عمان الثقافي

مغامرة «أخبار الأدب»

26 أبريل 2023
26 أبريل 2023

في اليوم الذي صدر فيه العدد الأول من أخبار الأدب (يوليو 1993) كنت متجها لأداء الكشف الطبي اللازم لاستكمال إجراءات الالتحاق بالجامعة. لم يؤهلني مجموع درجاتي للالتحاق بكلية الطب كما كنت أحلم، فاخترت دراسة الأدب بديلا مؤقتا على أن أسعى لإعادة امتحان الثانوية العامة في العام المقبل.

حصلت على نسختي من الجريدة الجديدة التي كنت أنتظرها بشغف، وخاصة أن حملة إعلانات سبقت ظهورها، وشرعت على الفور في تصفح موضوعاتها انتظارا لدوري في الكشف الطبي. تصفحت العدد بأكمله سريعا، وتوقفت أمام اسم إدوارد سعيد الذي تضمن العدد مقالا مطولا عنه، اخترت بسببه دراسة الأدب الإنجليزي.

أصبحت أخبار الأدب منذ ذلك الوقت الرفيق الأسبوعي، النافذة التي أطل منها، وأنا الذي أسكن قرية في جنوب مصر، على الأفكار الجديدة مصريا وعربيا وعالميا، على معارك الثقافة والمثقفين. بعد أسابيع قليلة، ربما في العدد العشرين، حاور جمال الغيطانى إدوارد سعيد حوارا مطولا عن حياته وأفكاره وكتاباته، لتخفت الرغبة تماما في إعادة امتحانات الثانوية لدراسة الطب، وأصبح الأدب والصحافة التي تقدمها أخبار الأدب هو الهدف.

وقتها لم أحتاج – في قريتي البعيدة- سوى مظروف وطابع بريد، أكتب مقالات وأرسلها وانتظر أسبوعا أو اثنين لأجدها منشورة في الجريدة. بعد خمس سنوات تحقق الحلم عندما أتاح لي الأستاذ جمال الغيطاني فرصة للتدريب في الجريدة، ولم أغادر المكان من يومها.

**

في يوليو القادم، سيكون قد مر ثلاثون عاما على صدور «أخبار الأدب». عمر كامل، ونادر أيضا لجريدة ثقافية استطاعت الصمود كل هذه السنوات، وتجاوزت الصعوبات والمعوقات التي كان يمكن أن تحول بينها وبين الاستمرار. ولم تغب عن الواقع بل اشتبكت معه، وكان هذا الاشتباك هو شرط حيويتها وتجددها، ومن ثم استمراريتها.

كانت سنوات السبعينيات وبدايات الثمانينيات في مصر، سنوات جدب ثقافي، أغلقت تقريبا كل المجلات الثقافية، واستولى اليمين الثقافي الذي يقف ضد التجديد والحداثة على ما تبقى منها. وقتها توزع المثقفون المصريون بين العديد من المنافي فيما عرف بـ«التغريبة الكبرى للثقافة المصرية». ولم يعد أمام من تبقى من المثقفين، والأجيال الجديدة من الكتاب سوى مجلات «الماستر» ذات التأثير الكبير والانتشار المحدود.

شهدت هذه السنوات صعود تيارات الإسلام السياسي والحركات الدينية الأصولية في العالم العربي، كان العنف في كل مكان تقريبا.

هكذا صدرت أخبار الأدب، وسط مناخ يعادي حرية الإبداع، تتزايد المحظورات وتتسع بينما تتراجع سلطة الثقافة وتتقهقر أمام ذلك الزحف.

في أكتوبر 1992 اجتمع رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم إبراهيم سعده بالروائي جمال الغيطاني من أجل تكليفه برئاسة تحرير أخبار الأدب. في الاجتماع سأله سعده: في كم صفحة يمكن أن تصدر أخبار الأدب؟

أجاب الغيطاني: 24 صفحة!

وكان الغيطانى يتمنى أن يكون العدد أقل من ذلك.

أجاب سعده: كل إصدارات المؤسسة لا تقل عن أربعين صفحة، وأخبار الأدب لن تقل عن ذلك أبدا.

في يومياته يكتب الغيطاني: «بعد انتهاء الاجتماع عدت إلى مكتبي لأتأمل في هدوء وخوف المشروع الجديد، وكلما تصورت الرقم والصفحات أتوجس ويتضاعف حذري، وعبر شهور عديدة كنت أسمع تلك الصيحة: أربعين صفحة. ومن أين لكم بالمواد التي يمكن أن تغطي هذا الكم أسبوعيا؟ ولكن دارت عجلة العمل».

ما أدهش الغيطاني أنه خلال شهور الإعداد، فوجئ هو وفريق العمل معه بآلاف الرسائل البريدية تحمل نصوصا إبداعية، ودراسات نقدية وترجمات، واقتراحات للجريدة الجديدة يكتب في يومياته: «يتدفق نهر الإبداع في كافة المجالات، ونسعى إليه، نحنو على ما يحمله ونحاول قدر الإمكان أن نستوعبه، لقد فاض النهر وطغى، بحيث ضاقت الصفحات الأربعون بالمحاور التي خططنا لها، حتى أن النصوص الإبداعية التي تلقيناها تحتاج وحدها إلى ثلاث سنوات كاملة لنشرها»... وهكذا بدأت التجربة.

**

كان جمال الغيطاني واعيا منذ تأسيس الجريدة أن أي تاريخ للنهضة الحديثة في العالم العربي لا يمكن أن يغفل التراث الحضاري الذي خلفته مجلات مثل الثقافة والرسالة والمجلة الجديدة وغيرها، وأن أسئلة الحداثة بدأت من الصحافة التي استوعبت أفكار طه حسين والعقاد والمازني وقاسم أمين ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى.. وآخرين، وأن الصحافة هي التي حملت هذه الأسئلة إلى الجمهور الأوسع بعيدا عن أسوار الجامعة أو نقاشات النخبة في القاعات المغلقة، وكانت مجالا لمعاركهم التي أسهمت في تطوير المجتمع أو على الأقل في وعيه بذاته وقدراته.

كما أدرك أيضا أن كل مطبوعة تخرج إلى الواقع، ما لم تكن هناك حاجة أساسية تلبيها أو رؤية صحيحة تعبر عنها فإنها تولد ميتة. ومن هنا كانت أخبار الأدب هي امتداد لتجارب صحفية ثقافية سابقة، هي ابنه مجلة الرسالة والثقافة والكاتب المصري، والمجلة الجديدة، والمجلة، وهي المجلات التي كان يحررها محمد حسن الزيات وسلامة موسي ويحي حقي، فضلا عن تجربة ملحق المساء الأدبي الذي كان يحرره المبدع الكبير عبد الفتاح الجمل والذي أسهم في تبنى تجارب جيل الستينيات في الأدب المصري. كان الدرس الأول في هذه التجارب هو أن الثقافة ليست «قُطرية» وإن نجاح أي مجلة أو جريدة ثقافية يعتمد على قدرتها على الانفتاح على التجارب الإبداعية الجديدة في العالم العربي كله وليس في مصر وحدها، ومن هنا لم تكن تجربة أخبار الأدب مصرية خالصة وإنما عربية أيضا.

لم يكتب الغيطاني في الأعداد الأول بيان تأسيس للجريدة يبين الهدف منها أو اتجاهاتها إذ ترك مساحته في العدد الأول لنجيب محفوظ الذي كتب يحيي الجريدة الوليدة، وما يتمناه ويتوقعه منها: «آمل أن تكون ميدانا فسيحا لالتقاء الأصالة بالمعاصرة، وفتحا شاملا للإبداع والنقد والقضايا الفكرية. كونوا شعلة لنهضة جديدة». بعد عام كتب الغيطاني ما يشبه الدستور الذي يحكم العمل في أخبار الأدب: «وحدة الثقافة العربية التي تستمد قوتها دائما من تكاملها، احترام الدين والوقوف في وجه محاولات توظيف الإسلام بأهدافها الصغيرة التي تضعه – ظلما- في موقع النقيض من حرية الإبداع، تنمية الإحساس بالجمال كقيمة توشك أن تختفي بعد أن اعتادت العين القبح أو كادت تعتاده، وأخيرا الانفتاح على كل التجارب الإبداعية الهامة في أنحاء الوطن العربي».

عبر هذا الدستور خاضت الجريدة معارك لا حصر لها دفاعا عن حرية الإبداع، وضد منطق الوصاية، منذ الأسابيع الأولى هاجمت فتاوى التكفير ومواقف شيوخ مثل الغزالي ومحمد عمارة من الثقافة، وضد مصادرات الكتب التي تقوم بها مؤسسات رسمية. انحازت إلى نصر حامد أبو زيد في أزمة ترقيته الشهيرة مع جامعة القاهرة والتي انتهت باختياره المنفى، وفى معارك مصادرة رواية وليمة لأعشاب البحر أو غيرها من معارك، فضلا عن حوارات وسجالات فكرية بين أبرز الكُّتاب في مصر والعالم العربي. كان شعارها 356 معركة في العام، أي معركة كل يوم. ولكن لم تكن المعارك الثقافية وحدها هي شعار الجريدة، وإنما تقليب التربة كما قال الغيطاني، أي البحث عن الأصوات الجديدة في كل مجالات الأدب وتقديم نصوصها، وعرض هذه النصوص على النقاد للكتابة عنها، ومثلما أسهم الملحق الثقافي لجريدة المساء ومجلة المجلة في تقديم جيل الستينيات الأدبي ونشر أعماله، أسهمت أخبار الأدب في تقديم جيل التسعينيات، أو تقديم الأفكار الجديدة في النقد والإبداع في كل العالم.

**

كانت تجربة أخبار الأدب منذ تأسيسها أشبه بخشبة مسرح، يؤدي فيها الجميع دورا غير مكتوب، مسرح مرتجل، تدرك الجريدة أخطاءها أولا بأول، وتصححها. حالة من التجريب المستمر في الإخراج الفني، والتبويب، والصياغات والمادة المنشورة... واختيار الكتاب وغيرها. لم تكن تجربة جامدة، أو تتعالى على النقد الموجه إليها من الداخل (في اجتماعات التحرير) قبل أن يكون نقدا خارجيا من مثقفين أو كتاب.. كان لدى الجميع إدراك أنك لن تستطيع أن ترضي الكل. في ذلك السياق عمل الجميع وفق قاعدة من الثوابت التي اتفقوا عليها.. كان أهم هذه الثوابت أننا ضد أيه أشكال للرقابة، ضد الفساد الثقافي، مع تبنى المبادرات الجديدة في الفن والأدب، أن نظل على يسار المؤسسة الثقافية الرسمية، ما يسمح بوجود مساحة من نقدها. لم تفرض هذه الثوابت على أي من محرريها بل كان الجميع على توافق وانسجام فكرى واضح، وإن احتفظ كل محرر بأفكاره الرئيسية. ربما ساهم ذلك في تبنى أفكار راديكالية أحيانا، ولكن لم يحدث انقسام واضح حول القضايا الرئيسية فيما بينهم، وهو ما مكنهم من اتخاذ مواقف متشابهة في كثير من الأحيان وخاصة في العام الذي وصل فيه الإخوان على السلطة في مصر، كان هناك اتفاق واضح على الالتزام بثوابت الجريدة مهما كلفهم ذلك. وربما كان هذا «التقارب الفكري» وتلاشى الفوارق الإيديولوجية بين محرريها هو الذي حمى الجريدة لتصبح «فكرة» وتصبح مرآة حقيقة للثقافة المصرية في صعودها وانحدارها.

**

كما كانت أخبار الأدب تجربة خاصة، كان جمال الغيطاني- أيضا- رئيس تحرير مختلف. كان مكتبه مفتوحا دائما، ليس لديه سكرتارية، لم تكن لتلتقيه وفق موعد مسبق. كما لم يكن ليغضب لاختلاف الآراء، التوجهات، أو يفرض علينا وصاية ما. في مكتبه ألتقينا مئات من المبدعين العرب الكبار مثل أدونيس ومحمود درويش، بل وأسماء ذات ثقل عالمي مثل أورهان باموق، أو باولو كويلو. كان اجتماعنا الأسبوعي في الثانية عشرة كل خميس، نبدأ بمراجعة العدد الذي خرج لتوه من المطبعة، ما الذي ينقصه ليكون أفضل؟ ما الأخطاء التي وقعنا فيها؟ كيف يمكن تلافيها؟ ثم يتطرق الحديث إلى موضوعات العدد القادم، وأهم الأحداث التي سيتم تغطيتها، ثم يتطرق النقاش إلى الأفكار الاستراتيجية للأعداد القادمة والملفات التي يجب العمل عليها. وحينما يكون مزاج الغيطاني رائعا، تبدأ الحكايات، لم تكن مجرد قصص يُزجي بها الكاتب الوقت، لكن تتسع الحكايات ليحلق بنا شرقا وغربا. ولا ينتهي العمل دائما بصدور العدد أو بالاجتماع الأسبوعي، على الهاتف نتابع ردود الأفعال، ونتلقى التكليفات، ولا تنتهي المناقشات أبدا.

محمد شعير صحفي وكاتب مصري