عمان الثقافي

نحمي أنفسنا بالقراءة أم نذهبُ للشقاء بأرجلنا !

30 مارس 2022
30 مارس 2022

عوض اللويهي: المعلم الذاهلُ عن محيطه المُستلذ برفقة كتاب كان مُلهمي الأول

أحمد عبداللطيف: لا تُحَسِنُ حيوات الناس ولا تزيدهم تعاسة وإنّما تُعمق الفهم

نوفل نيوف: نعمةٌ لا تخضع لحتمية التحّول والضمور، بها ننضجُ ونحافظُ على توازننا

ماري طوق: لم أشتهِ عمى بوخيس وكانت أذناي صمّاوين لا أصغي إلا لما تقوله الكلمات

ريم داوود: أعانتني على فهم نفسي ومن حولي ولم أجرب حياة تخلو منها

فتحية الصقري: بدت كمحاولة إنقاذ حياة شخصٍ ما مهدَّد على الدوام بالغرق أو الانطفاء

لينا بدر: أذهبُ إليها مصحوبة بالافتتان كما تذهب أليس إلى بلاد العجائب

دينيس أسعد: تعرفتُ عليها في جرائد أبي بعمر الرابعة فتجلتْ كأكثر الأماكن أمانا.

هل يملكُ القُراء تصورا لماهية حياتهم فيما لو أنّهم لم يقرأوا يوما؟ هل ثمّة احتمال ضئيل؛ لأن يكونوا غير ما هم عليه الآن! وهل ينعمُ القراء برفاهية القراءة حقًا أم أنّهم يذهبون بأرجلهم إلى الشقاء المُحتم! الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا في كتابه «القارئ الأخير»، يُجْمِلُ أشكالًا لا نهائية من القُراء، ليُحرض المخيلة على تصورهم وهم يُعيدون تركيب العالم، فهنالك من يقرأ النص، وهنالك من يُشوهه، هنالك المُدمن الذي لا يتوقف عن القراءة، وهنالك الأرِق، هنالك المُتطرف والشغوف والموسوس، وهنالك أيضًا من يحمي نفسه بالقراءة. فالقراءة تجربة مُعايشة فردية وانعزالية مُكثفة، تتركُ بكل واحد منّا بصمتها ونحن نقتفي أثر حيوات أخرى.

يطول اليوم أكثر من قرن

إلى حين طرح هذا السؤال، لم تتخيّل الكاتبة والمترجمة السورية لينا بدر حقيقة حياتها دون قراءة، كأنّ الأمر بديهي في مسيرة الحياة. لكن سؤالنا أيقظ في ذهنها نقيضه، كيف كانت ستكون حياتها لو لم تكن تقرأ حقا؟، وبدا أنّه من الصعب عليها مجرد تصور حياتها دون كتاب أو قراءة، تقول مستنكرة: «كنتُ سأكتفي ربما بما تقدّمه لي مصادر الإعلام والإنترنت من معلومات وخبرات، تطغى فيها الصورة وتملأ الوعي لتستحوذ عليه دون أن تترك مجالاً للمخيلة والتأمل». ويخبرنا الأديب والمترجم السوري المقيم في كندا نوفل نيوف، أنّ من بين ما تمنحه الحياةُ للإنسان ممّا لا حصْرَ له من نِعَم الصحة والحب، الصداقة والجمال، الشباب والنجاح، الطموح والترحال، الغنى والقوة والأحلام، هناك نعمةٌ واحدةٌ لا تخضع لحتمية التحّول والضمور والزوال، إنّها نعمة القراءة، تلك التي تكسرُ حدود الزمن، تفتحه وتُطيله، «ويطول اليومُ أكثرَ من قرن»، كما وسَم القرغيزي جنكيز آيتماتوف 1928-2008 إحدى رواياته.

التورط الباكر بصفتنا قُراء

فكرتْ ريم داود الكاتبة والمترجمة العُمانية هي الأخرى لبعض من الوقت في المسألة، فوجدتْ أنّ حياتها، كما هي عليه الآن، بكل إنجاز تحقّق فيها، هو نتيجة كونها ابنة لأبٍ يقرأ، ويُدرك أهمية التعليم والعمل والقراءة وممارسة الهوايات والأنشطة. بينما لا تذكر الكاتبة والمترجمة اللبنانية ماري طوق نفسها إلا بصفتها قارئة، حيث لم تجد أيّ صعوبة في تهجئة الكلمات وسرعان ما توطّدت علاقتها بها فأنست إليها وإلى معانيها والعوالم التي ترسمها، وكانت صحبة لا تعرف الخيانات كما تقول: «بدأتُ بقراءة كتبي المدرسيّة كلها خلال فترة قصيرة لأكمل المسيرة مع كتب أخي الأكبر. لم أكن أساعد والدتي في أمور المنزل وكانت أذناي صمّاوين، أصغي فقط إلى ما تقوله الكلمات في الكتاب الذي استقرّ بين يديّ، وإلى الشذرات التي تعجبني فتتصادى في رأسي وترافقني أينما ذهبت». وفي مكان آخر من العالم كانت دينيس أسعد في الرابعة من عمرها عندما اكتشف أهلها أنّها تقرأ نصوصًا في جريدة أبيها، هذا ما قالته لنا الحكواتية الفلسطينية والباحثة في أدب الأطفال، وتابعت قائلة: «في أيامها لم يكن هنالك فيسبوك، ولم يكن الأهل يُهللون لأطفالهم على كل صغيرة وكبيرة، لكن الأمر شجّع أهلي لأن يلبوا طلب مربية صف البستان بنقلي للصف الأول وأنا لم أتجاوز الخامسة من عمري إلا بقليل».

نقطنُ في المنطقة الرمادية

«الأمر أعمق من مسألة الأفضل والأسوأ»، هكذا تبدأ الشاعرة العُمانية فتحية الصقرية حديثها معنا، وتتابع قائلة: «القراءة بالنسبة لي أشبه بمحاولة إنقاذ حياة شخصٍ ما مهدَّد، على الدوام، بالغرق أو الانطفاء؛ الغرق الذي يؤدِّي إلى الموت؛ موت العاطفة والروح.. أنْ تطفو مع الأيام، جسدًا فارغًا على السطح، بنظرة باردة، وقلب جامد، يخيفني. القراءة أشبه بالانعتاق من ألمٍ ما، من قيودٍ كثيرة، من أسئلة الوجود والعدم». ويتفق معها الكاتب والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف قائلا: «لا أظن أنّ دور القراءة تحسين حيوات الناس، ولا زيادة مساحة التعاسة فيها». هكذا يباغتنا ويتابع قائلا: «من تجربتي كقارئ، فالقراءة تجعلنا أكثر فهمًا لحياتنا، أكثر تأملًا فيها، وأكثر تسامحًا مع المختلفين معنا. لقد ظننتُ في سنوات الطفولة والصبا أننا متشابهون، أنّ الناس لكونهم ناسًا تجمعهم نفس الصفات والآلام والمشاعر، ويتلقون العالم كما أتلقاه أنا. ما فعلته القراءة، أكثر بكثير من التجربة الشخصية، أنّها فتحتني على عالم أكثر رحابة، لا يكون فيه الناس أبيض أو أسود، وإنّما يقعون أغلبهم في المناطق الرمادية، حيث نحملُ بداخلنا الخير والشر معًا، لا ملائكة ولا شياطين. في المنطقة الرمادية نتعاطف مع أمثالنا ومع المختلفين عنا؛ لأننا جميعًا هنا».

الانبهار الأول

يرتد بنا الكاتب والشاعر عوض اللويهي إلى نقطة البداية أو الشرارة الأولى التي انعقدت فيها روابط الوصل مع القراءة قائلا: «في الصف الخامس الابتدائي رأيتُ مدرس اللغة العربية يحمل كتابًا في يده غير كتاب المنهج الذي كان يدرسنا منه، وفي أوقات فراغه كنتُ ألمحه مندمجًا في القراءة ذاهلًا عن محيطه رافعًا الكتاب بيده اليمنى بحيث كانت السبابة والوسطى والبنصر تسند الكتاب من جهة الخارج فيما الإبهام والخنصر تفردان الكتاب من جهة الداخل، كان المدرس يرفع رأسه في شموخ وانتشاء. وفي كل مرة أحاول الاقتراب منه لسؤاله عن الكتاب الذي يقرأه أخشى أن أقطع عليه تلك الخلوة اللذيذة. في الأخير تمكنت من سؤاله -دون أن أقول له عن ترددي الطويل وانبهاري بطريقة إمساكه بالكتاب- أو بالأحرى لم يكن سؤالا بمقدار ما كان أفضاء برغبتي في القراءة، فقال لي: «إذا أردت أن تقرأ فعليك أن تقرأ ما يقع في يدك وأن تقرأه كاملا حتى وإن لم تفهم، عليك أن تقرأ وتقرأ وتقرأ حتى تفهم، خذ أي جريدة وأبدأ بها»، هذا التوجيه من المدرس هو ما فتح باب القراءة أمام عوض اللويهي حتى الآن، ولا تزال تلك النصيحة تتجدد في نفسه مع كل قراءة.

عضو نابت عند أطرافي

يلفتنا الوصف الذي تقدمه لينا بدر عن القراءة باعتبارها عضوا زائدا نابتا عند أطرافها تنهلُ منه بقدر ما يمتص من نسغ روحها ويبقى بين يديها حيا نابضا لا يذبل، «إنّه التعويذة التي تحميني من الشرور، يبقى بلصقي أستمد منه الطمأنينة والأمان»، ويؤكد نوفل نيوف أننا في القراءة نعيشُ أكثر من حياة وتجربة في أنواع الشعر والسرد والحوار قائلا: «نجوب فضاءات معرفة التاريخ والأزمنة والشعوب، نتقلّب في خضمّ الروح والأفكار. تنقلنا قراءة الأدب من موقع متلقّي الأخبار والمعلومات والأفكار، ومن ركن المُشاهد إلى موقع المشارك والمعايش، ففي القراءة وبفضلها نكتشف أنفسنا وننضج. نحافظ على توازننا في لحظات الخيبة والإحباط والهزيمة، نتطهّر بمشاعر المعايشة العميقة، ودموع الفرح والألم العظيم».

فهم التعاسة والتمرد عليها:

لكن عندما لا يكون أحمد عبداللطيف -في تجربته الطويلة مع القراءة- إنسانا سعيدا فذلك مدعاة للتريث والتأمل، فالمعرفة بحسب قوله لا يجب أن تمنح السعادة، وإنّما العكس تمنح الكثير من التعاسة. ثمّ يستدركُ قائلا: «لكن، إذا كان مصير الإنسان التعاسة، فعلى الأقل يحتاج إلى فهم تعاسته وإدراك أبعادها، ولا مانع من محاولة الخروج منها والتمرد عليها. لذلك، فالقراءة تمنحنا حرية الاختيار، إذ المعرفة وحدها تفتحُ أمامنا الاحتمالات المختلفة لحياتنا، تشجعنا على تغييرها لأن آخرين فعلوها. والقراءة، وأقصد بها قراءة الأدب، تجعلنا أكثر إنسانية مع أنفسنا؛ لأننا كلما حدّقنا في الواقع وتأملنا حيوات الآخرين، تعاطفنا معهم». لقد أعجبتْ ماري طوق بفكرة أنّ بورخس وبسبب عماه، استعان بأشخاص ليقرأوا له، بالتأكيد هي لم تشتهِ عماه، ولكنّها حلمت بمكتبة دافئة مريحة وصوت جميل رخيم يقرأ لها وهي جالسة أمام وادٍ غارق في ضبابه أو مشرق بانجلاء سمائه. بينما تبدو فتحية الصقري أسيرة متعة الهرب الدائم مع تلك اليد التي تمتدُّ في الخفاء إلى عالم جديد، «التلهُّف والتذوُّق في الذهاب والغياب، والغرق، واقتناص تلك الدهشة التي تذيب القلب وتعذِّبه، هكذا كمن عثر على مصدرٍ للضَّوْء؛ ليهدِّئ روحه، باستمرار». القراءة المقرونة بالفهم هي البوصلة التي قادت عوض اللويهي في فترة التكوين المعرفي الأولي، كما أنّ الاستمرار في القراءة هو ما منحه مفتاح الفهم والقدرة على مواصلة الدرب الطويل، «حيث إنّ القدرة على الربط والتحليل والمقارنة الاستخلاص واستحضار مخزون القراءات السابقة ما هو إلا نتاج الفهم الذي ينقلنا إلى مستويات أبعد وأعمق في فهم ذواتنا والعالم».

التخيلات والندم !

تتساءل ماري طوق، إن كان الشغف بالقراءة قد غير حياتها؟ وإن كانت حياتها ذهبت نحو الأفضل حقًا أم نحو الأسوأ؟ وهي لا تجد إجابة نهائية حول ذلك، «أعرف فقط أنّني وجدتُ لذة لا تضاهى في الوقوف أمام هذا البحر والنظر إليه والتنزّه على ضفافه. الآن تُضحكني قليلاً الصورة التي رسمتها أحيانا لنفسي: سأكون أكثر شغفًا من تلك البطلة التي أعجبتني، لا بدّ أنّني مقدّرة لأمور عظيمة، لا محال. أجل نتوهّم أشياء كثيرة عن أنفسنا ربّما بسبب قراءاتنا. ولكن هل يعتمل في داخلي ندمٌ ما من قبيل أنّني لم أصغِ لأصوات الحياة المباشرة وأنّني كنتُ شخصًا حالمًا فضّل العوالم المتخيّلة المحلومة على العوالم الحقيقية؟ من جهة يبدو لي هذا الندم غير حقيقي كمن يسأل أما أو أبا عن ندم الإنجاب!». لكن الأكثر شاعرية أن يكون افتقاد القراءة مؤلمًا كما تشير لينا بدر، «لأنني ما إن أفتح الكتاب حتى ينفتح أمامي عالم جديد أدخل إليه دون قيود كما تدخل أليس إلى بلاد العجائب، إنه افتتان الدهشة ونهم المعرفة، فالقراءة ليست محصورة لديّ بالأدب فحسب، هي عطش يصعبُ إروائه. ويمكنني القول إنّها متعتي التي لا أقايضها، تخصني وحدي بعيدًا عن مشاعر الأنانية». تعود فتحية الصقري إلى البدايات أيضا، إلى مكتبة جدِّها التي لم تستطع الاقتراب منها كثيرًا؛ لتحفُّظه الشديد، وخوفه على كتبه من التلَف، أو الضياع، «أتذكَّرُ عندما أخذتُ كتابًا مرَّة، وبدأتُ بقراءته، أشار عليَّ أن أعدِّل طريقتي في إمساك الكتاب؛ كي لا تتأثر الأوراق. في ذلك الوقت لم تكن هناك مصادر حقيقية للكتب. كنت ُأقرأ أيَّ كتابٍ أجدُه في البيت. لم أكن أقرأ في مجال معيَّن، أو بشكل أدق، لم يكن بإمكاني الاختيار، بل ما كان متوفِّرًا فقط، كنتُ ألتهم الجرائد والمجلَّات أيضًا، وكان والدي مهتمًا بما يصل من الدول الخليجية والعربية».

كانوا يعبثون بالأزهار البيضاء

لقد عاشتُ ريم داوود في بيتٍ قارئ، كانت فيه هي البنت الصغرى، بعد ثمانية أبناء وبنات، «تفصلني عن معظمهم سنوات كثيرة. سبقوني جميعًا للقراءة، وعلّموني إيّاها في عُمرٍ مبكرٍ، واعتدتُ عليها مثلهم. شكّلت الكتب جانبًا مهمًا في حياتنا. كنتُ أميل للخجل والعزلة بطبيعتي، ربّما لفرط الاهتمام الزائد من الجميع، ولطالما وجدتُ في الكتاب مؤنسًا ممتعًا، استغنيتُ به عن صداقة من يقاربونني سِنًّا». كان بحوزة والد دينيس أسعد مكتبة، بها من الأدب الكلاسيكي إلى الأدب الحديث، «حكايات وقصص تعود لفترة الستينيات والسبعينيات. كان هنالك ديوان المتنبي إلى جانب دواوين نزار قباني وكتب الأغاني للأصفهاني، وروايات نجيب محفوظ و ديستيوفسكي وغوركي وترجمات سارتر وكامو وروايات كافكا الغامضة وكتب سيمون دي فوار الجريئة وآخرين لا تذكرهم جميعا الآن على وجه الدقة، وإلى جانب كتب البالغين كانت هنالك روايات للفتيان وكتب مصورة روسية للأطفال»، هنالك فقط تشكل عالم دينيس أسعد بسخاء.من جهة أخرى، لا يستطيع نوفل نيوف أن يتصور مَن كان سيكون أو كيف سيكون لولا القراءة، «كم مرّة أقول: لولا قراءة هذا الكتاب لكانت حياتي ناقصة! كم مرّة تنهض بنا القراءة من الرماد! كم مرة نولد من جديد!، وكما يقول الشاعر الروسي ألكساندر بلوك (1880-1921):

كانوا موجودين، ولم يعيشوا

كانوا يعبثون بالأزهار البيضاء.

استعاضة الواقعي بالمتخيل

لقد غامرت فتحية الصقري مرّة وذهبت إلى بيت الجيران تقترضُ كتبًا من مكتبتهم الصغيرة، «القراءة مع الأيام صارت فعلًا يوميًا، افتتحُ بها يومي، ولا يمكنني الاستغناءُ عنها، حاجتي إليها مُلحَّة، كحاجة الإنسان للماء والهواء، طعامٌ يوميٌّ للروح، ومنبِّهٌ لا غنى عنه، كما لو يباغتك سؤال مثل: هل أنتَ مستيقظ؟».

وكما يبدو فالحياة لا تسير على وتيرة واحدة، ففي ظلّ الظروف الحياتية الوعرة والشائكة، تضاعف نهم ريم داود للقراءة، «كانت وسيلتي الوحيدة للولوج إلى عوالم أكثر راحة ورحابة. في تلك المرحلة، كنتُ أقرأ في كل مكان تقريبًا، وأنفصل تمامًا عن كل ما -ومَن- يحيط بي، لدرجةٍ كانت تثير دهشتي أنا نفسي! وتتذكر دينيس أسعد أول نص قرأته وهو «فتاة غسان» لجورجي زيدان، كانت قد وجدته على أول رف وصلت إليه يدها ولم تفهم آنذاك الكثير منه بالطبع، لكنها استمتعت بالقراءة وبمص إبهامها -وهي عادة لازمتها حتى عمر السادسة عشرة رغم محاولات أمّها المتكررة لتخليصها منها- «كانت القراءة هروبًا من مشاركة إخوتي اللعب في الخارج وألعاب الطاولة وبالأحرى كانت هروبا من مواجهة الواقع ومن التنافس، وأرى الآن الأمر كنوع من التوحد». من جهة أخرى تنكر ماري طوق إمكانية استعاضة العالم الواقعي بالعالم المتخيل، حيث لا يمكن لهذه الاستعاضة أن تستمر، «فالخارج جارفٌ أيضًا، والعيش يستمرّ مراوحًا بين عزلة الكتاب المؤنسة وبين متطلّبات الحياة المُتعبة».

نسيجها الأقوى من ضعفها

فتحت القراءة لأحمد عبد اللطيف أفقًا واسعًا على مفهومي الخير والشر، «لأفهم أنّ الخير لا يؤدي إلى خير بالضرورة، ولا الشر يؤدي إلى ضر بالضرورة، فثمة شر يؤدي إلى خير، وخير يؤدي إلى شر». وعلى الطريق، التي لا تنتهي إلا بالعمى الكامل، كانت البداية الحقيقيّة لماري طوق مع كتب جبران خليل جبران فهو ابن المنطقة التي ولدت فيها وكان أوّل من رأت بعينيه الجبل والوادي والضباب، «أجل ذلك الضباب الحيّ الذي يغمرك بغلالته وكأنّه يدٌ مُحِبّة، تلك الأبخرة الشفيفة التي رسمت على زجاج الحياة العبارات الأحبّ، فتابعتُ اقتفاء النور، ولكن شرط عدم سطوعه، وتتبعتُ دوستويفسكي طويلا، لم أشعر بثلج روسيا، لم أر إلا ربيع الروح والشخوص التي تريد أن تغزل من ضعفها وجبنها النسيج الأقوى»، وعبر القراءة كانت لينا بدر تُصغي إلى أفكار مُفكر بها هنا، وتسمعُ شدو قصائد شاعر هناك، تتابع مسيرة رحالة هنا، وتعيش تجربة ناسك في كوخ سيبيري هناك، ثم تتساءل: «هل كنتُ سأطّلع على كل ذلك لولا القراءة؟».

الوليمة التي لا يماثلها شيء

لم تختبر ريم داود حياة أخرى تخلو من القراءة، ولذا فقد أسهمتْ في تكوين أفكارها ومواقفها، «أعانتني على فهم نفسي ومن حولي». ومهما كانت الأسباب والدوافع، فهذا الكم الرهيب من القراءات المتنوعة صقل هوية دينيس أسعد لتكون ما هي عليه الآن من تمرد ورعونة أحيانا، من تفكير نقدي ورومانسية أحايين أخرى، إضافة إلى عدم قدرتها على التواصل مع الواقع في أغلب الأحيان تقول: «ما زالت القراءة ملجأي الآمن بعيدًا عن ضجيج الحياة».

لقد فعلت القراءة الكثير في حياة عوض اللويهي أيضا: «حركتني ووجهتني كثيرًا نحو مناطق بعيدة لم أكن أحسب أنني قد أصل إليها، القراءة في كل مرحلة بل في كل مرة تغيرني وتعيد تشكيل المعنى في حياتي، ومع كل قراءة يحضر سؤال الفهم، الذي حين يحضر أدرك تمامًا أن القراءة لعبة ومغامرة إن لم تمنحها كلك لن تصل إلى أي شيء».

وتجد لينا بدر أنّ «الكلمة» هي الرسالة الأولى التي خطّها الإنسان ليشارك بها أبناء جنسه لتكون الجامعة دون منازع، وتستدل على ذلك بقول ميخائيل نعَيمة عن الكلمة: «أنا الوليمة التي لا مثلها، ولا قبلها ولا بعدها، وليمة لا حصر لأصنافها، ولا عدّ للمدعوين إليها، والذي أولمه آلهة وسماوات، وشموس ومجرات، وآزال وأوابد، وحيوات تنسلّ من حيوات».

كانت ماري طوق مهمومة بأسرار ومشاعر وطبائع الكائن الإنساني، فنجدها تتساءل: «ألم يأخذني ما قرأته إلى أسئلة لا تنتهي وارتباك أشدّ عمقًا؟ لا أعرف، أعرف أنّني كنت أنشد ضوءًا ما أو ظلالًا أليفة في عتمة هذه الحياة، دفئاً ما في الاستئناس إلى مسارات الشخصيّات، إلى الفكر، والشجن والشعر وتتبّع من استبطنوا معاني جديدة للحياة. وازداد المسير توغّلاً مع اكتناه معاني الوجود عبر الترجمات التي استرسلت فيها لاحقا».

وفي آخر الكلام تقول لينا بدر: «هنيئًا لكل من تقدّم إلى هذه الوليمة -القراءة- ليتذوّق أطايبها ويسعد بمسراتها».