No Image
عمان الثقافي

نصوص متناقضة عن الجسد في الغزل العذري

26 سبتمبر 2023
26 سبتمبر 2023

ترجمة زوينة آل توية -

صدر كتاب «الجسد في شعر الحب العربي: التراث العذري» بالإنجليزية لجوخة الحارثي عن منشورات جامعة أدنبرة، عام 2022. وأعيدت طباعته هذا العام، وسيصدر الكتاب مترجما إلى العربية بعنوان «الجسد في الغزل العذري»، عن دار روايات بالشارقة، الشهر المقبل. ترجمت الكتاب المترجمة العمانية زوينة آل توية، وقد راجعه كلٌ من المؤلفة وعاطف سليمان.

يقول الناقد صبري حافظ في تقديمه لكتاب جوخة الحارثي: «والحق أن هذا التحليل الذي انتهجه الكتاب في بيان مدى تغلغل التعبير عن الجسد في هذا الشعر يمدُّ القارئ بأفكار قيِّمة عن المجتمع العربي في ذلك الحين، وعن قضايا المكانة والسلطة والأخلاق والرغبة في الثقافة العربية. هذا الكتاب وثيق الصلة بدراسة الأدب العربي القديم بوجه عام والشعر بوجه خاص، لأنه يسد ثغرة في حقله المعرفي ويفتح آفاقًا جديدة للبحوث في المستقبل، فهو يضيف بعدًا جديدًا إلى الدراسات المتاحة في الشعر العربي القديم».

وهنا ننشر مقتطفا من الفصل الثالث من كتاب «الجسد في الغزل العذري»:

نصوص متناقضة عن الجسد في الغزل العذري:

أدَّت فترة التدوين والتأليف إلى بروز اهتمام بجمع أشعار الشعراء العذريين وأخبارهم. لاحقًا، طال التنقيح عناصر العفة في هذا اللون الشعري، لكن النظر الفاحص يكشف تناقضًا في موضوع العفة في الشعر العذري وأخبار العذريين التي وردت في مصادر مهمة مثل «كتاب الأغاني». لعل بنية هذا الكتاب وطريقة تأليفه ساهمتا في بروز هذا التناقض.

على الرغم من تركيز الباحثين على عفة الشعراء العذريين، تبقى حقيقة أن جسد المحبوبة حاضر على نحو ملحوظ في الغزل العذري كلِّه، فالشاعر العذري يتغنى بجمال محبوبته الجسدي بكل عنفوانه، وكثيرًا ما يشير إلى رغبته فيه، لكنه يزعم أنه لا يحدث اتصال جسدي بمحبوبته. كيف نفهم التناقض في الغزل العذري في ما يتعلق بالاتصال الجسدي بين العشَّاق؟ يُروى عن جميل، على سبيل المثال، أنه قال وهو على فراش الموت: «إني لفي آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد- صلى الله عليه وسلَّم- إن كنتُ وضعتُ يدي عليها لريبةٍ قطُّ.»(1) هل قال هذه العبارة لورعه فحسب، أم أنه يوحي بأن الجمال المثالي الذي يصوِّره الشعر لا يمكن امتلاكه، حتى في التفكير؟ نقرأ أيضًا في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة: «وجميل ممن رضي بالقليل.»(2) يستشهد الكتاب بهذه الأبيات الشهيرة لجميل:

وإني لأرضى من بثينة بالذي

لو أبصره الواشي لقرَّت بلابلُه

بِلا وبألَّا أستطيعَ وبالـمُنَى

وبالوعد حتى يسأمَ الوعدَ آمِلُه

وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي

أواخره لا نلتقي وأوائلُه(3)

ويقول جميل في أبيات أخرى:

لا والذي تسجدُ الجِباهُ لهُ

مالي بما دون ثوبِها خَبرُ

ولا بفيها ولا هَمَمْتُ بهِ

ما كانَ إلَّا الحديثُ والنظرُ(4)

هنالك أيضًا العديد من الثيمات الشبيهة في النصوص التي يوردها «كتاب الأغاني»، فمثلًا، سأل جميل بثينة في حوار بينهما في خيمتها ذات ليلة: «أرأيت ودِّي إياك وشغفي بك ألا تجزينيه؟ قالت بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين، فقالت: يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدًا عنه ولئن عاودت تعريضًا بريبة لا رأيت وجهي أبدًا، فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد.»(5)

من اليسير أن يُفتتن المرء بهذه الأبيات والأخبار التي يمكن العثور عليها في العديد من الكتب التراثية التي تناولت موضوع الحب في التاريخ الإسلامي والعربي، مثل «مصارع العُشَّاق» و«روضة المحبِّين»، و«الموشَّى». ومع ذلك، يمكننا ملاحظة ظاهرة لافتة للنظر في التراث العذري على المستويين الشعري والسردي يمكن اقتفاؤها عبر فكرتين متناقضتين في تفاسير المصدر الواحد، فإذا سرد بعض الرواة قصصًا عن العشاق العذريين تقدِّم زعمًا ما عنهم، يسرد بعضهم الآخر قصصًا أخرى تمنح انطباعًا معاكسًا. حتى في ما يتعلق بوصف جسد المحبوبة في الغزل العذري، يميل رواة مختلفون إلى إيراد روايات غير متسقة، فمثلًا، تسرد الواقعة الآتية قبح بثينة: «كان جميل في حمَّامٍ بمصر حينما لاحظ شيخ وسامته وسأله عن من يكون. وعندما عرف أنه جميل، صاحب بثينة الذائع الصيت، قال له: «فما رأيت فيها يا ابن أخي! فوالله لقد رأيتها ولو ذُبح بعرقوبها طائر لانذبح. فقال له جميل: «يا عمُّ، إنك لم ترها بعيني، ولو نظرت إليها بعيني لأحببت أن تلقى الله وأنت زانٍ.»(6)

يلاحظ المرء الرابط الذي اقترحه جميل بين بثينة ورغبته، رغبة بلغت من شدتها استخدامه كلمة «زانٍ». أما في سياق آخر، فقد وصف عمر بن أبي ربيعة بثينة بعد حديثه إليها بأنها طويلة القامة وجميلة.(7) في «الشعر والشعراء» يصف راوٍ بثينة بأنها كالبدر المكتمل مشيرًا إلى جمالها.(8) وبالمثل في فقرة أخرى في «كتاب الأغاني»، تطلب ليلى إلى امرأة أن تعاين جسدها وتقول لها عن المجنون: «أَصَدَقَ في صفتي أم كذب؟» فترد المرأة: «لا والله بل صدق.»(9) فكرة أن المجنون يعرف جسد ليلى حقًا ليتمكن من وصفه بدقة، كما تقترح الحكاية آنفًا، هي جوهر هذا الوصف، إذ تُصوَّر ليلى بأنها «مستغرقة بسرور في الحديث إلى صاحبتها وتأمُّل ما إذا كان الشاعر العاشق قد وصف جمالها الجسدي بإطراء، وما إذا كان شعره يعكس جمالها على نحو جذَّاب.»(10) بيد أن أبيات المجنون تطرح رؤية أخرى بشأن مظهر ليلى من وجهة نظر عاذل يربطها بالقِصَر والقبح، لكن المجنون يصر على حبِّه لها بالرغم من رأي الناقد:

يقول لي الواشون: ليلى قصيرةٌ

فليتَ ذراعًا عَرضُ ليلة وطولها

وإنَّ بعينيها – لعمرُكَ – شُهلةً

فقلتُ: كرامُ الطيرِ شُهلٌ عيونُها

وجاحظةٌ فوهاءُ، لا بأسَ إنَّها

مُنى كبدي بل كلُّ نفسي وسُولُها(11)

هكذا نرى أن هذا النوع من التناقض في الأخبار والروايات يُظهر التباسًا في تصوير النساء اللاتي أحبهن الشعراء العذريون. الأوصاف المتناقضة لبثينة مثلًا يدفع خريستو نجم إلى القول: «إن شخصية بثينة غاية في الإبهام والغموض، وأوصافها واهية الخطوط قليلة الغناء. فهي جميلة قبيحة، وبدوية وحضرية، وعفيفة وماجنة، تعرف شظف العيش في الصحراء وترف الحياة في المدن، يزوجونها بدويًّا ليمحو العار عنها، ثم يعزُّونها بموت عشيقها ويترحَّمون عليه. تراها في أحياء بني عذرة كما تدخل على الخليفة في بلاطه، فكأنها أعجوبة الكائنات وموحِّدة المتناقضات.»(12)

إذا، يورد نص عربي قديم واحد في الوقت ذاته روايات متناقضة، ويبدو أن الأصفهاني كان يدرك ما تعكسه رواياته من غموض وتناقض، ولذلك اختار تخليصا بسيطا هو إسناد المسؤولية إلى الراوي،(13) وباعتماد هذا الحل، يحفل «كتاب الأغاني» بالروايات المتناقضة. ولا بد أن نتذكر هنا أن هذا الخلط لم يكن مقتصرا على أخبار العذريين ولا حتى على كتاب الأغاني، إذ يقول القاضي: «المؤلف نفسه قد يغيِّر مادة كتابه عن قصد أو غير قصد لأنه يُملي الكتاب في وقت ما ثم يعود إلى إملائه بعد مضي فترة من الزمان فيكون التغيير»، (14) ويتفق القاضي مع محمد أحمد خلف الله في تفريقه بين الراوي والمؤرخ، على اعتبار أن راوي الأخبار لا يهتم بالحقيقة التاريخية قدر اهتمامه بالإطراف والإمتاع، أو أن «قصد المؤرخ نفعي مداره على المرجع، أما قصد الراوي فجمالي مداره على الفن».(15)

وفي أخبار العذريين في كتاب الأغاني نجد، جليّا، ظاهرة الاضطراب التي قد تصل حد التناقض، والأصفهاني نفسه كان على وعي تام بها، إذ يقول في مقدمة أخبار المجنون: «أنا أذكر مما وقع إليَّ من أخباره جُمَلا مستحسنة، متبرئا من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره وينسبها من حكيت عنه إليه، وإذا قدمت هذه الشريطة

برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب».(16) فلماذا يضطر الأصفهاني إلى مثل هذا التبرؤ من أخبار ينقلها بنفسه؟ ذلك أن الاضطراب في أخبار المجنون يصل إلى حد إنكار وجوده نفسه:

«وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن العتبي عن عوانة أنه قال: المجنون اسم مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصل ولا نسب، فسئل من قال هذه الأشعار؟ فقال: فتى من بني أمية. وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعرا مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعرا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح. وأخبرني محمد بن خلف وكيعٌ قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني الحكم بن صالح قال: قيل لرجل من بني عامر: هل تعرفون فيكم المجنون الذي قتله العشق. فقال: هذا باطلٌ، إنما يقتل العشق هذه اليمانية الضعاف القلوب. أخبرنا أحمد بن عمر بن موسى قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثني أيوب بن عبابة قال حدثني من سأل بني عامرٍ بطنا عن المجنون فما وجد فيهم أحدا يعرفه».(17)

لقد لاحظ محمد الخبو أن التناقض في رواية أخبار المجنون لا ينحصر في كتاب واحد، وإنما في عدد من الكتب: «فقيس بن الملوح في كتاب الأغاني غير قيس في كتاب ابن عربي «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»، فعندما نقرأ خبرا عن المجنون نفاجأ بانقلاب المجنون على ليلى.. هاهنا نجد أنفسنا بإزاء نصوص ظاهرها أخبار تنقل وقائع تتعلق بالعشاق وباطنها صنعة وتشكيل وتزيد وعدم توفية لحقيقة الخبر المرجعية».(18) هناك إذا هذا الاضطراب في الأخبار الذي قد يصل أحيانا حد التناقض، فهل يمكننا النظر إليه باعتباره محاولة لترك الباب مفتوحا للنقاش والاحتمالات والتوقعات؟ على أن هذه الظاهرة ليست مقصورة على الأخبار، بل نجدها تتجلَّى في القصائد العذرية مثلما تظهر في الأخبار المروية عن الشعراء؛ يقول المجنون:

فإن كان فيكم بعلُ ليلى فإنني

وذي العرش قد قبَّلت فاها ثمانيا

وأشهدُ عندَ اللهِ أني رأيتُها

وعشرون منها إصبعا من ورائيا(19)

لكنه يقول أيضا:

إذا سُمْتُها التقبيل صدَّت وأعرضَتْ

صدودَ شموسِ الخيل صلَّ لجامها

وعضَّت على إبهامها ثم أومأتْ

أخافُ عيونا أن تَهُبَّ نيامها(20)

لعل المواقف التي قيلت فيها هذه الأبيات كانت مختلفة، ولربما قالها المجنون في مراحل متفاوتة من علاقته بليلى، التي يُحتمل أن تكون قد اتخذت أشكالا متباينة. ما يشغلنا هنا هو هذا التناقض -إذا جاز لنا تسميته على هذا النحو- الذي يظهر في الغزل العذري، فهو يؤكِّد الغموض الذي يكتنف فكرة الاتصال الجسدي بين العاشقين. لكن هذا الغموض لا يقتصر على أخبار العذريين، فبعض هذه الأخبار والأشعار رُوِيَ كذلك عن عمر بن أبي ربيعة، الشاعر الذي صنَّفه الباحثون بأنه مناقض للشعراء العذريين، وأنه زعيم المدرسة الحسيَّة في الشعر العربي. من جانب آخر، يعترف ابن أبي ربيعة بأنه فعل كل ما قاله في شعره لكنه استغفر الله.(21) إلا أن ثمَّة رواية أخرى تخبر عنه أنه قال: «وربّ هذه البنِيَّة، ما قلتُ لامرأة قطُّ شيئا لم تقله لي، وما كشفتُ ثوبا عن حرامٍ قطُّ».(22) وهكذا، فإن هذه اللعبة موجودة منذ زمن طويل في النصوص الأدبية العربية القديمة. إلى جانب الروايات الشائعة ثمَّة أيضا روايات أخرى أقل شهرة تكشف رؤى أخرى عن هذا الموضوع ذاته، ومن حين لآخر، تلمّح الرواية إلى تفسير مختلف، فعلى سبيل المثال، في القصة التي ذُكِرت آنفا عندما سأل جميل بثينة أن تجزيه على شغفه بها، لم يكن سؤاله هذا في الظاهر إلا اختبارا لعفتها، ورفضها استدراجه لها كان في الواقع هو ما يبتغيه. تُظْهِر هذه القصة عفّة العاشقيَن العذرييَن، لكن ثمَّة إشارة فيها قد توحي بموقف مختلف. يشير باقي القصة إلى أن والد بثينة وأخاها أتيا مشتملين على سيفين وأخذا يراقبان العاشقين، وأنهما بعد سماعهما هذا الحديث انصرفا بعد أن قال أبوها لأخيها: «قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها»>(23)وكما يلاحظ بورغل قائلا: «إذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أن جميل يبدو أنشط من نظرائه العذريين وأدهى منهم، فقد لا نستبعد أنه في هذه الحال كان جادّا في سؤاله بثينة، لكنه عندما خامره شعور بتحفُّظ بثينة الخجول أو بحضور أهلها أو بكلا الأمرين، انسحب أو توقَّف بذريعة العفة».(24)

إن معظم الدراسات العربية المعاصرة تسعى إلى إغفال هذا التناقض بالإعلاء من شأن النصوص التي تركِّز على عفّة الشاعر العذري،(25) إذ عادة ما تُعزى هذه العفّة إلى تأثير تعاليم الإسلام في موقف الشاعر، وقد رفض الدارسون بعض النصوص التي تحوي صورا حسيَّة زاعمين أنها خاطئة الإسناد، وذلك من دون تقديم أدلة وجيهة. ولذا لا تتناول هذه الدراسات الغزل العذري بوصفه ظاهرة شاملة يتقاطع فيها الواقع والتاريخ والخيال، بل تنتقي ما يستهوي الباحثين وما يميلون إلى الاعتقاد بأنه فضيلة الغزل العذري.

ومن ثم، بدلا من إغفال التناقض في الشعر والأخبار المنسوبة إلى الشعراء العذريين، يجدر بالمرء أن ينظر إلى الأمر من منظور ثنائية الحضور الجسدي وغيابه على السواء. ويمكن أيضا التفكير في أن الفرق بين الشعر العفيف والشعر الحسي يمكن أن يُعزى إلى مزاج الشاعر أو المرحلة التي يمر بها، أو كما يحاجج محمد حسن عبدالله بأن الفرق بين العذرية والحسية في التراث العذري قد يكون راجعا إلى فرق بين شِعر الصِّبا وشعر التقدُّم في العمر.(26)

وفق ما سبق، يجدر بالمرء التساؤل عمَّا إذا كان الشاعر العذري يمر بمراحل مختلفة في علاقته بمحبوبته؟ أم أنه كان يلعب ألعوبة الاقتراب من موضوع رغبته والابتعاد عنه؟ يدنو من محبوبته ليلبِّي رغبته، ويبتعد عنها ليلهب عشقه. واضحٌ أن العواطف الإنسانية في مسائل الحب شديدة التعقيد ولا يمكن تصنيفها ببساطة إلى فئتي العفّة والحسية، مع أنهما ليستا بالضرورة فكرتين متعارضتين. إن هذه الحقيقة تسِم شعر الحب بطبيعة متضاربة، لأن أحاسيس الشاعر تتذبذب بين صورة محبوبته الممجَّدة البعيدة المنال ورغبته الفطرية في الاتحاد بها. وهكذا لا يجدر بنا أن نبتر النص، بل ينبغي أن نؤمن أوَّلا بوجود ظاهرة الغزل العذري، وبأن أخبار الشعراء جزء أساسي من وجودها، ثم نحيِّد الموثوقية التاريخية لهذه الأخبار، إذ لا ينبغي إغفال دور الرُّواة هنا، لأنهم أولوا قصص الحب اهتماما خاصّا لانتشارها بين العامة. هذا القول لابن قيِّم الجوزية (751هـ/ 1349م) يشرح هذا الانتشار بوضوح: «ويكفي أن يكون الأعرابي الذي لا يُذكَر مع الملوك ولا مع الشجعان الأبطال يعشق ويشتهر بالعشق فيُذكَر في مجالس الملوك والخلفاء ومن دونهم، وتُدَوَّن أخباره وتُرْوَى أشعارُه ويبقى له العشقُ ذِكْرا مُخَلَّدا، ولولا العشق لم يُذْكَر له اسم ولم يُرْفَع له رأس».(27)

من الممكن القول إن رواة القصص حاولوا إرضاء جمهورهم بسرد تفاصيل عن لقاء العشاق وأحاديثهم، وفي الوقت نفسه، حرصوا على الحفاظ على حدود التقاليد وتوجيه الشعراء إلى السبيل القويم والمقبول ضمن هذه التقاليد. ويتضح هذا الميل إلى تخليد التقاليد المحافظة في رواية عن عمر بن أبي ربيعة تزعم أنه لم يتصرَّف وفق رغبته أبدا على الرغم من أن شعره يزخر بمشاهد الحب الحسيَّة.(28)

تُبْرِز هذه المقارنات، على نحو ملحوظ، التناقض الكامن في تراث الغزل العذري، ويمكن المجادلة بأنها تُظْهِر اهتماما بفكرة الاتصال الجسدي بين العشاق العذريين. وسواءٌ أَألمحت الروايات إلى حقيقة أن الاتصال الجسدي تحقق في علاقاتهم، أم ادَّعت غيابه، فإن النتيجة ما زالت هي نفسها: الجسد يقبع في قلب التراث العذري. إن العجز عن امتلاك المحبوبة وغيابَ جسدها لا يزيدان العاشق إلا رغبة وتولُّها، لأن سمتين كهاتين تسترعيان انتباه العاشق أكثر إلى ما حُرِم إيَّاه. وهذا إنما يؤكِّد مكانة الجسد المتميزة عبر ثنائية حضوره وغيابه. وينطوي مفهوم العفة نفسه على إنكار الاتصال الجسدي إنكارا واعيا غالبا ما يفضي إلى وعي قوي بالجسد وإدراك له.

الهوامش:

1. ابن قتيبة، «الشعر والشعراء»، ص441.

2. السابق، ص442.

3. ديوان جميل، ص83.

4. ديوان جميل، ص49.

5. الأصفهاني، «الأغاني»، ج8، ص298.

6. منظور، «مختصر تاريخ دمشق»، ص114-115.

7. زكريا، «الجليس الصالح والأنيس الناصح»، ص452.

8. ابن قتيبة، «الشعر والشعراء»، ج2، ص567.

9. الأصفهاني، «الأغاني»، ج2، ص368.

10. Khan, Sexuality and Secrecy, p. 273

11. ديوان المجنون، ص252.

12. نجم، «جميل بثينة والحب العذري»، ص116.

13. تتكرَّر هذه العبارة في «الأغاني»: «والعُهدة على الراوي».

14. القاضي، «الخبر في الأدب العربي، دراسة في السردية العربية»، ص172، ويتصل بهذه الفكرة نقاش طويل طرحه القاضي في كتابه عما إذا كان الأصفهاني مؤلفا أم جامعا للأخبار فحسب.

15. السابق، ص189.

16. الأصفهاني، ج2، ص335.

17. السابق، ص 333.

18. الخبو، «أخبار العشاق وعوالمهم، مداخل إلى سرديات بلاغية»، ص16.

19. ديوان المجنون، ص237.

20. السابق، ص191.

21. الأصفهاني، «الأغاني»، ج1، ص87.

22. السابق.

23. الأصفهاني، «الأغاني»، ج8، ص298.

24. Bürgel, Love, Lust, and Longing, p. 94.

25. باستثناء بعض الدراسات التي تفضي إلى مزيد من النقاش في الموضوع مثل كتابَي العظم «في الحب والحب العذري»، ولبيب «سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا».

26. عبدالله، «الحب في التراث العربي»، ص245.

27. ابن قيِّم الجوزيَّة، «روضة المحبين ونزهة المشتاقين»، ص174.

28. الأصفهاني، «الأغاني»، ج1، ص87.

جوخة الحارثي أكاديمية وروائية عمانية

زوينة آل توية مترجمة عمانية