No Image
عمان الثقافي

مملكة الفلاحين الأرضية قراءة في «ملحمة المطاريد» لعمار علي حسن

24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025

أحمد سراج -

احذر؛ سيتلاعب بك الكاتب - الكاتب الجيد - عند قراءتك لعمله؛ فستجد حكاية مشوقة فإن انصرفت إليها حققت كل أمنيتك، واحتفظ كاتبها بمفاتنها لغيرك، وإن تلفتَّ وصلتَ، فانتبه: «جوهر الفن التلاعب» و«الرواية ليست ما تحكيه». وما تقديمها المحتوى والإقناع والإمتاع فيها إلا لإخفاء شيء، أو للتمهيد له. فإن اكتفيت أو اقتنعت أو تمتعت فتلفت لتصل إلى رؤية عالمك أنت؛ فنحن نقرأ لنرى عالمنا، والعمل الفني نهرٌ لا ننزله مرتين، ولنختبر هذا في مطاريد عمار علي حسن.

(1)

يفتتح عمار ملحمته الثلاثية بما يشبه نبوءة هوميرية: « الأقدام الغليظة التي تدوس العشب لن تعيق نموه طالما المطر ينهمر. غلق النوافذ لن يمنع الرياح من الانطلاق إن جاء أوان هبوبها. الستائر السوداء السميكة لن تحرم نور النهار من معانقة الغرف الحبيسة. الزمن يجري سريعًا، ويجرف أمامه كل شيء، لكنه لا يقدر على تبديد الحكايات». ويخصص في الفقرة الثانية أصحاب الحلم المشروع، وكيف بنوا سرديتهم ونموها حتى سرت في كل شيء: «نزع آل صابر حكايتهم من قبضة النسيان. أورثوها لأولادهم قبل المال. وضعوها في أرحام النساء قبل نطف البنين والبنات. أطلقوها في مجرى النهر فحملها الماء إلى الآذان والنفوس بعد أن غنَّاها القوَّالون على الرباب وهم يغلبون دموعهم، ويلقون في مجراها الطويل عبارات وألحان جديدة». فما الحلم الذي يريده الصابرية؟ ومن الذي يمنعهم عنه؟ وكيف سيصلون إليه؟

تدور رحى الملحمة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عن نزاع تقليدي بين أكبر عائلتين في إحدى قرى الصعيد المصري؛ ما يكسب هذا الصراع أهميته الفنية ليس اشتداده ولا استمراره فحسب، وإنما صمود أصحاب الحق؛ ما خلق (المسألة الصابرية) بالتعبير الأدبسياسي.

(2)

يرى القارئ النفس «الملحمي» عند مروره بأي عتبة من عتبات النص (العنوان، المقاطع الشعرية، لغة السرد الشعرنثرية، الجمل الاسمية التي تدل على الثبات فيما خبرها جملة فعلية (حالية أو استقبالية). وسيجد تقاربًا بينها وبين السيرة الهلالية، لكنه سيحار في تقسيم الملحمة إلى أقسامها الثلاثة التي وضحها شمس الدين الحجاجي (المواليد، الريادة، التغريبة، الأيتام)، وستزيد حيرته حين يجد أن الشعر يفتتح الفصل فيما يسود النثر.

في نجع مشتول يتحدث الجميع عن حديقة السيد التي لا يستطيع أحد دخولها، وفجأة يقرر رضوان دخولها رغم المخاطر الهائلة التي تسقط على من يتحدث فقط عنها، لكن تخور قدماه بفعل المواجهة، ويخرج سيد المكان ممتطيا فرسه رافعًا إياه أمامه «كالزكيبة» ومنطلقًا سابقًا فيضان النيل الكاسح، حتى يصل إلى «نجع المجاذيب».

(3)

رضوان في نجع مشتول كان فلاحًا معدمًا، لكنه في نجع المجاذيب صار «المالك» طبقًا للعرف السائد: «من أحيا أرضًا فهي له»، وبناء على توصية المنقذ به. والسؤال الذي يطرحه القارئ: لماذا اختار المنقذ رضوان فقط؟ ولأن المنقذ صوفي؛ فالاحتمالات مفتوحة منها: «وكان أبوهما صالحًا»؛ إذ كان أحد أجداد رضوان جنديًّا رفض التعذيب والبرطلة، ومنها أن «الباب يفتح للواقف أمامه»، ومنها فراسة المنقذ الذي أدرك أنه بإنقاذ رضوان سيحيي أرضًا كاملة.

(4)

يبدأ رضوان الزراعة ومعه المجاذيب يدًا بيد، لكنه منذ البداية يكتشف أن هناك عالمين متداخلين: تداخل الماء والهواء والشمس للزرع. «انتبه» رضوان إلى أن بقية المجاذيب ليسوا كصاحب الخص؛ فهم إن أكلوا من طعام نقص، وإن شربوا من قُلة فرغت. حين اختلى بأحدهم، وسأله عما استرعى انتباهه ابتسم، وقال: «ليس بيننا مثل من أتينا إليه؛ فنحن في أول الطريق». وتذكر «رضوان» ما قاله له المجذوب عن جده الذي اختار طريقًا آخر، فقال في نفسه: «إنما جاء الرجال ليزرعوا ويحصدوا، ويأكلوا من عمل أيديهم». أما المجذوب فقال له: «أتوا ليؤنسوا وحدتك بعد رحيلي، وبذا أكون قد أديت الأمانة التي علقها في عنقي الرجل الجليل». بهذا العهد الجليل غير المكتوب ستسير حياة رضوان ومعظم بنيه من بعده؛ كدٌّ بلا حد، ومحبة ظاهرة للصوفية.

الفيضان ليس نهاية كل شيء هنا، بل يستخدمه الناص على أنه بدء للعالم الجديد؛ الفردوس الأرضي الذي صاغه بشري يشقى ويسعد، يعرى ويلبس، يجوع ويشرب، ونلمح هنا إشارة إلى متون الخلق: «وكان عرشه على الماء». ونلحظ هنا بكثير من التقدير سبب اختيار الناص لاسم (رضوان) الملاك خازن الجنة في الأثر الإسلامية، لكن الجنة الأرضية لا تخلو من إبليس؛ لهذا ففي حياة «غنوم» وريث رضوان يظهر «إبراهيم الجابر» بدعم المحتل الجديد (العثمانلية) ومباركته، فيأخذ قطعة أرض تزيد شيئًا فشيئًا، ويبدأ نسلاً يتكاثر شيئًا فشيئًا، ولا يتأخر الصدام الذي يحول الكبيران؛ غنوم/إبراهيم تأجيله.

يأتي الصدام لكل الأسباب ومعه يبطش الصابرية بجناة الجابرية الذين يسارعون إلى الانتقام بخسة وغدر. وتتحرك فصول الملحمة/المأساة من ولد ضاع ينبت في غير أرضه؛ فيضيع تكوينه المنتمي للأرض، ويفقد تجربة التربية في بلاده. وبضياع هذا وفقدان تلك لا يكون مؤهلاً لإعادة الصابرية لمكانهم ومكانتهم، وتكمل الأيام ضرباتها الموجعة للصابرية الذين لا يفقدون عرش بلدهم فقط، بل يهجرون ويفرون، لكنهم لا يفقدون حلم العودة.

من نسل الصابرية يكون الفلاحون والصناع، ومطاريد الجبل والتجار، ويسير نسلهم كما ماء النيل؛ لا يترك أرضًا إلا وصل إليها عبر جسده العملاق الممتد، وإلا عبر المياه الجوفية، لكنهم لا يفقدون جينات الكد، ومحبة الصوفية، وكراهية الظلم.

(5)

فيما لا يعثر القارئ على أصول «الجابرية» ينطق كبيرهم (مخزيًا) بالأصل الناصع للصابرية: «الوحيد الذي أنقذه السيد الكبير المهاب -الذي قيل: إنه صديق السلطان-، ورضي صاحب الخص أن يشاطره خلوته» ومن قبله ينبئ صاحب الخص رضوان بما كان، وبما سيكون: «لقد كان صاحب سر عظيم. كان أمهر جندي في جيش منتصر. فلما بغى الجند خالفهم، ولم يرض أن يلطخ سيفه بدم أحد، رمى السيف، وعاش شهورا في جوع وحاجة، حتى صفت روحه، وحمل الفأس، فأكل من ضرباته حتى مات. معك ستفيض الفأس بما فوق حاجتك، لكنك لن تبخل على أحد». وفيما يستطيع القارئ بيسر أن يحدد موقع الصابري من عائلته: «رضوان بن ناجي بن جعفر بن منصور بن خير الدين بن مهدي بن مالك بن عطا الله بن سالم بن غنوم بن وهدان بن رضوان بن عبد القيوم بن خليفة بن عرفان بن سدَّاد» يختفي نسل الجابرية مهما أجهد القارئ نفسه.

خمسمائة عام والصابرية يزرعون ويبنون ويزدهرون وينكمشون، والجابرية يقاسمونهم الأرض ويخطفون أبنائهم، خمسمائة عام كانت كافية لمحو العائلتين، لكن اللافت هو بقاؤهما، ثم انصهارهما في زيجة واحدة «جعفر الصابري» و«عبلة الجابرية»، وإنجابهما ابنًا يعيد للأيام سيرتها الأولى؛ سيرة الزرع والبناء والتعمير.

لا يلتزم الناص بنسق واحد في عرض أبطاله ملحمته، بل يترك الأمر لدورهم الذي يتنوع بين التاريخي والإنساني والأسطوري؛ فإبراهيم المؤسس يختلف عن غنوم الوارث. يختلفان عن جعفر العائد الثائر.

(6)

نسج الناص ملحمته وسط حدائق ذات بهجة من النصوص السابقة فيما أعطى النص تنوعًا فريدًا. وقد اختط لنفسه تمايزات عن كل نص سبقه؛ حتى ليجد القارئ نفسه أمام سردية مائزة. ولنقف أولا عند بعض ملامح الاتفاق والاختلاف مع النصوص السابقة؛ التوالد الحكائي أصله في ألف ليلة وليلة، ورحلات الأبطال، وضياع ابن في الصغر فيصبح نجمًا في كبره. لكن هذا التوالد يرتبط بمحور واحد؛ مصاشر الصابرية، بنية المحو والبناء، وهنا يجب الاستشهاد بما قاله سليمان العطار في كتابه «الموتيف في الأدب الشعبي والفردي»: «إن دورة الحياة بناء وهدم، وعود على بدء، وعمل من أجل اللاعمل. إنها دورة مفرغة. لكن تدخل الإنسان في تشخيص هذه الدورة وتصميمها بفعله يمكن أن يوقف حركتها إذا شاء بتفجير الصراع معها بعد أن كان الصراع خفيا. إن هذه الموتيفة تكاد توجز ملحمة الأوديسة. كما أنها تقدم في خفاء مصب عدد من الموتيفات في الملحمة». الموتيف الذي استعاره ماركيز من الأوديسا هو جدلية المحو والبناء، وفي الملحمة نجده جليًا؛ فالجندي الكبير ترك الجيش، والحديقة الرائعة أكلها الفيضان، والسيادة التي كان للصابرية انهارت، لكن المطاريد تخالف هذا إعلانًا وإبطانًا؛ فنحن أمام عودة نهائية للأبناء، وأمام حلم بعود الابن الضائع المختطف. وفيما تنتهي رواية ماركيز بانتصار المحو (ولادة المسخ من زيجة غير شرعية) تنتهي رواية عمار بالإعمار من أجل القادم المتحقق من قدومه.

(7)

أحداث الرواية وأبطالها وتناصاتها وأزمنتها وأماكنها تقودنا إلى رؤية عالم تخص منتجيها؛ الكاتب والقارئ. ولئن خطفت رحلة البحث عن الفردوس الضائع أنظار قارئ فإن تأمل النص وحدة كاملة سيقودنا إلى رؤية كامنة تستمد قوتها من هذا الكمون: وما الدهرُ في حال السكون بساكن ... ولكنه مستجمعٌ لسكون. إن الرؤية الكامنة هي: حضور مهيمن للفلاح، مع غياب دال للحكام (المماليك، العثمانيين، والأسرة العلوية) تتخلله فترات حضور مشين، ويصل حضور الفلاحين حتى تحقق الفردوس الأرضي عندما تشب ثورة 1919، حين سعى الفلاحون لاسترداد كل ما لهم، ليس الصابرية فقط، وإنما مصر؛ مملكة الفلاحين الأرضية.

أحمد سراج شاعر مصري