نزهة في تاهيتينوا نوا
24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025
بسمة شيخو -
لطالما كانت اللّوحات الفنيّة عوالم خفيّة أمام المتلقي؛ تثير الأسئلة، وتنثر علامات الاستفهام والتّعجب من حولها، كلٌّ يحاول تفسيرها وفق خلفيته الثّقافية وخبرته الحياتيّة، ولا يختلف المتلقّي العادي عن النّاقد المحترف إلا بأمرين اثنين: أولهما قدرة النّاقد على تحليل اللوحة سيميائيًا، فهو قادرٌ على تفكيك العمل الفني لمجموعةٍ من الرّموز والشّيفرات؛ يضعها على الطاولة، ويصنفها لدالٍ ومدلول باحثاً عن التّأويل المنسجم مع المعاني المضمرة داخل الأشكال والألوان وفق دلالة الإيحاء أو دلالة المطابقة، أما الأمر الآخر فهو معرفته بجانب من حياة الفنان الخاصة التي بالطبع ستنعكس -ولو بطريقة غير مباشرة- على أعمال؛، فابن الصّحراء مختلف بنتاجه عن ابن البحر، وابن المدينة مختلف عن ابن الريف. وهذا لا يظهر في النتاج التشكيلي فقط، بل في النتاج الإبداعي بشكل عام. ومن الناحية الأدبيّة نجد علي بن الجهم مثالاً واضحاً؛ فقد مدح المتوكل بأنه كالكلب وكالتيس، وبعدها عندما سكن بغداد أنشد (عيون المها بين الرّصافة والجسرِ).
إذن؛ إذا ما تسلّلنا لعالم الفنان سنعرف كيف نفكّ شيفرات أعماله، ما سيزيد متعة تلقّيها. وقد يكون التّسلّل هذا بجهدٍ خاص منّا، فنتتبع الآثار، ونقرأ ما كتب عنه وما نشر؛ حتى نحصل على ما يُشبع فضولنا، ويمنحنا بعض الإجابات، أو ربما يتواطأ الفنان معنا، ويسجل مذكراته، فنستطيع من خلالها فهم الكثير من أعماله كما حصل مع فريدا كالو التي كانت مذكراتها دليلاً لتحليل وتفسير لوحاتها المأساوية، وكذلك فعل بول غوغان بمذكراته «نوا نوا- مذكرات تاهيتي» التي تأتي كتسجيلات لأهم ما عايشه هناك وكأنّها بكلّها إجابة لسؤال بودلير: قل لي ماذا رأيت؟ الذي به بدأت المذكرات ثمّ بتسلسل تقليدي سارت الأحداث من وصول غوغان لتاهيتي عام ١٨٩١ في ٤ أبريل حتى يوم المغادرة ٣٠ أغسطس ١٨٩٣، العنوان (نوا نوا) بالّلغة المحلية وتعني «الشّذى».
من خلال مطالعة المذكرات سنكتشف العمق الذي تركته تاهيتي في أعمال غوغان، وسنعرف تفسير بعض الرّموز، وسنجد مبرراً لكثير من التّفاصيل. والأهم من ذلك أنّنا سنتأكد أنّ هاجسه بزيارة تاهيتي والحياة هناك لسنوات كان مستحَقاً. في البداية يعرض الفنان وصوله لتاهيتي، والتحاقه بالبعثة الدّبلوماسية الفرنسية، ثم رغبته بالانتقال بعيداً عن «بابيتي» – مكان إقامة البعثة- التي تحاكي الحضارة الأوربية وعن ذاك يقول: (وهل قطعت هذه المسافات لأجد أمامي الشّيء ذاته الذي دفعني للهروب). شهد في بابيتي مراسم وفاة الملك بوماري ومن بعدها انتقل لـ«ماتايا» حيث بدأ اللقاء الحقيقي مع تاهيتي والمارويين نساءً ورجالاً قبل أن نضيء على ما جذبه لنّساء تاهيتي سنقرأ ما كتبه عن رجلٍ من السكّان الأصليين الذين لهم حصة من أعماله الفنيّة بالطبع ليس كالنساء أولات حصة الأسد:
(لجسده ليونة حيوان، ولدانة رجل الغابة. سبقني بعدة خطوات، وبدا لي بأنني أرى أمامي كل النباتات الحية الرائعة تختلط وتحيا وتتجسد فيه منها إليه، ومن خلاله ينطلق ويتحرر عبير جمال ساحق. أكان هذا الذي يسير أمامي إنساناً؟ هل هو ذلك الصّديق الساذج الذي جذبني إليه مزيج بساطته وتعقيده؟ ألا يمثل هنا أمامي الغابة بحد ذاتها الغابة الحيّة؛ لا جنس لها، ومع ذلك تغويك؟).
كان العري مفاجئاً لغوغان؛ فالنّسوة عاريات أحياناً أو عاريات الصّدر غالباً، وهذا السائد؛ لذا نجد أغلب رسومه لنساء تاهيتي تتسم بثيمة العري. ومن معايشة السكّان الأصليين فهم غوغان هذا العري (هذا التقارب بين الجنسين جعل علاقاتهم سهلة. حالة التّعري الطّبيعية الدّائمة أبعدت أذهانهم عن مشاغل خطيرة حول مسألة «الغموض» التي تولّد توتراً شديداً لدى الشّعوب المتمدّنة بحيث تقود إلى مفهوم «الحادثة السعيدة»، وألوان الحبّ السّري والسّادي. واكتسب سلوكهم وحركاتهم وعاداتهم براءة طبيعية نقاء كاملاً؛ الرّجال والنّساء رفاق وأصدقاء أكثر منهم عشاقاً. يسكنون معاً باستمرار، يتشاركون في الأفراح والأتراح، وحتى أن مفهوم الخطيئة غير معروف عندهم). في بداية سكنه في ماتايا كان يراقب السكّان نساءً ورجالاً، وكأنّهم كائنات غريبة تشاركه الكوكب. وهذا الشّعور كان متبادلاً فوجوده في الأدغال التاهيتية، وهو الأوربي الذي عادة ما ترتبط جنسيته بالجاسوسية جعل وجوده مريباً، لكن شيئاً فشيئاً زال الخوف بينهم وحلّت الألفة (وكما كنت بالنسبة إليهم كانوا بالنسبة إلىّ موضوعاً للمراقبة وإثارة الدهشة والتعجب. كنت أبسط طرق تعاملي معهم. كما كان كل واحد منهم إنساناً متوحشاً في نظري، كذلك كنت متوحشاً في نظر كلّ متهم. من منا كان على خطأ؟).
(بدأت العمل فوراً دون تردد بحرارة وحماسة شديدين. كنت مدركاً بأن سيطرتي عليها كموديل تعتمد على مهارتي كمصوّر تماما كما كنت مدركاً أن الموضوع بالنسبة إليها هو بمثابة دعوة مغرية لا تقاوم). كان غوغان مدركاً أنّ قبول المرأة التاهيتيّة أنْ تكون موديلاً تقف أمامه ليرسمها نابعٌ من رغبتها بدخول مغامرة مختلفة مع رجلٍ أوروبي. وببساطة يمكنها قلب الطّاولة عليه بأيّ لحظة؛ لذا لا وقت ليضيعه. لم يرها جميلة في البداية بدت له النّسوة هناك وكأنّهن من آكلات لحوم البشر نساءٌ متوحشات. وهذا التّوحش بالقسمات منحهنّ تميّزاً خاصاً (انحسر ثوبها بلطف عن جسدها؛ جسد يحمل الكون فيه. إنها حتماً أميرة، وتنحدر من سلالة شهمة أبية. رأسها الوحشي القوي يعلو كتفين عريضين. في البداية لم أر فيها سوى فكي آكلي لحوم البشر الأسنان جاهزة لتنهش. والنظرة مترصدة كحيوان ماكر مفترس. وجدتها قبيحة جداً على الرغم من جبهتها الجميلة التي تعلوها مسحة نبل.). فتلك النسوة لا يشبهن نساء أوروبا اللاتي اعتاد عليهن واستساغ جمالهن؛ فالجمال هو عادة مثل أي شيء آخر، كأن تعتاد شكلاً ما ورويداً رويداً تبدأ بتفحصه واكتشاف مواطن الجمال فيه فتراه جميلاً. وإذا ما رجعنا للقاعدة الجماليّة التي تقول بأنّه إذا بلغ القبح حدود الدّمامة صار من وحي تفرده جمالاً؛ فإن اختلاف نساء تاهيتي عن سواهن يستطيع منحهن جمالاً. ورغم أن غوغان جزم بدايةً بقبحهن، إلا أنّه سرعان ما اكتشف سحر جسد الموديل، وجمال فمها لا الشّكلي فقط، بل بمعنى أعمق: (لم تكن حسناء حسب مفاهيمنا الجمالية التّقليدية، ولكنّها كانت جميلة للغاية تمتزج خطوطها وانحناءاتها بانسجام رفائيلي. فمها صنعه نحاتٌ ماهر عرف كيف يرسمه في خط واحد متحرك يختلط فيه الفرح كله مع العذاب كله). رسم غوغان الكثير من السكيتشات والرّسوم السّريعة، وبحث طوال الوقت. عمل بجدٍّ وأنتج خلال هذين العامين أكثر من ستين لوحة أرسل عدداً منها إلى معرضين في كوبنهاغن الأول مارس ١٨٩٢ تضمّن ١٣ لوحة، والثاني في مارس ١٨٩٣في جمعية الفن الحر ١٥ عملاً. وبعد عودته لفرنسا نظّم معرضاً في نوفمبر في صالة «دوران رويل» ضمّ منحوتتين و٤٤ لوحة، منها لوحات: سهول تاهيتية، اسمها فايروماتي، ماذا هل تغارين؟... ومن بعد هذا المعرض كتب «نوا نوا»، وضمّنه مجموعة من الرّسوم منها لوحة بعنوان «امرأة تاهيتية مع زهرة». أُنجزت اللوحة عام 1891 وتُعرض حاليًا في متحف ناي كارلسبرع غليبتوتيك في كوبنهاغن الدنمارك. تكمن أهميتها في كونها أول بورتريه لغوغان في تاهيتي، وكذلك لوحة «يوم الآلهة» التي تُعرض حاليًا في معهد الفن بشيكاغو التي تُصوّر مشهدًا من تاهيتي؛ حيث تتوزّع شخصيات بشريّة حول تمثال الآلهة «هينا» -وقد أفرد غوغان صفحات من مذكراته يتحدث عن «هينا»-. تُقسم اللّوحة إلى ثلاثة مساحات أفقيّة: الأعلى يحمل المنظور البعيد للمشهد الطبيعي بشخوصه وتكويناته، أما المساحة الوسطى فتحوي ثلاثة أجساد تُشير بتكويناتها ووضعياتها إلى الحالات الثّلاث للإنسان: الولادة، والحياة، والموت -من اليمين إلى اليسار-. وفي هذه المذكرات لوحة من أشهر لوحات غوغان رسمها عام 1892 خلال إقامته في تاهيتي بعنوان «متى تتزوجين؟» تُصور اللوحة فتاتين من تاهيتي: إحداهما ترتدي زيًّا تقليديًّا وتُمسك بزهور، والأخرى ترتدي فستانًا أوروبيًا. وتُشير اللوحة إلى طقس الزواج الذي ذكره غوغان في «نوا نوا»، وبيعت عام 2015 بمبلغ 300 مليون دولار، لتصبح واحدة من أغلى اللوحات في العالم.
بقيت تاهيتي في ذاكرة غوغان حتى بعد عودته لفرنسا ففي عام ١٩٠١رسم لوحة بعنوان «أجسادهن ذهب» هذه الصورة علقت بخياله من نساء تاهيتي، وذكر هذا التفصيل في نوا نوا (لقد سحرتني الأشكال الذهبية عند الجداول وعلى شاطئ البحر، ولكن لماذا ترددت في وضع عظمة الشمس على قماش الرسم؟ إنها التقاليد الأوروبية العريقة!!). تُظهر جميع هذه اللّوحات استخدام غوغان المميّز للألوان القويّة والجريئة بمساحات واسعة ممتدّة دون تدرجات لونيّة؛ لا وجود لألوان حياديّة، ودون اعتبارات للدّائرة اللونية وتكامل الألوان وانسجامها وما إلى ذلك. وذاك ليس بسبب انتمائه للمدرسة ما بعد الانطباعيّة فقط؛ بل لأنّه سكن بيئة بدائية بكر تصرخ بالحياة، وتنبض بالألوان القويّة عن ذلك يقول في مذكرات تاهيتي: (كان رسم الأشياء كما أراها أمراً بسيطاً للغاية: أن أضع دون حسابات معقدة الأحمر قرب الأزرق...). الأشكال لم تحتوِ أي تفاصيل دقيقة، لكنّها تحمل ملامح الشّخصيات المرسومة، والعناصر من تضاريس طبيعيّة (جبال، سهول، بحر، نهر...)، أشجار، فواكه، تماثيل...
في النّهاية نستطيع أن نقول: إن تاهيتي صنعت هويةً لغوغان، ومنحته البصمة المميّزة لأعماله. وهذه المذكرات دليل إلى عمق الأثر الذي تركته تلك البلاد ليس من الناحية الشكلية فقط كأشكال البشر والطبيعة وما إلى ذلك، بل كأفكار وعقائد وأساطير خاصة بتاهيتي. آمن بها غوغان خلال وجوده هناك، وربما بقي إيمانه بعد العودة أيضاً؛ فحادثة السّمكة التي اصطادها وعلق الخطاف بفكها الأسفل وفق أساطير تاهيتي تعني أن الزوجة تخون زوجها. فعاد غوغان من الصّيد لزوجته التاهيتية، وتشاجرا بسبب خيانتها! وقد أفرد الجزء الأخير من المذكرات لعرض معتقدات تاهيتي والآلهة الموجودة هناك وأساطير الخلق كما ذكر تفصيلاً مهماً عن فكرهم عن المادة هذا الفكر يعتبر رديفاً للقاعدة الفيزيائية التي تقول بأنّ «المادة لا تفنى، لكنّها تنتقل من شكل لآخر».
الآن أكاد أجزم أن أحدنا إذا ما تأمّل لوحات غوغان وقرأ «نوا نوا» بحب وشغف سيشعر كأنّه حظي بنزهةٍ في تاهيتي حقيقةً.
1- كل النّصوص ما بين قوسين هي مقاطع من (نوا نوا مذكرات تاهيتيبول غوغان).
بسمة شيخو كاتب سورية متخصصة في الفن التشكيلي
