No Image
عمان الثقافي

مع قصة غليان الشاي ليحيى سلام المنذري الإجابة عن السؤال المؤرق

23 نوفمبر 2022
23 نوفمبر 2022

أذكر أن يحيى طالما تساءل في أزقة وادي عدي حين كنا نمشطها جيئة وذهبا في أيام المدرسة: ألا يمكن لأحد هؤلاء العمال المنتشرين في الأرض أن يكون كاتبا؟ هذا الشعور/ السؤال الذي وصفه بـ«الأرق» ظلت الإجابة عنه معلقة طيلة عقود. وكأنما انقشع عبر أجواء القصة الثانية «غليان الشاي» في المجموعة القصصية الصادرة أخيرا عن دار عرب «وقت قصير للهلع» في قصة ثلاثية المقاطع «هدية أختي حسينة، الكتاب الأسمنتي، صياد العاملات» ضمن مجموعة جاءت بدورها في ثلاثة قصص تحت عنوانها الموحي الذي يجتمع فيه الزمن المستقطع «وقت قصير» بالشعور الثابت للشخصيات «الهلع» عبر صور سردية وأحداث توزعت بين مريض خائف من أن يقطع الطبيب أصبعا غير التي يعاني منها أو أن يقطع قدمه في أسوأ الأحوال، وعامل قارىء كتب، يتحول إلى كاتب محتمل للقصة حين يسجل يومياته. وقصة ثالثة تسرد الظروف المعقدة لحياة «النحلات» وهي صفة أضفاها الكاتب على عاملات المنازل وطريقة حياتهن بين أردية الهلع التي يتلفعنها في بلدان غريبة عنهن، ضريبة البحث عن ظروف تحسين المعيشة حيث تركن بعيدا عن أوطانهن وأسرهن، في انتظار عودة لن تتحقق دون عذاب وأعوام ثقيلة تمر على أجسادهن.

ولأن كل قصة في هذا الكتاب السردي هي وحدة مستقلة، وهذه طبيعة أصيلة في القصص القصيرة تفرقها وتفردها عن أنواع السرد الأخرى كالرواية التي تفترض بدورها الوحدة والتماسك بين أطرافها، فإن اختيار الكتابة عنها جاء نتيجة لـ (وازع انطلوجي) فرضته معرفتي بسؤال داخلي ملح لصديق الطفولة طالما تلقفته منه، إلى جانب أن القصة – وحسب وجهة نظر خاصة- تشكل واسطة عقد هذه المجموعة وجوهرتها الوقادة، دون إغفال أهمية القصتين، من حيث مزاوجتها بين اخيار المواضيع وتقنيات غير تقليدية لتقديمها، لا ترتهن إلى انثيال الدواخل وليست بلا كوابح، توازي بين الشكل والمادة الحكائية ولا تقدم أحدهما على حساب الآخر.

لباس الكاتب/ القارئ:

عبر قصة «غليان الشاي» تخير السارد/ الراوي كاتبه الهندي (الذي هو قارىء في الآن نفسه وسارد) وحدده وعبر بلسانه. وضعه لقارئه المفترض (كم قارىء مفترض يا ترى في هذه القصة المركبة؟ ) في إطار لعبة قصصية يجيد المنذري المشي فوق حبالها، ما ميزه وبوأه أحد فرسانها العمانيين المؤسسين والمحافظين - في الآن نفسه - على خطه النوعي المتأني.

كان هذا الكاتب المؤقت، قارئا بنجاليا يبرق في المقطع الأول لقصة «غليان الشاي» برسائل إلى عائلته، متحدثا عن أخته حسينة التي يذكر اسمها في القصة مصحوبا بالكتب والحنين.

بداية اللعبة:

أثناء المشي أمسك كتابا. أظن أن هذه العادة أزعجت كثيرين، وجلبت لي سخريتهم، ألمح السؤال في وجوههم «لماذا يتريض وفي يده كتاب؟ أتخيل تعليقاتهم وأتجاهلها». يتداخل في هذه القصة الكاتب بالسارد ويتلبسه، يحيى صاحب المجموعة القصصية «بيت وحيد في الصحراء» التي يعالج في العديد من قصصها العمال في حياة الغربة، عبر مشاهد قصصية متقنة، يتحول هنا إلى اسم عابر مجهول، حين يتلقفه السارد البنجالي من عابر سبيل يهديه إليه ولكن بلغة غريبة أيضا وهي الإنجليزية التي ترجم الكتاب إليها. يحيى الذي قرأ باشلار وماركيز يتلبس بخياله السارد، ليضعنا أمام معادلة طريفة، يتحول فيها الكاتب إلى عامل قارئ يسرد لنا قصة حياته مع العمل الشاق ومتعة القراءة التي لا يمكنه العيش بدونها «عندما لا أصطحب صديقي الكتاب أشعر بالوحدة، وتنطفىء رغبتي في المشي، وأرجع إلى البيت فورا».

تكشف اللعبة السردية أنه يتخفى خلف شخصيات يعرفها ويهجوها في يومياته التي لم تكن سوى رسائل إلى عائلته، ولم تكن هذه الشخصيات سوى السارد نفسه الذي يختفي فجأة، بعد أن وصف لنا ظروف حياة الغربة التي كان «الهلع» فيها النبض الذي يدفع بالحياة إلى أقصى تجلياتها «الموت»، في هامش يتجاذب العلاقة فيه عمال البناء والفور مان ومالك المنزل. صراع التحايل على وعورة العيش وترويض الجسد على الأعمال الشاقة «التي تأكل الوقت وتنز العرق، وبعض الأحيان الدم».

يوميات مؤرخة تبرز النجوى وتخفي الشكوى «غدا سأبلغ الأربعين، أمضيت منها خمسة عشر عاما في عمان. هل تتذكرني البيوت التي بنيتها؟ الجدران التي قست على ظهري، وسلبت أيام حياتي؟ أنتظر العودة إلى بلدي بفارغ الصبر».

الوطن مكان آمن للرسائل وخاصة البيت الصغير الضام للأسرة البعيدة، لذلك فإنه يقول في رسائله كل ما يشعر به من ألم وكبت وغربة وشوق. في أحد المقاطع بعد أن يصف استمتاعه بشرب الشاي فوق السطح وهو يجلس فوق طابوقه، يستحضر فجأة الشاي الذي تعده أمه «أمي تعد الشاي بطريقة مختلفة، ألذ كثيرا. يكفي أنها هي من تعده. أشتاقها كثيرا».

تنكشف أسرار اللعبة السردية في المقطع الثالث، حين نعلم أن العامل لم يكن يكتب سوى رسائل كاذبة إلى عائلته، إنه يخفي عنهم طبيعته في الغربة، ويعير طباعه (الممجوجة) إلى أناس مجهولين. وكأنما يستلم الكاتب دور السرد الذي أوكله في البداية للعامل كاتب اليوميات، ليتحول بدوره إلى باحث عنه، باحث عن مجهول لا يأتي.

معاناة مزدوجة للهندي والعماني:

نجد في هذه القصة كذلك ليس معاناة الهنود فقط، إنما حتى العمانيين. حيث يتساءل العامل الهندي في هذه القصة (وكلمة هندي تطلق عادة لتعني مختلف سكان شبه القارة الهندية ويتم فردها في حالة التخصيص كالحديث مثلا عن القوة البدنية عند الباكستانيين)

العامل يصف تعاطفه مع العماني ابن البلد حين يبني بيته في أرض خلاء مقطوعة لا كهرباء بها ولا ماء وذلك لأنه «اضطر للبناء بسبب ثقل إجار المنزل الذي يسكن فيه».

وكذلك في مقطع آخر متحدثا عن حوادث وصفها بالنادرة: «صدمتني حكاية حدثت خارج مسقط، لأسرة عمانية صغيرة داهمها عمال باكستانيون في البيت. قتلوا كل أفراد الأسرة، الزوج والزوجة والأولاد. لم تتضح لدي الأسباب. هذا النوع من الحكايات في عمان نادر لكنه موجود».

في نهاية القصة نقرأ «نعم حكاية أرقتني وانتهت».

محمود الرحبي قاص وروائي عماني