No Image
عمان الثقافي

مِنْ مُفكِّرةِ شاعرٍ مقدسيٍّ مجهول

25 أكتوبر 2023
25 أكتوبر 2023

(1)

البندقيةُ في مواجهةِ الحجرْ

قال الغزاةُ: «اهربْ»،

فهربتُ نحوهمُ

دمي نبتتْ به الأشجارُ،

واتّسعَ الطريقُ لصرختينْ

الجرحُ يصغرُ، يصغرُ

صدقيني

كنتُ أسمعُ للبنادقِ

-خلفهم-

ترجو الخلاصْ.

(2)

قبلَ مائةِ عامٍ

جدّيَ الثالثُ شيَّدَ الدارَ

ثم رمَّمَها أبي

ثم ابني تزوَّجَ فيها

عندما قَصَفَها المُحتلُّ

سَقَطَ كلُّ شيءٍ

إلا صورةَ أُمّي

ظَلَّتْ مُمْسِكَةً بِجدارْ

عَلَّمَتْنا السّقوطَ ضَعْفٌ

عَلَّمَتْنا

ألّا نَنْهارْ

(3)

في الشارعِ

بين المسجدِ والدكانْ

كانت أختي تلعبُ،

تَفُكُّ شريطاً أحمرَ من ضفائرها

تَعْقدُ بالوناً، وتقولْ:

هذا منطادي

سأُطاردُ غَيْماتٍ

وأَتَسَلَّقُ نَجمةْ

غضبَ الجنديُّ،

في القدسِ لا شيءَ يطيرُ

سوى صاروخٍ وشظيةْ

في القدسِ

أماني الطفلِ

تُرْعِبُ مُحتلّاً

في القدس ما زالَ الطفلُ يُغنّيْ

ما زالَ الحقلُ الأخضرُ يَحكيْ

ما زِلْتُ أُرَدِّدُ:

لي في كلِّ نداءٍ

أُمُنيَةٌ وقَضيّةْ.

(4)

القصيدةُ لا تَبنيْ وَطَناً،

القصيدةُ تُشيرُ إليهِ،

تَقودُ إلى الحُرّيةْ.

(5)

قبل ثلاثةِ أيامٍ رأيتُ جارَتَنا أمَّ زياد

في السبعينَ من عُمرها،

رأيتُها

كُلَّما غَرَسَتْ زيتونةً أمامَ الدارِ

ابْتَسَمتْ لها غَيْمةْ

كُلّما عَلَّقَتْ كُوفيّةَ زوجها الشهيدِ

في صالةِ البيتِ

تَراقَصَتْ أشجارُ الحَيِّ،

كُلّما حَكَتْ عن أبنائها الثلاثةِ

في سجونِ المُحتلِّ،

عَانَقَتْها الشّمسُ، والغُيومُ، والأشجارْ

(6)

أبي كان يعلمُ أننا سنمضي في قَصْفٍ جائرْ

جَمَعَنا،

قَرَأَ لنا من تاريخِ الأرضِ،

عنِ الدماءِ التي أنبتتْ ثورةً وحجارةْ

قَرَأَ لنا قصيدتينِ:

لدرويشَ، وفدوى طوقانْ،

بكيتُ عندما قال:

يقتلني الحُلُمُ أكثرَ مما يقتلني الخوفُ.

لم يَقُلْ درويشُ ذلكَ،

وفدوى لم تُشِرْ إليهِ،

كان أبي يُدركُ أنَّ الشعرَ

ما ليس يُقالْ.

(7)

ثم جَمَعَنا بعد يومينْ

وَقَرَأ لنا سورةَ الفتحِ

كان فتحاً عظيماً

أنْ نرى القدسَ من السماءْ.

(8)

حبيبتي

قد لا تكفي القصائدُ في حُبِّ القدسِ

قد لا يَتّسعُ الوصفُ

قد أَخْتصرُ الكلامَ

إذا عَبَرَ الحَمامُ جهةَ الأقصى

ماذا سأكتبُ عن:

حاراتِ القدسِ القديمةِ،

ساحاتِ الأقصى،

غناءِ الزيتونِ في وجهِ الريحِ،

عُكّازِ عجوزٍ مقدسيٍّ،

ضحكةِ طفلٍ يلعبُ في الممشى،

فتاةٍ تُغنّي جهة القلبِ،

بقالةٍ مفتوحةٍ باسم العابرينْ،

أُمٍّ تُعِدُّ القهوةَ للغائبينْ،

صديقٍ رأى في الحَجَرِ خلودَه الطويلْ،

شارعٍ يُظلِّلُهُ الدُّخانُ،

ومقهىً ترتادُهُ الأغنياتُ القديمةُ،

ماذا سأكتبُ عنكِ؟

(9)

رَمَيْتُ حذائي هذه المَرّةَ،

أَحببتُ أنْ تَلتصقَ رجلايَ بالأرضِ،

أنْ يغسلَ دمي شارعَ قريتنا،

أنْ تتصالحَ رجلايَ مع الريحِ

أنْ أقطعَ المسافةَ حاملاً رهانيَ الأخيرْ،

وَطَأتُ الحصى،

لم أَكُنْ أحكي للطرقاتِ،

أو المارةِ،

كُنتُ أرسمُ شجرةً على الجدارِ المُتهدِّمِ،

وغيمةً على سقفِ بيتي،

أدمنتُ الغيابَ

وبعد عامٍ

أنكرتْني الجهاتُ والطّرقاتُ،

فَقَدْتُ الجدارَ والمارّينَ عليهِ،

لِمَنْ أرسُمُ الآن هذا الخرابَ؟

إنني الصدى الأخيرُ لهذا الصوتِ

أنا المَشّاءُ في مسالكِ الألمِ

بالأمس

كان لي حذاءٌ

وبيتْ!!

(10)

الآن

أنا أجهلُ اسم المقطوعةِ

التي اِفْتُتِحَ بها مهرجانُ البقاءْ

صَفَّقْتُ عندما صَفَّقَ الجمهورُ،

وقفتُ عندما وقفُوا،

اللحنُ ذَكَّرني برصاصةٍ تخشى الحَجَرْ

هذا العزفُ يُشبِهُني،

يُشبهُ ضحكةً أَطْلَقْتِها

في وجهِ جُنديٍّ

تماما مثلما قُلْتِ للجنديِ

قالتْ سيدةٌ تَجلسُ في المقعدِ خلفي:

«سنعودْ».

خالد بن علي المعمري شاعر عماني