن المكان الذي كنا نعيش فيه، متجهين إلى مكان يعيش فيه آخرون. كنا في الخريف، والدنيا معتمة، وكنا نسير على طريق ريفي صغير، في المطر، في الريح. سرنا على الطريق، والدنيا معتمة، وسمعنا صوت المضيق. البحر الذي كان حاضرا على الدوام. الموج. سرنا على الطريق، أنا وجير، ومعنا آخرون، وهي كانت هناك. هي وجير كانا يسيران ويتكلمان معا. وكنت أسير وأتكلم مع بنت أخرى، بنت أخرى جدا، مختلفة جدا، بنت معي في السنة نفسها، وكنا صديقين، ويسهل علينا أن نتكلم، لكنها، تلك التي تسير على بعد خطوات أمامي، بشعرها، وبذينك النهدين الجديدين تحت سترتها، تلك السائرة مع جير، تكلمه، لم يكن بيدي أن أنساها ولو لثانية. كنت أسير مع بنت أخرى، وربما كانت هي البنت التي أراد جير أن يسير معها. تكلمنا وتمازحنا. أمامي كانت تسير، وجير يلف ذراعه حول ظهرها، وتلف هي ذراعها حول ظهره. كنت أسير وراءها هي وجير، ومعي بنت هي معي في السنة نفسها، وضعت يدي على كتفها، ومالت هي برقة عليّ. تكلمنا وتمازحنا. كنا مجموعة تسير على الطريق، كنا مجموعة في إحدى أكبر سنوات حلقة الصغار، وبعضنا التحق أخيرا بمدرسة المنطقة. الخريف، العتمة، المطر. وصوت الخليج يبلغ الآذان. الموج. سرنا على الطريق. نتوقف في محطة حافلات، ندخلها، وواحد منا، واحد منا يتجاسر، ويقول إننا يمكن أن نلعب لمسة حضن قبلة، فلا يردُّ أحد لكن الجميع يريدون، ويبدأ واحد فتبدأ اللعبة، لمسة فقط في البداية، تربيتات رقيقة على الخدود، أولاد وبنات يربتون عشوائيا كل على خد صاحبه، في محطة حافلات، هربا من المطر، في أول مساء خريفي وثمة صوت المضيق. الموج. ويتجاسر واحد فيقول حضن ثم يقف مكانه، في شيء من الحرج، وشيء من الجسارة، ويحضن شخصا من الجنس الآخر. حضن قصير للغاية، حضن أطول قليلا. البقية لا يحملقون، يشيحون بأعينهم، يطأطئون، ينظرون خطفا، إلى كل اثنين واقفين هناك يحضن أحدهما الآخر. الوقت يمر ونألف اللعبة، ونزداد شجاعة، وثقة. يشتد المطر، تقوى الريح، والموج يضرب الساحل بهدير أوضح. يزداد المساء عتمة. نتجاسر فنزداد قربا. نقول قبلة، وفور أن تحدَّد لمن قالوها مَن سيتلقَّون القبلة، مَن بقوة الصدفة العمياء في اللعبة سيجري تقبيلهم، ومن العتمة تقدَّم الذين سيقبِّلون نحو الذين سيتلقون القبلة، ولا أحد ينظر، كلنا مطأطئون. ليس سوى العتمة والمطر حول كل اثنين، ونحن الباقين اختفينا، كل واحد في عزلته الخرساء مع أن في العزلة رفقة صامتة، نعم، رفقة وإن لم يقل أحد شيئا ولكن كل واحد برفقة واحد، فليس بعضنا لبعض، ولكننا حاضرون، ثم حان عليها الدور ورأيت عينيها في العتمة، أمكنني أن أتبين شعرها الطويل، وقالت قبلة ورجوت بكل قواي ألا أكون أنا من يفترض به أن يقبِّل، يجب أن يكون جير، لأن جير هو الذي تريد هي أن تقبله، وليس أنا، ولا يمكن أن يكون أنا، أرجو وأتمنى بكل قواي، ثم إذا به أنا الذي يجب أن يطلع من الرفقة المعتمة، بشعري، بجسمي، وتأتي إليّ، وأقف هناك، غير شاعر بالمطر، غير شاعر بنفسي كيف تقدمت، وكيف أرغمت نفسي على المشاركة في اللعبة، فلست بهذا، إن أنا إلا ولد يجاري، وليس ذلك الأمر لي، لكنني دائما ما أتقدّم، وكل ما أريده هو الرجوع إلى صمت الباقين، أقف هناك في سترتي المبلولة، ويداي مدليتان على جانبيَّ، وسرعان ما تأتي إليّ، تأتي من العتمة، بعينيها، بشعرها، وتضع ذراعيها حولي، ونقف هناك، سترة إلى سترة، شعري مبلول وأشعر بيديها تمسحان ظهري أعلاه وأدناه ثم تحرك فمها نصف مفترٍّ إلى ذقني، ودفء شفتيها، وفمها، وبللها، بللها الدافئ، ولا مزيد، ومع ذلك لا شبيه له، شديد التفرد، ثانية قصيرة وحيدة فإذا كل شيء كما لم يكن، هنالك في محطة الحافلات، والعتمة، والمطر، ثم نتقدَّم، مجموعتنا كلها، نتقدم في الطريق الأسود بمحاذاة الساحل، والموج الهادر يوشك أن يبلغ الطريق في بعض الأماكن، ونمضي قدما، كنت لم أزل أسير وراء الآخرين، وهي وجير يسيران أمامنا، وذراع أحدهما على كتف الآخر، وكذلك سرنا حتى وصلنا إلى متجر البقالة، وهناك توقفنا، توقفنا هناك في نور واجهات المتجر، كنت أقف مع فتاة في صفي، تكلمنا وتمازحنا، ثرثرنا معا مثلما كنا نثرثر دائما، حاولت أن أكون مثلما كنت دائما، ثم سرنا إلى البيت، أمسكت يدها وسرنا يدا في يد عبر الطريق إلى حيث كانت تعيش، ثم حضن أحدنا الآخر، ودخلتْ ورجعتُ مع الباقين، سرت إلى البيت، سمعت الموج، ولم تزل هي وجير هناك أيضا، يسيران، متماسكي الأيدي، لا ينطق أحدهما كلمة، ولا قال أحدنا كلمة ووصلنا إلى بيتي، قلت إلى اللقاء، وجريت إلى بيتي، صاعدا الطريق، قلت لأمي إنني جائع، وصعدت إلى غرفتي. هكذا حقا بدأ الأمر.

في ليال كتلك الليلة، بعد حلقة الصغار في بيت القس، بعد فراغنا من هذا ومن ذاك، في تلك الليالي الخريفية الظلماء بعد فراغ الكبار من واجباتهم المدرسية وبقائنا بمفردنا، مع أنفسنا، هناك، حيث كل ما كان علينا أن نفعله، في تلك الليالي، حدث أن سرنا على الطريق، الأولاد والبنات، أن كنا مع أنفسنا بكل تلك الأمور، حدث أن بدأ الأمر، بدأ معها، البنت ذات الشعر الطويل، البنت التي دأب جير أن يسير معها ويمسك يدها، البنت ذات النهدين الجديدين، كانت هناك لوقت طويل، لسنين عدة، ولم أزل أشعر بشيء في جسمي، أشعر بضربات الموج، أشعر وكأن شيئا رسخ في جسمي، في حركاتي. هكذا بدأ الأمر، في العتمة، والمطر، على الطريق المحاذي للساحل، والموج يضرب ولا يكف، والجلد يشيخ ويشيخ. وقبلتها تنطبع على جلدي، وكأنها ولجت جسدي فما برحته. هي الآن متزوجة، وأبناؤها كبار، هي ربة بيت وتذهب إلى حفلات القرية عادة برفقة زوجها. كانا هناك في الصيف الذي لعبنا فيه في حفلة القرية. كانت هي هناك، لكن جسمها الآن فقد قوامه. شعرها قصير. ونهداها كبرا، كبرا كثيرا.

يون فوسه كاتب نرويجي يعد من مؤلفي المسرحيات الأكثر عرضًا في العالم، وحاز جائزة نوبل للآداب عام 2023

نشرت هذه القصة ضمن مجموعة «مشاهد من الطفولة» بترجمة داميون سيرلز إلى الإنجليزية عن دار نشر فيتزكارالدو في عام 2018