من الفكر والفلسفة إلى اللغة والدين.. تاريخ الفكر في الصين اليوم
تشغلني منذ فترة الطريقة التي قدمت بها المركزية الأوروبية تاريخ الفكر الحديث والمعاصر، والتي تمثل المنهج الذي تلقيناه عربيا، مع الأسف، في إطار معرفتنا وفهمنا لتاريخ الفكر الغربي بوصفه مركز الحضارة والثقافة والتنوير والديمقراطية.
فوفقا للمدونة الغربية المركزية يشيع أن الديمقراطية، باعتبارها أيقونة الحضارة كما تروج لها أدبيات الغرب؛ قد نشأت في أثينا القديمة، ثم انتقلت إلى روما مع نشأة الحضارة الرومانية، ومنها إلى باقي أوروبا وصولا إلى الولايات المتحدة الامريكية.
من الجلي أن هذا النهج الذي يستخدم كلمة "ديمقراطية" في أدبيات اليوم لا يود تأكيد صورة عن الحريات وحرية التعبير وتداول السلطة بقدر ما يجعل منها رمزا ضمنيا لحركة "التاريخ الثقافي العالمي"، بعد تقسيمه إلى مركز (غربي) وهامش (شرقي).
في مرايا الغرب
والمركزية لا تعني هنا تأكيد نشأة الحضارة وتطورها من الغرب، بل تمتد لأن تلقي بظلالها على معرفة الشرق بنفسه وببعضه بعضًا. وبالتالي سنجد أن المواطن العربي الذي تلقى قدرًا من التعليم يعرف، بالإضافة لتاريخه الذي يتلقاه من وجهة النظر الغربية المركزية، الكثير عن تاريخ أوروبا السياسي والثقافي وكذلك بالولايات المتحدة الأمريكية، لكنه لا يكاد يعرف شيئًا عن الشرق الأقصى. لا الصين أو اليابان أو سواهما من ثقافات تلك المنطقة. وإذا عرف فسوف يعرف ما يريد الغرب إشاعته عن تلك الثقافات. ولهذا مثلا نشعر دومًا أن الصين ثقافة غامضة، ترتبط في الذهن بالاستبداد، والانغلاق، وببعض الأفكار التقليدية. وهو ما يتنافى مع واقع الصين كحضارة كبيرة وقديمة من جهة، ومع واقعها الثقافي والحضاري المعاصر كقوة اقتصادية كبرى، من جهة أخرى.
لكن المؤكد أن معرفة الصين بالثقافة العربية ستكون على نفس المستوى. فمن الجلي أن الثقافة العربية بالنسبة لأهل الصين غامضة، هامشية، تشيع فيها ظواهر مثل الاستبداد والعنف، ولا تمتلك روافد حضارية مهمة. وربما أننا نسهم في ذلك بدليل العدد المحدود جدا للكتب العربية المترجمة لللصينية على سبيل المثال.
ومن هنا تأتي أهمية كتاب "الفكر في الصين اليوم" الذي حررته الأكاديمية الصينية آن شنغ، وتمت ترجمته عن الفرنسية بواسطة د. محمد حمود، وصدر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار.
تقول آن شنغ في تقديم الكتاب :"خلال القرون الثلاثة الأخيرة التي شهدت تكون الحداثة الغربية وسيطرتها تكونت عن الصين وترسخت صورة صين صاحبة كتابة رمزية خاضعة لموروث استبدادي، معزولة عن سائر بقاع العالم طوال قرون، وهو ما يفسر جمودها الفلسفي والسياسي والعلمي الذي جاء الغرب في الوقت المناسب لإيقاظها منه. انظر إلى كل هذه الترهات، وسوف تجدها بالتأكيد بصيغ مختلفة وعلى مستويات متفاوتة التنميق في عدد لا بأس به من المؤلفات الرائجة. وعلينا أن نضيف أن هذه المؤلفات لم تعدم، في المقابل، أن تمارس تأثيرًا كبيرًا في الطريقة التي كانت النخب الصينية تنظر بها إلى ثقافتها الخاصة، سواء في قدح الذات أو خلافًا لذلك كما هو الحال منذ فترة وجيزة في مدح هذه الذات مدحًا معززا بشعور قومي متزايد في النخوة".
مغالطات الفكر الاستعماري
وتشير آن شنغ إلى الكثير من المغالطات الأوروبية في تناول الموضوع الشرقي، وتعود في هذا الصدد إلى كتابات إدوارد سعيد حول الاستشراق ونقده للفكر الاستشراقي، قبل أن تتناول بالإشارة أحد النماذج الساطعة لهذا التناول الغربي للحضارات التي يعتبرها الغرب خارج المركز فتقول:" يقسم إرنست رينان، زعيم العقلانية الوضعية، في بحث نشر سنة 1848 بعنوان في أصل اللغة تعارضا بين مقولة "العرق الهندو – أوروبي" الذي يصفه بأنه "العرق الفلسفي" والذي يبدو أن لغانه "خلقت للتجريد والماورائيات" والعرق الصيني واللغة الصينية التي يعطيها الوصف الآتي:
(..أليست اللغة الصينية، ببنيتها اللاعضوية وغير المكتملة، صورة عن قحط الفكر والفلب الذي يتصف به العرق الصيني؟ إنها تكفي لتلبية الاحتياجات الحياتيى، ولتقنيات الفنون الأبدوية، ولأدب خفيف متواضع المزايا، ولفلسفة ليست غالبا سوى عبارة لطيفة لكنها ليست رفيعة أبدا، وإن كانت تنم عن حس عملي حيج تستبعد اللغة الصينية كل فلسفة، كل علوم، كل دين، بالمعاني التي نعطيها نحن لهذه الكلمات).
وبعد هذا المقتطف من رينان تعلق آن شانغ بالقول:
"وبالطبع فإن مثل هذه الأقوال تبدو لنا اليوم مدموغة بطابع عقلية استعمارية، ولكنها تعبر تعبيرًا أوسع عن جهل مضحك أيضًا، وهو جهل لا يزال مع ذلك مستمرًا وعلى نطاق واسع في بدايات قرننا الواحد والعشرين، على رغم الإنجازات التي لا يمكن إنكارها التي حققتها علوم الحضارة الصينية منذ قرن، والتي ما زالت تولد الأحكام المسبقة ذاتها. ألسنا نسمع طول النهار من يصدح بأن الصينيين هم قبل كل شيء براغماتيون، وأن كل ما يهمهم الفعالية والأهداف العلمية على حساب التجريد والابتعاد عن الفكر الفلسفي والعلمي؟ لم يكن لرينان بالطبع أدنى معرفة باللغة الصينية. وهو بتأكيده أنها تنبذ "كل فلسفة، وكل علم، وكل دين" بالمعنى الغربي لهذه الألفاظ، حدد برنامج كتابنا هذا".
وتوضح البرنامج مشيرة إلى أن هدف الكتاب نزع الأسطورة عن الطرق الرئيسة التي يصل عبرها الجمهور الغربي إلى الثقافة الصينية وهي: الكتابة والسياسة والكونفوشيوسية والفلسفة والطب والأديان.
إسهامات ضرورية
يتضمن الكتاب عددا من الدراسات التي يتناول كل منها موضوعا يختص بجانب معرفي من مكونات الثقافة الصينية يشارك فيها عدد من المختصين في التاريخ والثقافة والفكر الصيني الصينيين والغربيين، وهؤلاء المساهمون هم: فيفيان أليتون، المختصة في اللسانيات الصينية، وجان فيليب بيجا المختص في السياسة والمجتمع في الصين المعاصرة، وكارين شملا الأستاذة في تاريخ الرياضيات في الصين، آن شنغ (محرر الكتاب) وتسهم بدراسة حول التاريخ الفكري للصين والكونفوشيسية، شي كزياو كان أستاذ اللسانيات في جامعة فيدان بشنغهاي، جاك جيرينيه أستاذ التاريخ الاجتماعي والفكري في الصين، فنستان غوسار الذي يسهم يختص في التاريخ الاجتماعي والديني للصين، بالإضافة لكل من إليزابيث هسو، داميان مورييه جينو، وجويل تورافال، ليون فاندرميرش، زهانغ بينديه، نيقولا زيفيري.
بين ما تضمه فصول الكتاب المهم، فصلا يؤصل للفكر الفلسفي في الصين كتبه جاك جيرنيه يركز على أفكار واحد من أبرز مفكري الصين من القرن السابع عشر وهو وانغ فوتشي (وتكتب وانغ فيزهي)، الذي ولد عام 1612 وتوفي في العام 1692، حيث يقارنه بأفلاطون وارسطو والقديس أوغسطين وديكارت، بمعنى أنه من المفكرين الذين لا يمكن إغفالهم أو تجاهلهم في مسيرة الفكر الصيني.
ويوضح الخلفية التي ميزت شخصيته مشيرا أنه انخرط منذ شبابه انخراطا قويا في أحداث عصره التي كانت واحدة من أكثر المراحل مأساوية في تاريخ الصين، فإنه تأثر عميقا بالقضاء على سُلالة مينغ (Ming) وبتأسيس صين المانشو، فشارك شخصيًّا في الحلقات السياسية في عصره وفي مقاومة المحتل، وشهد مقاومات العصابات في بلاط مينغ الجنوب. وقد ولدت هذه التجارب لديه حقدًا جارفًا على المتخاذلين المتعطشين للسلطة وللثروة والمستعدين للتعاون مع المحتل.
ثم يقدم تحليلا مفصلا لأبرز ما جاء في أفكاره، وخصوصا كتابه "التحولات"، التي حاول بها أن يقدم تأملاته في فهم الوجود، وأبرز ما أسس له من أفكار عن الصيرورة والتغيرات في العالم والطبيعة والإنسان.
يقول جيرنيه: هناك موروث طويل جعلنا نقتنع أن ما من فلسفة تنشأ إلا انطلاقا من اللغة: إنها بالنسبة إلينا خطاب معقلن أو تأمل في اللغة. ولكن التحليل الذي يقدمه مفكّر ينتمي إلى عالم بقي طويلا من دون أي احتكاك بعالمنا الغربي يقدم الدليل، كما هو الشأن عند فيزهي، على أن تفكيرًا لا هم له سوى أن يفحص الطبيعة وما يضادها مع الأشكال الإنسانية المصطنعة كلّها، هو تفكير يمكنه أن يوجه الفكر نحو دروب أخرى غير متوقعة.
الحداثة رغم كونفيوشيوس!
في فصل بعنوان "من كونفشيوس إلى الروائي بين يونغ" يقوم الباحث نيقولا زيفيري بتقديم تأصيل مختصر لأبرز أفكار الكونفوشيوسية ليصل إلى نوع من تحديد إشكال يوضحه بالقول أن مشكلتها أنها تجد جذورها في نظرة «بدائية» نسبيا للإنسان والمجتمع. وإن كان كونفوشيوس نفسه يقدم النزعة الأخلاقية الملزمة التي تأخذ تجلياتها الكونية بالاعتبار، والتي علينا ألا نخلطها مع الاستعادات التبسيطية للبعض في الصين الشعبية اليوم، فإن علينا أن نشير إلى أن الكونفوشيوسية تحتفظ ببعد عشائري، بل وحتى قبلي، أو طبيعي، ونقول هذا من باب التلطيف، فالـ «رن» هو إيثار الأقارب وعبادة الأسلاف واحترام القدماء وتقديم الجماعة على الفرد والإخلاص للأسرة وواجب الأخذ بالثأر، وهي قيم تبدو طبيعية أكثر من الحبّ الكلي أو من إثبات المساواة بين الجميع.
ويضيف أن للكونفوشيوسية ميزة تذكّرنا إلى أي حد يصل عدد المفاهيم التي تبدو لنا بديهية ولكنها في الحقيقة منتجات حضارية، وهي بالتالي بمعنى من المعاني مصنوعة. وهنا تكمن قوة هذا التيار الفكري وضعفه في آن واحد، أما قوته فلأن الكونفوشيوسية تنطلق من الموجود وليس من المنشود، وأمّا ضعفها فناجم عن كونها قد لا تتلاءم تمامًا مع الديموقراطية، أو مع أنظمة سياسية حديثة مغايرة تتطلب شيئًا من التجريد الذي يترجم نفسه في فكرة القوانين الكلية والمطبقة على الجميع.
كيف يحرر المثقف ذاته من الوهم؟
في فصل لفت انتباهي لاهتمامه بالنقد الثقافي الذاتي، وهو أمر يشغلني شخصيا على المستوى العربي، اهتم أحد المشاركين بنموذج المثقف الذي يرى أن النقد الذاتي هو السبيل الثقافي الإيجابي وليس مجرد المعارضة السياسية والثقافية للنظام الحاكم، وهو "لي كزياو بو"، من خلال دراسة لجان فيليب بيجا المهتم بالثقافة الشعبية في الصين.
يقول: بدأ لى كزياو بو مسيرته في الأدب، شأنه شأن عدد كبير من المثقفين الذين أثروا التاريخ المعاصر لهذا البلد. وعلينا ألا ننسى ظهور مفكرى 4 أيار/ مايو على المسرح سنة 1919، وهم الذين أدخلوا الشيوعية والليبيرالية إلى الصين بنضالهم من أجل إرساء ثقافة جديدة. يحتل الأدب فى الصين منزلة خاصة، وتعيد وفاة ماو تسي تونغ، وخاصة بعد قمع المنشقين الذين اقترنت تسميتهم بـ «جدار الديموقراطية» سنة 1979، تولت الروايات والأشعار مسؤولية الانتقادات الموجّهة للنظام. تعالج هذه الروايات قضايا السجن، وإبعاد الشباب المتعلّم إلى الريف، ومدارس كوادر 7 أيار/ مايو، حيث أُجبر عدد من المدرسين على العمل لإعادة تأهيلهم. هذا الأدب هو النوع الذي وصف بأنه أدب الندوب (208) .
على رغم ذلك، انتقد لي هذا الأدب في سنة 1986، متهما المؤلفين فيه بأنهم كتبوا أناشيد فى تمجيد أفراد من طبقتهم، وهم المثقفون الذين لم يكن سلوكهم خلال تلك السنوات حسنًا دائما. ثم ندد بجبن أدباء الثمانينيات، وبشكل أهم بعدم قدرتهم على الإفلات من أداء دور المستشار الذي بوّأهم إياه التقليد. أثارت هذه الأفكار فضيحة كبيرة في أوساط الكتاب الكهول الذين كانوا يظنون أنهم أبدوا شجاعة فائقة في رفضهم استبداد الماوية. والواقع أن لي كزياو بو، وقد كان منخرطا في الصف الأمامي لحركة 4 أيار/ مايو وناشطيها المعادين جمود التقليد، هاجم بعنف الموروث الصيني، مطالبا الإنتليجنسيا بأن تقطع الحبل مع السلطة كي تصبح إنتليجنسيا حديثة بحق.
السير عكس التيار
والحال أن لي كزياو بو اختار موقع الهجوم على التقليد، في وقت كان العديد من الفلاسفة داخل الصين وخارجها بالخصوص، يشيدون بمآثر الكونفوشيوسية، فقد بين من قبل أنه لا يتردّد في السير عكس التيار. كان من الضروري، في نظره، الدفاع عن استقلالية الأدب الذي لا يجب أن يخضع لأي قضية. ويذهب في تفكيره إلى أن جوهر المثقف إنما هو عقله الناقد، لذلك عليه ألا يخشى المجازفة بحريته، بل حتى بحياته، من أجل الدفاع عن إمكان ممارسة الحرية. لا يكتفي لي بالتصدي للكتاب المحافظين المدافعين عن الواقعية الاشتراكية، والرومانسية الثورية الرسمية، بل يهاجم أيضًا أولئك الذين يستخدمون الأدب لتعزيز الإصلاحات بالنسبة إليه على الكاتب أن يقول الحقيقة قبل كل شيء، من دون أن يبالي بنتائجها السياسية، وعليه أن يرفض ممارسة الرقابة الذاتية".
تواريخ الفلسفة الصينية
ولا يمكن عملية الانتقال من التقليد إلى الحداثة بل قل إلى ما بعد الحداثة أن تتم إلا بإيجاد فئات جديدة في الصين تسعى إلى امتلاك ميادين المعرفة الحديثة المبنية على قاعدة القوة الغربية. وتحت هذا العنوان قامت آن شنغ (Anne Cheng) بتفحص اختراع مقولة (الفلسفة) في الصين في بداية القرن العشرين بواسطة اليابان، ثم فحصت تواريخ الفلسفة الصينيية بما هي جنس أدبي تكاثر إثر ظهور أعمال مؤسسيه هي شي وفنغ يولان بين 1920 و 1930، وهي أعمال ما زالت حتى اليوم تغذي العديد من المساجلات في الصين.
واهتم فنسان غوسار من جهته بظهور مفهوم الدين بمعناه الغربي الحديث في الصين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو البلد الذي لم يُعدم في هذا الصدد أن تنشأ فيه سياسات ذات نزعة توجيهية وقمعية، إن قليلا أو كثيرًا، ولكن رأت فيه النور أيضًا ظواهر تتمثل في صحوة الديانات المحلية، بل وحتى ابتكار ديانات جديدة. وما تنشغل بتحليله إليزابيث هسو (Elisabeth su) في هذا الكتاب هو أيضًا مسار الاختراع، فتعالجه من خلال انبثاق حديث العهد للطب الصيني التقليدي تزامنا مع تأسيس جمهورية الصين الشعبية من سنة 1949، والذي ستتلوه ظواهر ملحقة به، مثل الافتتان بالأدوية العشبية المسماة بالتقليدية وبالممارسات الجسدية المندرجة تحت الاسم العام كيغونغ.
يقدم الكتاب مداخل غاية في الأهمية حول الثقافة الصينية والكيفية التي طورت بها الحداثة في الصين على مدى القرن الماضي مجالات الفكر والأدب والفلسفة واللغة.
