No Image
عمان الثقافي

من حكايات ما قبل النوم إلى زمن العصف الفكري.. مهاب نصر يتأمل السرد على حافة النوم الكبير

28 فبراير 2024
28 فبراير 2024

أود أن أبدأ هذا المقال بالإشارة إلى أنني لا أملك القدرة على تحديد مبررات الفكرة التي ألحّت عليّ خلال لقائي الأخير مع الصديق الراحل مهاب نصر، للقيام بتسجيل لقائنا معا. بالرغم من أن اللقاء كان لقاء وديا جمع بيننا في مقهى من مقاهي الإسكندرية في أولى زياراتي لمهاب بعد عودته من الكويت للاستقرار في الإسكندرية.

ومن المؤكد أن الخاطر لم تكن له علاقة أبدا بإحساس ما بأن هذا سيكون آخر لقاءاتنا، بل ليقيني أن أي لقاء مع مهاب يتضمن أفكارا عميقة جدا حول أي موضوع سيتحدث فيه، مهما كان شخصيا أو عاما. فهذه سمة من سمات طريقة تفكيره، وفهمه للحياة، ممثلة في تجريد الأمور وتوسيع دائرة الرؤية؛ الأمر الذي يثير حماس من يسمع عادة لكي يعيد تأمل الموضوع من زاوية أو زوايا مختلفة.

وعلى أي حال، فقد تغلب عليّ حرجي في النهاية ولم أمتثل لتنفيذ رغبتي الملحة في تسجيل حوارنا ذلك في النهاية، مع الأسف.

لهذا جاء صدور كتاب «الحكاية على حافة النوم الكبير» لمهاب نصر كهدية تستحق الحبور والترقب لأسباب عديدة، من بينها أن اهتمام مهاب بموضوع الكتاب بشكل عميق بدأ قبل سنوات طويلة.

أذكر حين التقيت به في الكويت قبل ما يربو على خمسة عشر عاما، بدأ بيننا حوار كتب هو نفسه عنه قبل سنوات قائلا: «أول حوار حقيقي بيني وبين إبراهيم فرغلي، لا أعرف إن كان يتذكره الآن، حدث ونحن في طريقنا للقاء صديق كان قد وصل توا إلى الكويت مقيما في أحد فنادق منطقة العاصمة. أتذكر ذلك لأن الحوار كان حول حال من الضجر من بعض الأعراف الأدبية والثقافية عامة، وورد في حوارنا اسمان: دوستويفسكي ونجيب محفوظ. هل كنا نفكر في العودة إلى أنماط كلاسيكية؟ لم يكن قد مر على وجودنا في الكويت إلا أشهر قليلة، كل شيء كان جديدا وأنا أمشي معه في شوارع الكويت/العاصمة. لا أعني أنه كان رائعا، بل غريبا. وهذه الغرابة كانت عاملا محررا من كل الموضوعات والأفكار التي تركناها وراءنا في مصر. الاغتراب قد يمنحك جرأة غير محسوبة أحيانا وفرصة لاختبار ما كنت تريده فعلا. كان إبراهيم يتحدث بحماس في فترة كادت فيها الرواية أن تصبح مذكرات شخصية وحواديت، تكتسب من ورائها حياة شخص ما مصداقية لمجرد إقحامها في شكل روائي. تراجعت فكرة التخييل. المتاجرة بما يسمى الشخصي والعرضي والهامشي ضمنها تيارا لا هو عرضي ولا هامشي، بل قطيع يمثل جمهورية الهامش، جمهورية «ظل» مثل حكومة الظل لها سطوتها وأعرافها المطلقة تماما كما السلطة التي تدعي التمرد عليها. لم أكن أعرف حينها أن إبراهيم يكتب رواية. يكتبها أمام أعيننا».

وعلى مدى سنوات طويلة سيتكرر هذا الحوار بيننا بأشكال مختلفة، وظل بالفعل لكل من دوستويفسكي ونجيب محفوظ قدر أكبر من الاهتمام، في إطار اهتمام مهاب المتزايد بفكرة الرواية عموما، ودورها في الواقع العربي مقارنة بالبيئة الغربية التي أنتجتها، ثم بتطورها عبر تجارب عديدة جديدة مما كانت الترجمات العربية تلاحقه على مدى العقد الأخير.

كان يحدثني عن الكتاب أحيانا، أو يرسل لي مقالا منه يتناول فكرة ما، خصوصا عن محفوظ، الذي تشاركنا في تقديم ندوة مشتركة عنه في الكويت أيضا. كما أوضح لي أنه يرسل ما يكتبه أيضا للصديق مينا ناجي في القاهرة، وهو الأمر الذي أتاح لهذا الكتاب أن يرى النور بفضل جهد مينا في تحريره والعمل على نشره في زمن قياسي، حيث صدر عن دار بيت الحكمة في القاهرة خلال معرض القاهرة في دورته الأخيرة قبل أسابيع قليلة.

لهذا كله ربما سيكون من الضروري التنويه إلى صعوبة الكتابة عن كتاب للصديق الراحل مهاب نصر من دون أن يتداخل الذاتي والشخصي بالعام.

فالمثال الذي ذكرته في مطلع المقال حول رغبتي في تسجيل لقاء مع مهاب له علاقة أيضا بالطاقة التجريدية التي تتمتع بها أفكار مهاب، وكثيرا ما كنت أطلب منه أن يفكك أفكارا كان يدونها بحماس على الفيسبوك. كانت الأفكار مركبة وتربط ظواهر عديدة في جملة أو فقرة.

وظني أن هذه القدرة على التجريد لها علاقة أيضا بأنه شاعر أصيل، يقترح قصيدة مختلفة مبنية على الفكرة والمشهدية، والأفكار لديه تبدو أنها تتولد كقصائد لكنه يحاول تفكيكها لأفكار.

وفي هذا الكتاب احتفظ مهاب بقدرته على تركيب الأفكار، لكن الجمل تمتعت بوضوح تام، وبأسلوب اعتمد على الاستعانة بالأمثلة كثيرا لتوضيح فكرة أو أكثر.

يبدأ الكتاب بفكرة تفكيك مفهوم السرد بالعودة للبذرة الأولى له ممثلة في الحكاية، فكرة الحكاية التي يبدأ شغفنا بها في الطفولة، باعتبارها وسيلتنا للتغلب على مخاوف الليل، العتمة والأشباح، والوسيلة التي ستفضي بنا إلى النوم. لكن هذه الحكاية في دورها البدائي هذا لا تناسب إلا عقولا لم تبارح منطقة البحث عن وسيلة لمقاومة المخاوف، أو للتسلل إلى أحضان النوم.

يقول مهاب: «حين يفكر الواحد في «الرواية» الآن، باعتبارها فنا، فإنه يتساءل؛ هل عادت وظيفة الحكي فيها إلى ما كان عليه الحال في الطفولة.. نوعا من هدهدة الخوف قبل الدخول إلى العالم الموحش للوحدة؟ قاربا ورقيا من الخيال أو تميمة نحرقها لإبعاد شبح الصمت وما وراء الصمت ؟ إذن، كأننا لم نكبر ولم نتعلم شيئا. الخوف من الصمت لا يعني أننا نعرفه، بل يعني أنه فقد ما هو إنساني فيه: إنه يعزلنا بعينين مفتوحتين على لا شيء، أمام أبد كصحراء لا يطرف لها جفن».

ويجيب بالقول مستدركا أن العالم الذي نعيشه اليوم قد يكون بالفعل عالما يسبب لمن يعيشون فيه ألوانا من الرهاب؛ «أشبه برهاب النوم؛ ليس باعتبار الأخير راحة أو سكينة، بل باعتباره يقظة موحشة عزلاء. حيث نصبح مستهدفين مباشرة من العنف دون إمكانية إضفاء أي معنى؛ أو انتظار عدالة».

وهذه فكرة يمكن بها أن نفهم متكأ من متكآت هذا الكتاب الذي يرتحل في تاريخ السرد وخصوصا الرواية الأوربية، لبحث التأثير الاجتماعي والاقتصادي على المجتمعات وانعكاس ذلك على تطور السرد وفكرة الرواية بالأساس.

في مناقشات متبادلة كان مهاب يوجه نقدا لاذعا للسرد العربي المعاصر من جهة غياب فكرة الشك الديكارتي في صلب هذا السرد.

سأستخدم فقرة من مراسلات بيننا أيضا لأهميتها في إضاءة أفكار هذا الكتاب، ولفهم أسباب محاولات استنباطه لمعنى الرواية المعاصر من النص الغربي أكثر بكثير من العودة للرواية العربية.

يقول مهاب: «أما على مستوى الفن السردي فإن الروائيين كأنهم يعترفون ضمنا أنهم يؤلفون قصصا على مقاس أفكار جاهزة. إنهم يجملون، مجموعة من الحرفيين. وهو ما يفصل بشكل مضحك بين الفن والحقيقة. أقول مضحكا لأن النظريات الجمالية اجتهدت طوال قرون لرد هذه الفجوة، بينما نعود الآن إلى أكثر العبارات تقليدية: المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي.

يتحول السرد بهذه الطريقة إلى سرد «مؤسسي».. ولذلك يرتبط بمشاريع النجاح مثله مثل نجوم التنمية البشرية تماما، فالروائي اليوم هو صورة من خبير التنمية البشرية».

وهذه الصورة التي انتزعتها من ورقة أرسلها لي قبل فترة، تبدو كإجابة لسؤال أو اقتراح، واحدة من نتائج عديدة يقترحها خلال الكتاب، لكنها ليست إجابات نهائية أبدا، بل صياغة مختلفة لأسئلة عديدة يطرحها على امتداد فصول الكتاب.

أسئلة تأتي أحيانا بين متن فكرة محددة لكي تنسفها من داخلها فجأة. كأن يتأمل معنى الحكاية عند فيرجينيا وولف ثم لدى كونديرا مثلا، ليتوقف بسؤال حول إذا ما إذا كان الحكي المسترسل الذي يأتي بين اقتراحات ما يسمى بالإمكانات الديمقراطية للرواية، ليطرح لنا سؤالا حول إذا ما كان الاسترسال في الحكاية هو محاولة لتفادي شيء آخر، لتفادي الحوار مثلا؟ وهو من بين جوهر أدوات الديمقراطية.

«لنعد أيضا إلى السؤال الذي تجاهلناه: هل من الضروري أن أحكي إذا لم يكن هناك ما أحكيه؟ أم أن اختيار الحكي هنا هو تهرب من شيء آخر: من الحوار مثلا. فلا الرواية ولا الحكي، وهذا لا يقوله كونديرا ولا غيره تقريبا، هما الصيغة الأكثر حرية وكفالة للديمقراطية وتعبيرا عن الذات».

وربما يناسب هذا الكتاب قارئا مطلعا على الرواية بشكل جيد، لأن النص يتنقل بين نصوص روائية مختلفة، كونديرا إلى فرجينيا وولف ومن كونراد إلى ماركيز أو فلوبير من دون أن يتوقف عن استعادة دوستويفسكي في مواضع عديدة، وغيرهم، يتوقف مهاب عند مدلولات أحداثها أو شخصياتها، ويطرح أسئلة ثم يتبنى اقتراحات بالإجابة من نصوص أخرى، من دون تفاصيل حول العمل الذي يشير إليه. لكن ما يقتطعه من الروايات كفيل أن يشرح للقارئ، حتى لو لم يكن قد قرأ هذه الرواية أو تلك بالمعاني التي يرمي إليها.

أحيانا أفكر أن هذا الكتاب الذي لا يمكن لعرض مختصر أن يحيط بكل ما يتضمنه، قد يناسبه كتاب مقابل يتوقف عند الكثير مما يطرحه. ففي مواضع عديدة يقدم مهاب نوعا مركبا من استعراض نموذج سردي، ومحاولة تأويله، بوضعه في سياق واسع، ثم تقديم نوع من النقد المبطن أو السخرية، للسرد العربي المعاصر، أو حتى لمقولات لكاتب روائي مثل كونديرا مثلا والرد عليها، بعد الإحالة إلى مصادر أخرى لكتب فكرية أو كتب نقدية.

فالكاتب يقفز أحيانا وهو يتناول نموذجا سرديا لكاتب من الكتاب، وليكن كونراد في قلب الظلام، وبينما يتناول فكرة رواية الأفكار الحديثة وعلاقتها بالتطور الذي حدث في المدينة المعاصرة، ويتأمل قلب الظلام بوصفها رواية تتخلى عن المدينة لتذهب إلى المستعمرات، «كونراد يطرد عقل المدينة إلى المستعمرة»، ويحيلنا في الأثناء على «سفينة الحمقى» التي تناولها فوكو في كتابه الشهير عن الجنون. كما يشير أن الرواية تتخلى عن المكان الواقعي لصالح مكان رمزي بلا يقين، بعد إحالتنا على تناول إدوارد سعيد لها في كتاب الثقافة والإمبريالية، ثم يقفز ليعود إلى القرن التاسع عشر مع نص من نصوص دوستويفسكي ليوضح فارقا أو اختلافا في التناول بين الاثنين، وخصوصا بين الشخصيات.

وفي موضع آخر من الكتاب قد يتأمل كتابا لجونتر جراس، ثم يعود لكتاب فكري وفلسفي لتيري إيجلتون أو لمارك فيشر ليتناول منه فقرة من مثل سؤال فيشر عن الرأسمالية المعاصرة من خلال طرحه المباشر لطلبته عن تصوراتهم حول دوافع زوكربيرغ، مؤسس منصة الفيس بوك، الرأسمالية. وفي الأثناء يكون قد أثار الانتباه لأصالة فن الرواية البوليسي في تناولها لفكرة الشر مثلا.

الكتاب يبدو كرحلة في غابة السرد، تتأمل العلاقة بين الواقعية والخيال، ثم تعرج على مركزية فكرة الضمير، ودور الرواية مقابل دور الراوي ودور الروائي، وموقع السرد في تبني أو تحليل الشر والعنف.

وبالرغم من أن التيمات والروايات التي يختارها مهاب في الكتاب متنوعة ومتباينة، وتطرح بالتالي أسئلة مختلفة في قضايا السرد وقدرة الرواية على تشكيل الوعي بالعالم أو تفسيره، بين هموم أخرى، لكن ثمة أيضا خيوطا تتواصل أو أسئلة تمتد، وبينها مثلا سؤال الحكاية الذي يبدأ به الكتاب، لكنه ينبثق في صياغات مختلفة على امتداد صفحاته، فحتى في تناول فكرة الشر كما تناولها جونتر جراس في روايته سنوات الكلاب، على سبيل المثال، فإن سؤالا يفرض نفسه عن سلطة الحكي بسبب وجود ثلاثة رواة في هذا النص.

يبحث مهاب عن الإجابة عبر قراءات واسعة وبينها ما يتوقف عنده من أفكار جوديت بتلر على سبيل المثال.

يقول مهاب: «ربما كان سؤال (من أنا لأحكي؟) ليس مركبا كفاية ليوضح الدائرة العجيبة الملعونة. فلو قدر لي أن أجيب من أنا ؟ فماذا سأصنع إلا أن أحكي؟ أي أن تعريفي لذاتي يضطر هو نفسه أن يكون حكاية!

تقدم جوديث بتلر (فيلسوفة أمريكية) حلا من نوع ما: إن الحكي مشهد متكامل، مشهد يفترض الآخر. إننا لا نحكي إلا لأن هناك آخر نحكي له. ومن دونه لا مكان للحكي ولا للحكاية أصلا. (نحكي لمن؟) هو سؤال جذري مقابل الحضارة التي اعتمدت طوال الوقت على مكان إثبات الذات بمرجعية ذاتية. وهكذا بدلا من تعريف نفسها والعالم المحيط بها، شرعت تتقدم إلى الأمام. عوضا عن تعريف نفسها، كانت تفرض ذاتها على كل آخرية، أن تجعل من العالم صورتها وانعكاسها. هذه ثورة كبرى بالطبع، بقدر ما هي مدمرة من جهة، وتخون سؤالها الأساسي من جهة أخرى، بالإجهاز على موضوع السؤال».

تتواصل أسئلة مهاب حول السرد، عبر الروايات التي يختارها لكي يثير بها هذه الأسئلة. أسئلة حول المقارنة بين الحكي والفعل. بمعنى أهمية الفعل بالنسبة للفهم. وهذا أساسا بين أسئلة أخرى حول ما يسميه رواية اللافعل منطلقا من رواية لفيرجينيا وولف. أسئلة حول الحداثة والمقدس. علاقة اللغة بمفهوم العنف. ديمقراطية الحوار عند باختين وعلاقتها بالحقيقة والجمال والمعرفة. علما أن سؤال هدف السرد هل هو الحقيقة أم الجمال أساسا يتوالى ظهوره في مواضع عديدة بين ما يطرحه الكتاب.

كما سيطرح مهاب نصر في عدة فصول متتالية أسئلة حول رواية ما بعد الاستعمار وما قدمته من فكر نقدي للإمبريالية. وسؤال آخر حول فكرة الاختفاء وبينها احتمالية اختفاء فن الرواية نفسه، هل يمكن أن يختفي؟ ويتتبع ما يقوم به السرد في فهم العالم بوصفه العامل الذي قد يحسم أمرا كهذا.

هذا كتاب لا يُقرأ في جلسة واحدة، وربما لا يقرأ مرة واحدة أيضا، وأثره سيمتد مطولا، لأن ما يطرحه مهاب يتسم بالجدة والابتكار والأصالة، ولا أظن أن مهتما بالسرد الأدبي أو فن الرواية يمكن أن يفوت قراءة كتاب ملهم وشديد الأهمية كهذا الكتاب.

وختاما، لا كلمات شكر تكفي لمينا ناجي الذي لولاه ربما ما عرف هذا الكتاب الطريق للنور، فبفضل نقاشاته المستمرة مع مهاب خلال فترة الكتابة، وبفضل المراجعة والتحرير أمكن من إعداد الكتاب للنشر، وأهدى للمكتبة العربية كتابا شديد الأهمية.

إبراهيم فرغلي كاتب وروائي مصري