عمان الثقافي

مركز الأدب وهامش الشعبي

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

في مناقشة ما عنْونه بـ (اللغة الأدبية واللهجات.التعبير المحلي)، يخبرنا فرديناند دوسوسير في محاضراته في علم اللغة العام، عن تأثُّر اللغة الطبيعية باللغة الأدبية ضمن مفهوم (الوحدة اللغوية)، وهو هنا يُقرُّ بأنه لا يقصد باللغة الأدبية (لغة الأدب فقط) بل «أي نوع من اللغة الثقافية رسمية كانت أو أي شيء آخر تقوم بخدمة المجتمع، في إقليم محدد» – حسب تعريفه –، ولهذا فإنه يعمد إلى مناقشة تلك العلاقة انطلاقا من ارتباط الأدب باللغة من ناحية، وارتباطه بالكتابة من ناحية أخرى؛ حيث يطرح السؤال (هل اللغة الفصحى تتطلَّب أو تتضمن بالضرورة استعمال الكتابة؟).

لقد اعتمد سوسير في الإجابة عن هذا السؤال على (قصائد هوميروس)، التي أكدَّ من خلالها (أنها لا تتضمن ذلك)؛ فاللغة سواء أكانت مكتوبة أو شفوية فإنها تتأسس على قواعد، ولها (كل مميزات اللغة الأدبية)، ففي العصور القديمة عندما كانت الكتابة قليلة أو حتى غير معروفة، فإن الأمم تداولت آدابها بلغتها، وجعلت منها أساسا قامت عليه حركات التدوين في العصور اللاحقة، وهكذا حدث في العالم العربي حينما كانت الآداب شفوية، فما وصلنا من آداب من العصر الجاهلي مثلا يُعده الكثير من مؤرخي الأدب (أدبا شعبيا)، ليس فقط بسبب لغته المحكية بل أيضا للمميزات الأدبية الخاصة بالآداب الشعبية، ولهذا فإن العديد من مصادر الأدب العربي قامت في الأصل على (الجمع والتدوين) للمرويات المتفرِّقة؛ فالأصمعي (121-216هـ) مثلا دوَّن العديد من المرويات التي تُعَّد إلى اليوم من مصادر الكتب التي يُعتمد عليها من مثل (ديوان الأصمعيات)، و(فحول الشعراء)، و(اشتقاق الأسماء)، و(كتاب السلاح)، و(كتاب الخيل)، و(الوحوش)، وغيرها الكثير، وهكذا أيضا فعل ابن قتيبة (213- 276هـ) صاحب كتاب (عيون الأخبار)، و(طبقات الشعراء)، والجاحظ (159-255هـ) صاحب (البيان والتبيين) و(كتاب الحيوان)، وغيرهم الكثير.

ولقد عرف تاريخ الآداب الكثير من المؤرخين الذين دوَّنوا الحكايات الشعبية والخرافية، والغرائبية كما فعل :القزويني (605 – 682 هـ) في (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات)، والدميري (742- 808 هـ) في (حياة الحيوان الكبرى)، والأبشيهي (790- 852 هـ) في (المستطرف في كل شيء مستظرف)، وهكذا سنجد أيضا أن مصادر كتب التاريخ والأدب في عُمان لم تكن ببعيدة عن هذا، فقد دوَّن العديد من المؤرخين الكثير من الشعر المروي والحكايات الشعبية، ناهيك عن أن التاريخ المسرود في الأصل كان مرويا، ولذلك فإن الكثير منه يدخل (منهجيا) ضمن الآداب الشعبية، من ذلك ما نجده في (تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان) للعلاَّمة نور الدين السالمي (1284-1332 هـ) الذي يحتوي على العديد من المرويات، وهكذا أيضا سنجد الكثير من المدونات في شعر الميدان أو العازي أو غيرهما من فنون الشعر الشعبي.

ولعل تلك العلاقة التي تربط بين الآداب واللغة من ناحية، والتشكلات الاجتماعية التي تؤطر موضوع الثقافة من ناحية أخرى، فيما يُعرف بـ (علم الاجتماع الأدبي)، دفعت إلى الاهتمام بتصنيف الأجناس الأدبية وفقا لمقتضيات التحولات الثقافية في العالم، فبرزت العديد من الأجناس باعتبارها (مركز) الآداب، بينما انزوت أخرى (هامشا)؛ فالكثير من تلك المصادر التي كانت مركزا للفكر الإنساني، أصبحت الآن (تراثا) وفقا للاعتبارات الثقافية الحديثة والتحولات اللغوية والاجتماعية. الأمر الذي نجده أيضا في الفنون ومدى تأثير العلاقات الاجتماعية والنمو الحضاري للدول، ففي فصل بعنوان (سوسيولوجيا الفن والثقافة) يخبرنا بول آرون في كتابه (سوسيولوجيا الأدب) عن تلك العلاقة التي تربط الثقافة عموما بالتحولات الاجتماعية والنمو الحضاري للمجتمعات، وخاصة ما يقدمه (علم الجمال) من تمفصلات عدة، أدَّت إلى ما يسميه بـ (الوعي الجمالي) أو ما يُطلق عليه شارلو لالو (قاعدة فارق المستوى بين القيم الجمالية)، ولهذا فإن (عددا من القطع الفنية) التي كانت ذائعة الصيت في فترة ثقافية ماضية، وقد شكَّلت مركز الاهتمام في حينها بين الأوساط الثقافية، أصبحت «موضة باطلة في الأوساط البورجوازية، وتحولَّت إلى الأقاليم البعيدة» – بتعبير آرون –، ليُعاد في كثير من الأحيان (اكتشافها) بوصفها آثارا فولكلورية أو شعبية.

إن تأثير الثقافة الجماهيرية اليوم تُشكِّل ما يُطلق عليه أدب (المركز) و(الهامش)، فهذه الثقافة تفرض مجموعة من الأنساق الأدبية والاجتماعية تدفع الأجناس الأدبية إلى الحركة المستمرة، ومنها الأدب الشعبي بشكل خاص في علاقته باللغة والثقافة الحديثة للمجتمعات، ولهذا فإن حركة الثقافة الجماهيرية تأخذ في الاعتبار سوسيولوجيا الآداب بشكلها العام لتعيد بناء العلاقة بين الأجناس الأدبية والجمهور. إنها علاقة قائمة في الأصل على الممارسات الأدبية المتعلقة بالتصورات الوظيفية للجنس الأدبي، ولهذا سنجد أننا لا نُطلق على ما قدمه الأبشيهي مثلا في (المستطرف من كل شيء مستظرف) أدبا شعبيا، لأن تصوراته الوظيفية لم تكن كذلك في حينه.

ولأن بول آرون يقرر أن (الأدب حقيقة اجتماعية)، فإن هذه الحقيقة تحركها المجتمعات وفق ثقافتها الخاصة، بحيث تُعيد تصنيفها بناء على مقتضيات (اللغة)، و(الخطاب)، وبالتالي فإن الأجناس الأدبية، وبالتالي النصوص (شعرية كانت أم نثرية)، ستعود إلى «تواصل مؤجَّل وصدفوي، وتعالج أمر تلقِّيها بإثارتها الاهتمام عبر وسائل جمالية» – حسب آرون -، وعليه فإن حركة (المركز) و(الهامش) خاصة في الآداب الشعبية تعيد نفسها وفق وسائل وخطابات متعددة اعتماد على اللغة (شفوية – كتابية) أو الخطاب نفسه، والزمان السردي (تراث – حديث)، إضافة إلى إبراز (الوعي الجمالي) المسؤول عن الجماهيرية الأدبية والاجتماعية.

في كتابه (النص والمجتمع. آفاق علم اجتماع النقد)، يناقش بيار ف.زيما في فصل عنْونه بـ (الحُقب الأدبية باعتبارها إشكاليات اجتماعية)، تصوُّرا بشأن تلك العوامل التي تؤسس الحُقب الأدبية، وما يرافق ذلك من تركيز على أجناس أو أنماط أدبية، وبالتالي تراجع أخرى؛ حيث يربط بين ما أطلق عليه (الوضعية الاجتماعية - اللسانية)، و(الاتساق التاريخي)، الذي يجعل منه «وحدة تاريخية مفتوحة على الماضي والمستقبل على حد سواء، ومنطبعة بطابع التعايش مع العديد من اللهجات الاجتماعية»- بتعبير زيما -. إنها علاقة تنفتح بين النص وما يرتبط به مجتمعيا على المستوى الأيديولوجي والاجتماعي اللغوي، وهي التي تحركه نحو المركز أو تتحرك عنه إلى أجناس أخرى، والإشكال في الأدب الشعبي يظهر في اعتباره أكثر ارتباطا بالمجتمع على المستوى الجماهيري؛ ذلك لأنه يتسق مع المستوى اللغوي للمجتمع (لهجته) من ناحية، والأنساق التي تمثل مساراته النصية على المستوى الأدبي أي ما يسميه غريماس بـ (النموذج العاملي) للنص.

يضيف بيار زيما إلى تلك الإشكالات ما أطلق عليه (اختلافات ثقافية أو خصوصية الإشكاليات الوطنية)، ويقصد بها الخصوصية الثقافية أو الوطنية للإشكالية الاجتماعية - اللسانية، التي تؤثر مباشرة في تحديد الحُقب الأدبية ذات السياق الاجتماعي - الثقافي، وفق مجموعة من السياقات المتجانسة من حيث التباينات الخطابية، والأيديولوجية الاجتماعية التي تقودها، وبالتالي فإن تلك الخصوصية بارتباطها بالزمن والسياق والخطاب، لا تقود الحُقب وحسب، بل أيضا تُحرِّك الأدب عامة والأدب الشعبي بشكل خاص باعتباره جماهيريا أو شعبوي، وفق (المعالجات الوظيفية) - باصطلاح (نورمان فاركلوف) في كتابه تحليل الخطاب. التحليل النصي في البحث الاجتماعي -، وهي وظائف (فكرية)، و(تبادلية)، و(نصية)، تُجسِّد العلاقات الاجتماعية وعلاقتها بالنص الأدبي الشعبي باعتبار ارتباطه بثقافة المجتمع وخصوصيته اللغوية، ولهذا سنجد أن النص الشعبي شعرا ونثرا يعتمد على هذه العلاقة في إثبات قدرته على الصمود والاستمرارية المركزية.

يؤكد فردريش فون ديرلاين في كتابه (الحكاية الخرافية) أن (عصرنا يهتم أكثر من ذي قبل بالحضارات القديمة)، ولهذا فإن الإنتاج الأدبي القديم يقدم لنا شواهد عدة على ذلك؛ فـ «أعمال الشعراء المجهولين في وسعها أن تصمد أمام مئات بل آلاف السنين، وما تزال في عصرنا تنبض بالحياة، وما حكاه الإنسان ذات يوم عن الآلهة والأبطال والإنسان في بلاد دجلة والفرات والنيل ما يزال يعيش حتى اليوم في حكايتنا الخرافية»- حسب ديرلاين -. إنها نصوص استطاعت أن تصمد بفضل تلك العلاقات اللغوية والاجتماعية التي تشكِّل الخصوصية الثقافية، وبالتالي ظل الأدب الشعبي وما يزال يُقدِّم نفسه وفق مفهوم المركز والهامش بأشكال تجعل منه دوما أساسا مرجعيا للآداب، ولعل ما قام به ليو تولستوي صاحب الرواية الشهيرة (الحرب والسلم) من جمع للحكايات الشعبية، واهتمامه الكبير بالحكايات اليونانية والهندية والعربية، يكشف هذا التأثير في تشكيل النص السردي، فمن يقرأ اعترافات تولستوي ونصوصه الأدبية سيعرِف مدى تأثُّره بتلك الحكايات.

ولم يعُد الأدب الشعبي في علاقة وطيدة بالآداب الحديثة وحسب، بل أصبح أيضا أساسا للنقد الأدبي بمنهجياته الحديثة التي تجعل من علم الاجتماع الأدبي مُنطلقا لأنماط التحليل؛ فهذا فلاديمير بروب يجمع الحكايات الروسية الخرافية في خمسينيات القرن الماضي، ويبدأ في تحليلها وتصنيفها وفق المنهج البنيوي؛ حيث كتب مقال بعنوان بـ (تحولات الحكاية الخرافية)، الذي أثار رائد البنيوية الحديثة كلود ليفي شتراوس، فعمد إلى مناقشته في آرائه وأطروحاته مناقشات علمية وتحليلة عدة، ثم أصدر بروب كتابه المعروف (موفولوجيا الحكاية الشعبية)، الذي كان سببا في التحولات النقدية بعد ذلك في السرد وخاصة في تحليل النص الرواية.

إن التحولات التي اتخذها الأدب الشعبي بانتقاله إلى مادة النقد الأدبي، تُعدُّ تحركا مهما نحو المركز، نبَّه العالم إلى أهمية هذا الأدب من الناحية الخطابية، والبناء التركيبي، وهي أسس دعَّمت قدرة نصوص هذا الأدب وإمكاناتها الفنية؛ فعلى الرغم من الانتقادات التي تلقاها بروب عندما فصل الحكايات الروسية عن المجتمع وأيديولوجيته وثقافته واهتم بتكويناتها الفنية فقط، إلاَّ أنه قدَّم ثورة نقدية، قامت عليها بعد ذلك أطروحات عدة أبرزها أطروحة فيليب هامون (سميولوجية الشخصيات الروائية)، التي اعتمدت على تصنيف بروب لوظائف الشخصيات في الحكاية الشعبية الروسية وأفادت منها. وهكذا سنجد اليوم العديد من الباحثين يقدمون أطروحات نقدية منهجية متعددة في دراسة الآداب الشعبية للمجتمعات.

إن الأدب الشعبي اليوم يُقدم نفسه ضمن تحولات عدة على المستوى النصي، فلم تعُد الحكايات الشعبية حبيسة في بطون أمهات الكتب أو المصادر وإنما انطلقت ضمن مجموعة من الأنساق الأدبية والفنية، في علاقتها بالآداب الحديثة من ناحية وفق إعادة التمثيل النصي، وعلاقتها مع الفنون البصرية والسمعية من ناحية أخرى بفضل التطورات التقنية التي يشهدها العالم، أصبح أمام الشعراء منافذ مباشرة للوصول إلى الجماهيرية، فانطلق الشعر الشعبي بخصوصيته الثقافية متصدرا ما يُطلق عليه دانيال تشاندلر في كتابه (أسس السيميائية) (الشيفرات الواسعة الانتشار)، بفضل وسائل التواصل، فحققت بذلك ولوج (العالم المروي)، و(التراتبية)، و(الانسياب)، و(التكامل)، و(الوضوح)، و(التحفيز) – حسب تشاندلر -، بينما اتسعت الوسائل أمام الحكايات الشعبية، وها هو العالم يستثمر الملايين في إعادة تمثيل خطاباتها النصية، وتقديمها بصريا وفق معطيات نصية جديدة، ومعالجات وظيفية دينامية.

إن الآداب الشعبية بوصفها وحدة لغوية وثقافية، تتحرك ضمن قاعدة جماهيرية قادرة على إعادة تشكيل خطابها بناء على مقتضيات اجتماعية، ولهذا فإن موقعها في المجتمع النصي سيكون وفق تلك المقتضيات سواء أكانت شفوية أم كتابية، بصرية أم سمعية.

عائشة الدرمكي أكاديمية وباحثة عمانية في علم السيميائيات