2
2
عمان الثقافي

مُعْضِلَةُ القُـنْـفُـذ Hedgehog’s dilemma

25 أكتوبر 2023
25 أكتوبر 2023

ينقل «سيغموند فرويد» عن نظرية «آرثر شوبنهاور» ومعاينته مجتمع القنافذ، ومعضلتها، في مقال «مشكلات جديدة واتجاهات جديدة في البحث»:

«في يوم صقيعيّ من أيام الشتاء، تَرَاصَّ قطيعٌ مِن الشياهم (القَنَافِذ) بعضها لصْقَ بعض؛ اتّقاء البرد بالدّفء المتبادل. ولكنّها ما لبثت، وقد أوجعَها الشَّوْكُ، أنْ تباعدتْ بعضها عن بعض. غير أنّ البرد المستمرّ أضطرَّها إلى التّداني من جديد، فأحسَّت مرة أخرى بِوَخْز الشَّوْك المُزْعِج. واستمرَّ هذا التّناوب بين التّداني والتّنائي إلى أنْ وجدَتِ المسافة المناسبة، حيثُ شعرت أنَّها بِمَنْجَى عَنِ الأذى».

تستغرقُ العلاقاتُ الإنسانية مسافات زمنية متفاوتة في النضوج والتماسك، لا سيما تلك العلاقات التي تُوصف بالحميمة، لكنها -والأمرُ كذلك- قد تُواجِهُ ذاتَ لحظةٍ خطرَ الانفلات والتفكّك، وفي ذات سياقٍ تضطرُ الذّواتُ إلى أنْ تُوقِظَ وَعْيَها لتُعِيدَ التّوازنَ، وتُقَيِّمَ علاقاتها. قد يكون هذا الإجراءُ على المستوى النّظريّ يحملُ طابع المَرَانَة والسّلاسة؛ مِمَّا يجعله المُنْقِذَ الأسرع، والمُخَلِّصَ الأنجَع مِن الأذى العلائقي، إلا أنَّه، على المستوى العملي -في الحَمِيمَةِ- يبدو في غاية الصّعوبة.

إنَّ عملية الاقتراب والابتعاد التي لاحظها الفيلسوف الألمانيّ «شوبنهاور» على القنافذ؛ طلبًا للدفء، والمُعْضِلَة التي واجهتْها من أذى الأشواك في التصاقها، ومن قساوة البرد في ابتعادها، تُحِيلُنا إلى العملية نفسها التي قد يمارسها الإنسان وهو يحاول أن يحافظ على علاقاته مع الآخرين؛ لِيستحوذَ على لحظات دِفْءٍ بقُـرْبِهم، ويتجنّبَ قساوة الحياة في انعزاله عنهم. فحينَ يهاجمُ الشتاءُ القارس مجتمع «القنافذ» تلتصقُ ببعضِها؛ مِمَّا تتولدُ من هذا الالتصاقُ الشَّوْكِيّ حرارةٌ تُشْعِرُها بالدّفء، لكنَّها سرعان ما تتألّم من وَخْز الأشواك فتبتعد عن بعضِها، وعلى ذلك الأَلَم بعدَ تجرِبةٍ دامية، قامَت «القنافذ» بوضع «مسافة آمنة» safe distance تكون قريبة من بعضها تقِيها قساوةَ البرد، وتُجَنِّبُها ألَمَ الأشواك.

يحتاج الإنسانُ إلى الآخر؛ يحتاج فيه إلى ذلك القرب الشّعوري الذي يمنحه القيمة الإنسانية في الحياة، ويمنحه الاستمرارية في العطاء وإنْ كان في ذلك القُرْبِ شيءٌ مِن الألم والمعاناة. فهذه الممارسة (القُنْفُذيّة) في قُطْبَيْها تشتغلُ على الحياة فقط؛ في طاقتها الإيجابية، ومن أجل الحياة، إلا أنَّ مُنَغِّص «الأشواك» جعل هذه الكائنات تبحث عن طريقة أخرى تُـتابع بها الاشتغال على طاقة الحياة، وكي يستمر التفاعل المجتمعي كانَ القُرْب الذي يحافظ على مشاعر بعضها، ويُجَنِّبها قطيعة قد تُعرِّضها للموت أو يُفَكِّك مُجْتَمَعَها، فتنهار القِيمةُ العلائقية بين أفراده.

في الأدب تتكدَّس صُوَرُ الحياة التي تشتغلُ -بشكل مباشر أو غيره- على «معضلة القنافذ»، حيثُ يستثمر المترجم والكاتب العراقي «فلاح رحيم» نظرية شوبنهاور في روايته «القنافذ في يوم ساخن» بعنوانٍ مفارقٍ حكايتَه الأصلية، بل إنَّه صدَّرها بنصّ «شوبنهاور» الذي يتحدّث عن حكاية «القنافذ في الشتاء البارد»؛ تقع أحداثُ الرواية في كلية صُور العُمانية، وتسرد حيثيّات الحياة عند الأساتِذَة «القنافذ» الذين اختاروا العزلة والابتعاد عن بعضهم في مجتمع الكلية التي هي في عزلة أيضًا عن صخب المدينة الحديثة، وضجيجها، على أنّ الرواية بالمقابل تسرد العلاقة التي نشأت بين «سليم» بطل (الرواية) المدرِّس في كلية صُور و«ساندرا» الأجنبية الأستاذة في الكلية نفسها، كان «سليم» يؤمن بالعزلة، والابتعاد عن الآخرين، منغمسًا في كُتُبِه وقراءته، لكنه في أعماقه يحتاج إلى مَن ينتشله من حالة الصّدأ التي يعيش فيها. كانت «ساندرا» -القادمة بِعُقَدِها النفسيّة، وشَبَقِها الجِنسيّ المَرِيض- هي المادّة الكيميائية التي استطاعت أنْ تُجْلِيَ صدأ السّنين من جسده المُنْهَك بين المنافي، لِتَلْتَصِقَ بِجَسَدِ «سليم» القاحل، إلا أنّ النّهاية كشفت له -بعد التصاق «الجَسَدَيْن»- عن أذى «فيروسيّ»:

«أحسستُ بعد يومَيْن مِن مغادرة «ساندرا» الشقّة بتلك الحكّة الملحّة الغريبة... لأوّل مرّة... قصدتُ الحمّام في الكلية صباحا وفتحتُ أزرار البنطلون لأتفحّصَ مصدرها في ضوء الشمس الساطع فأجد بثرةً حمراءَ قانية كالحَرَق ..... . » فزادَتْ مِن صدمتي عبارة إنجليزية فصيحة لا تقبل اللبس:

«لا يُوجد علاج للمرض، قد ينفع العلاج للتخفيف مِن الأعراض ومِن الألم لكنه لن يقضي على الفيروس الذي يبقى يستوطن الجسم ما دام حيًّا». ليجدَ نفسه في نهاية الأمر مُجْبَرًا على تقديم استقالتِه؛ خشيةَ أنْ يفتضحَ أمره، ليعود إلى البحثِ عن منفًى آخرَ يضمّ جسده المنهك، وذاكرته التي باتت مُكَدَّسةً بِصُوَرِ الموت في بلده. فالفِعْلُ الجِنْسِيّ بِدُونِ حُبٍّ -على رأي فروم- لا يُقيم جُسُورا على الإطلاق فوقَ الهُوّة بينَ كائِنَيْنِ إنْسانِيَّيْنِ إلا لِبِضْعِ لحظات. وبالمقابل فإنّ القرب الشديد في العلاقات لا يُـقيم جسور التفاهم بقدر ما يهدمها؛ حيثُ يشكِّل هذا القرب نوعًا مِن الغيبوبة الذهنية في فهم الآخر، بالضبط كما هي الحال على الصعيد المروري للمركبات في الطريق، حيث اقترابُ مركبةٍ من أخرى في نقطةٍ ما يَغُمُّ رُؤيتَها؛ وهذا ما نقرأه في علاقة بطل الرواية الشخصية العراقية «سليم» بالشخصية «بتول» العراقية الأستاذة في الكلية نفسها، يقول:

«والواقع أنَّ بتول كانت تزداد غُموضًا وإثارةً للفُضُول كُلَّما ازددتُ قُرْبًا منها».

فلا غَرْوَ أنْ تجد «معضلة القنفذ» هذه ماثلةً في كثيرٍ من العلائق البشرية؛ طلبًا لدفْء المشاعر، واستقرارًا للنفس، والبشرُ في الوقت نفسه يحاولون في سياقاتٍ معينة أنْ يتجنّبُوا الالتصاق حتى لا يُؤذِيَ بعضهم بعضًا! والمثلُ الشعبي الذي يقول «سيرْ بعيد تعال سالم» لا يخرج عن منطق هذه المعضلة في سياقٍ ما؛ على أنّ المعنى لا يحمل القطيعة والهجران بقدر ما يحمل الوصال على مسافة آمنة.

ماذا لو أنّ هذيْنِ المُؤْذِيَيْنِ «البرد والشّوك» اجتمعا في حالة إنسانيّة، تختزلُ عذابَهما حاجةٌ إنسانية سامية، متعالية على الحاجات الإنسانية الأخرى، هي حاجة الإنسان إلى الحُبّ. فالحُبُّ يجعل المُحِبّ يشعر بوَهْمِ قبضة العالَم بين يدَيْه، إنه موجةٌ شعورية تصنعُ في الذات طاقةَ تدفُّقٍ تسمح لها أنْ تحويَ العالَمَ كلَّه بما يمُوج من تناقضات وتضادّات، وبما يحمله من قساوة الأشْتِيَة، ووَخْزِ الأشواك، والنّارِ التي تتحوّلُ ذاتَ لحظةٍ إلى سلام. غنّى عبد الحليم حافظ بمنطق مُعْضِلة «القُـنْـفُـذ» : «.. بُعدك نار ، قُـربك نار ..»؛ رُبَّما لأنَّه لم يتعرَّف المسافة الآمنة أو رُبَّما لأنَّ علاقةَ الحُبِّ نفسَها لا تُؤْمِنُ بمسافةٍ كهذِه.

وماذا لو أنَّ نظرةً سريعةً على شيءٍ مِن سِيرةِ الحُبّ (في نَصٍّ منسوبٍ إلى المجنون) قيس بن الملوّح، يقول فيه:

أَحِنُّ إِلَى نَجْدٍ وطِيبِ تُرَابِهِ

وَأَرْوَاحِهِ، إِنْ كَانَ نَجْدٌ عَلَى العَـهْـدِ

وقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا دَنا

يَـمـلُّ، وأَنَّ الـنَّـأْيَ يَشْفِي مِنَ الـوَجْـدِ

بِكُلٍّ تَدَاوَيْنا فلَمْ يُشْفَ ما بِنا

عَلَى أَنَّ قُـرْبَ الـدَّارِ خَـيْـرٌ مِن الـبُعْـدِ

عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنافِعٍ

إِذَا كانَ مَنْ تَـهْـوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ

تتلخَّصُ «مُعْضِلَةُ القُـنْـفُـذ» في مقولة: «كلما اقتربنا أكثر جرحنا بشكل أعمق»، ولعلَّ هذا يُفسِّر معضلة «المجنون» في علاقته العاطفية التي تعرَّضت في محيطها للخَيْبة، ومعضلة كثيرٍ من العلاقات الإنسانية؛ بسبب نَزْع الخطّ الآمِن مِن محيط العلاقة. أشارت الروائية «مستغانمي» في رواية «الأسود يليق بك» إلى الفكرة التي لخّصتها «مُعْضِلَةُ القُـنْـفُـذ»، حين سردَتْ: «الحبُّ هو ذكاء المسافة. ألّا تقترب كثيرا فتُلغي اللهفة، ولا تبتعد طويلا فتُنسى. ألّا تضع حطبَكَ دفعةً واحدة في موقدِ مَن تُحبّ؛ أنْ تُبقيَه مشتعلا بتحريك الحطب ليس أكثر، دون أنْ يلمح الآخرُ يدك المحرّكة لمشاعره ومسار قدره».

لا يمكن أنْ تَتَنَبَّأ بالسّلوك الذي تمارسه، وأنت تعيش عاطفة الحُبّ، فهو «نوع من دفقة تسونامي -على رأي زوسكيند- تضرب كيان الفرد، وتدفعه إلى أنماطٍ سلوكيةٍ ما كان سيفعلها لو أنه واقعٌ في حالة أخرى تُوصَف بالهادئة والمُعقلنة». لحظة الحنين إلى المكان هي لحظةٌ مجنونةٌ متوارية عنِ الأنظار؛ لأنّ هذا النوعَ من العواطف -وإن كان يعيش في الخارج- لكنه يستمدّ أنفاسه وطاقته من الداخل، وعلى الداخلِ أنْ يكونَ مَصُونًا. والمكانُ هنا ليس منطقةً شعبيّة مُتْرَعَةً بحكايةٍ تدفعُها إلى الدّيمومة في الذاكرة الإنسانية بِقَـدْر ما هو «غِشاءٌ مَشيميّ» يستميتُ المُحِبُّ في الوُلُوجِ إليه؛ لِيَـتواءَمَ معَ المحبُوب. هذه الاستماتةُ تتماثلُ -إنْ صحَّت قراءتُنا- مع استماتةِ القُـنْـفُـذِ في اشتغالِه على الحياة في المواءمةِ مع نظرائه.

حتَّى لا نستبقَ الحديث عن المقارنة بين العمليّتَيْن علينا أنْ نُتابِعَ قراءة النّصّ، فلا مُشَاحَّةَ في أنَّ المكانَ تماهى تماما مع المحبوبة، وأيُّ محاولةٍ للفصلِ لا شكَّ أنْها تُلغِي هذا الذّوبان الحميميّ، وتُشَوِّه عاطفته.

في حكايةِ البيت الثاني التي استهلَّ بها «المجنونُ» سَرْدَ معاناتِه، محاولةٌ لِرَفْضِ العُرْفِ السّائدِ في نُجُوع عمليةِ «الابتعاد»، وأنَّ ممارسة هذه العملية مِن شأنِها أنْ تشفِيَ عذابات الحُبّ، ولكنْ لماذا تفشلُ عمليةُ الاقتراب في حالةٍ إنسانيةٍ كهذه التي يعيشها «المجنون» وهي كفيلةٌ بأنْ تُسَكِّنَ حرارَةَ ما يُلاقِيه مِن ألَمِ الفِراق ؟ بينما تنجح عمليةُ الاقتراب هذه عند الشاعر «جميل بُثينة» في داليّته المشهورة:

يَمُوتُ الهَوَى مِنِّي إِذا ما لَقِيتُها ويَحْيا إِذا فارَقْتُها فَيَعُودُ

إنَّ العلاقات الإنسانية الحميمة تتفاوتُ في طبيعتها، وفي كميّة العاطفة، فالتَّجرِبةُ العاطفيّة التي عاشها «المجنون» مختلفةٌ في ظروفها، وفي كميّة العاطفة المتدفّقة في العلاقة بين الطرفَيْن (المُحِبّ والمحبوب) فلا غرابة في أنْ تُعارِضَ تجربة «المجنون» فلسفة «جميل بُثينة»؛ فالأخيرُ لا يُعاني في عمليّة القرب بل تكمن معاناته في عملية البعد فقط -وإن كانت «المعاناة» فرزًا طبيعيًّا للعملية الأخيرة- بينما نجد أنَّ ممارسةَ «الدُّنُـوّ» أو «النَّأْي» يُشكِّلان معضلةً لدى «المجنون»:

وقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا دَنا ... يَـمـلُّ، وأَنَّ الـنَّـأْيَ يَشْفِي مِنَ الـوَجْـدِ

فكان عليه -وهو واقعٌ في حالة إنسانية معقَّدة- أنْ يختارَ، في هذه التَّجْرِبة، الاثنَيْنِ معًا، فالأوّلُ التصاقٌ لكنّه لم يُسكِّن وهْـجَ العاطفة، بل زادَ مِن حرارتِها، والثّاني ابتعادٌ لكنّه زادَ من عذابات النفس، وأحزانِها، فحدثَ أنْ ظلَّت اللَّهفةُ العاطفيّة مُتَّـقِــدة:

بِكُلٍّ تَدَاوَيْنا فلَمْ يُشْفَ ما بِنا

أدركَ «المجنون» فشل العملية، فكلاهما يحملان نوعًا من الوجع مغايرًا عن الآخر، لكنهما يشتركان في الشُّعور بالوَخْز. ليستدرك «المجنون» في خِضَمِّ جُنُونِه العاطفيّ النّجاةَ مِن هذه المُعْضِلَة بالتَّوازُنِ، وهو التَّوازُنُ نفسُه الذي كانتِ «القَنافِذُ» قد استدركتْ بهِ النّجاةَ مِن مُعْضِلَتِها، حينَ ابتكرتْ مسافةً آمِنةً safe distance يقِيها قساوة البَرْد، حينَ الابتعاد، ووَخْزَ أشواكِها، حين الالتصاق.

أمَّا «المجنون» فقد استدرك معضلته بقُرْبٍ آخر أسقطَه على المكان؛ وهو قُرْبٌ مختلفُ الملامحِ عن «الدُّنُـوّ» وإنْ كان هذا الآخر يستهدفُ الأوّل من خلال استثمار المكان لكنّه يظلّ مختلفَ المسافةِ، فالأوَّلُ مُحاطٌ بكَمِّيَّةٍ مِن الالتصاق، والثّاني مُحاطٌ باستنفار نفسيّ بِتجسُّدِه في نقطةٍ هادئةٍ إلى حدٍّ ما، وهو ما نقصده بالمسافة الآمنة عند «المجنون» في قوله:

عَلَى أَنَّ قُـرْبَ الـدَّارِ خَـيْـرٌ مِن الـبُعْـدِ

«قُـرْبَ الـدَّارِ» هنا ليس هو «الدُّنُـوّ» الذي كان يمارسُه «المجنون» في علاقته؛ إذْ إنَّ عملية «الدُّنُـوّ» لم تُشْبِعْ حاجاته النفسية والعاطفية، وكذلكَ «النَّأْي» لم يُسَكِّنْ حرارةَ ما يَجِدُ مِنَ العذاب، فكِلا العملِيَّتَيْنِ تَمُوجانِ بالألَم النّفسي، وفي خِضَمِّ ذلك كان «قُـرْب الـدَّارِ» هو المسافة الآمنة safe distance ، القُرْب الذي قد يتخلّصُ به مِن الألَم، ويستعيدُ مِن خلالِه توازُنَه النفسي في هذه العلاقة؛ لهذا جاءت العبارة المتداولة «لا تقترب حد الاحتراق، ولا تبتعد حد الافتراق» تأكيدا على المسافة الآمنة في العلاقات الإنسانية. فالموازنة التي اضطرَّ «المجنون» إلى أنْ يتبنّاها هي بين «قُرْب الدَّار وبُعْد الدَّار». أقولُ ذلك لأنَّ خِيارَ ما قبلَ هذه الموازنة لم يكُن خِيارًا اضطراريًّا بقَدْرِ ما كان خِيارًا مَفْتُوحًا على التَّجْرِبَة بينَ «الدُّنُوّ والنَّأْي» بعيدًا عن حساباتِ المَكانِ المُستفِـزّ والمُسْتَنْفِر للتَّجَلِّي مِن جديد. هناك استدراكٌ جديد «قُرْب الدَّار» على المسافة الآمنة لكنَّه مِن نوعٍ آخرَ لا يُلغِي الاستدراك الأول بِقَدْر ما يُعَزِّزُ مِن آلية الدّفاع النفسي؛ إذ لا تستهدف هذه الآلية حلَّ الأزمة النفسية بقدر ما تهدف إلى الخلاص من مشاعر القلق والتوتر، والوصول إلى قدر من الراحة المؤقتة. ولعلَّ في «قُرْب الدَّار» مسافةً آمنةً تُسكِّنُ مِن حرارة ما يجد.

لا نذهب عن عصر «المجنون»، حتّى يصادفنا شاعرٌ أُمويٌّ آخر، وهو «كُثَيِّر عزَّةَ» حِينَ يُعَبِّر عن اسْتيائه مِن نُفُورِ محبوبتِه؛ لِكَثْرَة مُكُوثِه عندها، وهو ما يجعلُ العلاقة تُوغِلُ في المعاناة النفسية، والعذاب العاطفي؛ فـ «كُثَيِّر» يُحاولُ أنْ يُسَكِّن حرارةَ الحُبّ مِن النَّافذة الكبيرة، وهو ما يُعَرِّضُ العلاقة للسَّأم والصدأ، ولا غَرْوَ في أنْ تَمُلَّ محبوبتُه جرّاءَ ذلك:

أُريدُ الثَّواءَ عِنْدَها وأَظُنُّها

إذا ما أطَلْنا عِنْدَها المُكْثَ مَلَّتِ

فالشاعرُ «كُثيِّر» لا يحاول حتى أنْ يدخل مرحلة التجريب النفسي بوضعِه خيارًا أو بديلًا آخرَ عن «الثَّواء»، وهي مفردة تحمل دلالات الإقامة والاستقرار، فلا يُسكِّن حرارة العاطفة لديه سوى «الثَّواء»، وإنْ كانَ هذا الأخير مُحاطًا بالأشواك، وهو في النّصّ نفسِه يُظهِر، قبل هذا البيت، حرصَه على فكرة «الثواء» والالتصاق بالمحبوبة حين ضمَّنَ الفكرةَ مشهد ناقتِه وانقطاع الحبل عنها لِتهِيمَ على وجهها، يقول:

فَلَيْتَ قَلُوصي عِنْدَ عزَّةَ قُيِّدَتْ

بِحَبْلٍ ضَعِيفٍ غُرَّ مِنْها فضَلَّتِ

إنَّ الشّاعر في البيت الأخير يحاول أنْ يشتغل على آليّة دفاع يُبرِّر بها فكرة «الثَّواء»؛ مِن خلال مخيالٍ مُكوَّنٍ مِن عُنْصُرَيْن؛ عنصر «النّاقة»، وهو عنصر يضجّ بالحياة في الدلالة العامة، وفي دلالته الخاصة هنا وسيلة النّقل إلى المحبوبة، وعنصر «الحبل» الذي تتوزّع دلالاته بين الحياة والموت؛ فيُقال: «حبل النَّجاة»، و»حبل المشنقة» و«حبل الوريد» دلالةً على القرب، وفي سياقه الخاصّ هنا يظهر الحبلُ تحتَ التَّـشَيُّؤ ضعيفًا، قابلًا للتَّـفلُّتِ والقطع؛ لدَعْم عملية الالتصاق، لكنَّ الشّاعر توقَّعَ فشلها بعد ذلك.

يمكن القول إنَّ نظرية «معضلة القنفذ» يحدثُ أنْ يشتغل عليها الفرد في علاقاته الاجتماعية، ويضع مقياس المسافة، ومفرداتها، إلا أنَّ الاشتغال على هذه النظرية في علاقة الحُبّ لا يمكن أنْ نتنبّأ بنجاحِها، وتجاوزِ حالات العذاب التي تخضع تحتها علاقة كهذه، وإنْ كانتْ هناك مراهنةٌ على تجاوزٍ ما فإنَّهُ تجاوزٌ محدودٌ، في علاقةٍ ذاتِ درجةٍ منخفضةِ الحرارة.

أ. د. حمود الدغيشي أكاديمي عماني