No Image
عمان الثقافي

مدينة الأرواح الآمنة

28 فبراير 2024
28 فبراير 2024

استيقظت من نومي فزعا، كانت ليلة ثقيلة مليئة بالكوابيس المزعجة كأنما فرقة من شياطين حامت فوق رأسي. خرجت من غرفتي إلى الباحة الخارجية للبيت، ما زال الوقت فجرا، غيوم ظلامية تحجب الرؤية، وتلف الكائنات الأرضية بأغطيتها السوداء. السماء مزدانة بنجوم متوهجة مثل فصوص كريستالية تزين فستانا تقليديا. هبطت شهب متتابعة مثل قذائف صاروخية اخترقت جدران السماء. رويدا رويدا بدأ الفجر ينبلج ويكشف أستار الليل. توهج الأفق بحمرة الشروق، وشق الضوء أرجاء الأرض، بدأ المشهد ينكشف، وتنزاح عنه ستائر الليل المخملية. كان الضباب بغلالته يخيم على الأرجاء، كأنما السحب والغيوم قررت فجأة الهبوط من عرشها السماوي والاستقرار في وهاد الأرض. كل شيء كان يتوارى وراء هالات الضباب: أشجار النخيل والمانجو والجوافة والموز، كأنما قررت جميعها ارتداء أكفان بيضاء.

سحرني منظر الطبيعة وهي على تلك الحالة الضبابية السديمية. فجأة سمعت أصواتا ووشوشات خافتة تصدر من جهة البساتين، ظننتها في البدء أصوات عمال يسقون النخل بمياه الفلج. خرجت من بيتي متتبعا مصدر الصوت، نزلت في الطريق المنحدرة باتجاه أشجار النخيل، وإذ بأطفال صغار في عمر الثانية والثالثة، يجلسون فوق جريد النخيل، ويلعبون بسعفها الأخضر، لم تكن لهم أجساد مثل أجسادنا، كانوا يشبهون الكائنات الهلامية. حين انتبهوا لوجودي قفزوا هاربين إلى النخيل المجاورة. كان هناك عدد من الأطفال الصغار: بعضهم فوق أشجار الترنج، وبعضهم فوق أشجار الجوافة والمانجو. جميعهم حين شاهدوني فزعوا مني، وهربوا باتجاه واحد. كان الضباب الكثيف يحجب رؤيتي، لكني استطعت تتبعهم، سرت في الطريق الترابية وسط البساتين، اجتزت ساقية الفلج ووصلت إلى (سكة البلاد) الوسطى التي تقسم البساتين إلى نصفين متساويين. كانت الأجساد الهلامية لهؤلاء الأطفال تقفز من شجرة إلى أخرى، وأنا أسير خلفهم في موجات من كتل ضبابية. لم يكن ثمة صوت سوى نقيق الضفادع المختبئة تحت ساقية الفلج، وصياح ديكة يعلو حينا ويخبو حينا آخر. مضيت في طريقي إلى الجهة الجنوبية، حيث تسد كثبان الرمال الهائلة منافذ القرية. سرت بخطى وئيدة متتبعا الأطفال. أزحت أغصان النخيل المتدلية فوق رأسي لكيلا تجرحني أشواكها. التصقت بيوت العناكب المبللة بالندى على وجهي فأزلتها براحتي. لم أتوقف حتى انتهت الطريق الترابية إلى درب مسدود (بِعِرْق رملي) شاهق تمطّى بصلبه وأردف أعجازا كأنه مارد عملاق خرج للتوّ من محبسه. تسللت الأجساد الهلامية إلى أعلى قمةٍ في الرمال الرطبة بفعل الضباب. خلعت نعليَّ وصعدت (العِرْق) خلفهم مباشرة، غاصت قدماي في الرمال وانتشلتهما بصعوبة، لفحتني رائحة أزهار شجر الأرطى، وتعثرت بشجيرات العلقى المتعرقة بقطرات الضباب. تخطفني نعيب سرب من الغربان، ثم وجدتني أخيرا على قمة (العِرْق الرملي) العظيم. لم أعثر على الكائنات الهلامية لكني رأيت آثارا غريبة على الرمال. تتبعت تلك الآثار إلى داخل العمق الصحراوي. رأيت شجيرات الثُّدَّاء والرمرام تتناثر في كل مكان مثل طحالب بحرية. صعدت مرتفعات رملية وهبطت منحدرات رملية أخرى متتبعا تلك الآثار، ثم بعد مسافة كيلو متر داخل الصحراء، رأيت من البعيد نفقا يشبه أنفاق المقابر الفرعونية. اقتربت منه، وإذا بدرج رملي يهبط إلى أسفل الكثبان الرملية. في البدء ظننت أنه سينهار حالما أضع عليه رجلي، لكن لم يحدث شيء من ذلك، كأنما كان الدرج الرملي متجمدا. نزلت الدرجات بخطى حذرة بطيئة مقدما رجلا ومؤخرا أخرى. كان درجا طويلا يشبه درج أهرامات المكسيك لكنه نزل بي إلى أعماق الرمال.

هناك في الأسفل رأيت رجلا تبدو هيئته ووقفته مثل حارس من الزمن القديم، كان يحمل بندقيته على كتفه، ويقف أمام بوابة ضخمة من رمال ذهبية، أوقفني قائلا: «إلى أين؟» قلت له: «كنت أتبع أطفالا بين الثانية والثالثة يحلِّقون فوق الأشجار، وأجسادهم ليست كأجسادنا، كانوا أشبه بكائنات هلامية» ردَّ علي: لقد وصلوا بعد أن استشعروا الخطر، ودخلوا من هذه البوابة وهم بأمان الآن في الداخل». سألته: «وماذا يوجد بالداخل؟» أجاب: «إنها مدينة الأرواح الآمنة»، صرخت مندهشا: ماذا تقول؟ ثم سرعان ما بادرته بسؤالين آخرين: «وكيف؟ ومتى حدث ذلك؟» أجاب: «منذ بضعة أشهر، حين نشبت الحرب بعيدا من هنا، في بلد يقال إنها بلد السلام، قام الغزاة باحتلال تلك الأرض، ودمروا كلَّ شيء، أبادوا الحجر والشجر، وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ. حرموا أهل الأرض من الماء والكهرباء والدواء، ودمروا البيوت والمساجد والكنائس، وهدموا المدارس والمستشفيات والجامعات. أطلقوا القنابل والمدافع والصواريخ المدمرة، وقضوا على الحياة». رددت عليه: «وماذا تفعل أنت هنا؟» ردَّ عليَّ: «كنت مجرد راعٍ لأغنام في هذه الصحراء الشاسعة، أطلق الأغنام صباحا لترعى الحشائش والنباتات، وأستظل تحت غافة بالقرب من هنا تتدلى أغصانها مثل ضفائر بدوية جميلة. كنت أعزف على الناي ألحانا حزينة حين شاهدت سحبا عملاقة تقترب قادمة من الغرب، لم تكن تلك السحب تشبه سحبا رأيتها من قبل، امتلأت تلك السحب بأرواح بشرية: بعضها اعتلاها وجلس فوقها مثلما فعلت أرواح الشيوخ والنساء، والبعض الآخر تعلق بأطرافها مثلما فعلت أرواح الأطفال. لم أر مشهدا مثل ذلك في حياتي كلها، كأنما سيق البشر جميعهم على متن سفن عملاقة من السحب والغيوم. وصلت السحب إلى وسط الصحراء، ثم هبطت الأرواح من الأعلى تباعا مثل سيل من بلورات زجاجية. كنت قد أوقفت العزف، وأذهلني المنظر العجيب. ذهبت لأرى ما يحدث. لم يكن المكان يبعد عني أكثر من كيلو مترين. حين وصلت إلى هناك رأيتهم يدخلون زرافات ووحدانا إلى أسفل هذا الدرج الرملي. حاولت سؤالهم لكنهم هربوا مني ولم يستجيبوا لي، ثم جاءت حمامة بيضاء، وحطت على غصن شجيرة أرطى. قالت لي: «إن أردت محادثتهم يجب أن تخلع روحك عن جسدك أولا»، فقلت لها: «لكن كيف أستطيع ذلك؟» قالت: «الأمر سهل... لا يحتاج منك سوى أن تضع يدك على بوابة الرمال الذهبية في مكان اليد المنحوتة عليه». فعلت مثل ما قالت فألفيت روحي خارج جسدي، فُتِحت البوابة الذهبية ودخلت، أوقفت أحد شيوخهم، وسألته عن خبرهم، فأخبرني بمثل ما أخبرتك، وأضاف: «إنهم بعد كل تلك الأهوال قررت أرواح الموتى منهم الرحيل، والبحث عن مكان آمن ريثما تنتهي الحرب». بعد أن استمعت لحكايتهم الأليمة لبست جسدي مرة أخرى، ورجعت لخيمتي التي أقطنها؛ لأعيد القطيع لحظيرته. بعدها حملت بندقيتي وعاهدت نفسي أن أبقى حارسا أمينا لهم؛ لكيلا يدخل الغرباء عليهم فيؤذونهم. ومنذ ذلك الحين وأنا حارسهم الأمين، يخرج الأطفال أحيانا للترويح عن أنفسهم، لكني دائما ما أحذرهم أن لا يبتعدوا كثيرا، وأن لا يصلوا إلى أطراف القرية حتى لا يشعر بهم أحد. في بعض الأحيان يخرجون صوب البساتين بعد منتصف الليل، ويعودون قبيل الفجر».

قلت له: «هل يمكنني الدخول عبر هذه البوابة؟» قال لي: «سأسمح لك بالدخول؛ لأنك وصلت إلى هنا لكن بشرط: ألا تخبر أحدا أيًّا كان عما رأيته وستراه بالداخل لكي لا نؤذيهم، كما يجب أن تخلع روحك عن جسدك مثل ما فعلت أنا سابقا لكي لا ترعبهم؛ ولأنك لن تستطيع التواصل معهم ما لم تفعل ذلك». رددت عليه: «أعاهدك بذلك»، وضعت يدي على اليد المنحوتة في البوابة الرملية العالية، فخُلِعَت روحي عن جسدي؛ وفُتِحَت الأبواب على مصراعيها، وظهر نور مشع حجب الرؤية عني؛ فأخفيت عيني بيدي، ومضيت في سبيلي حتى أُغلقت البوابة خلفي.

ما رأيته هناك كان مذهلا ولا يكاد يصدق، مدينة كاملة مبنية من الرمال ببيوتها وشوارعها وأزقتها، بمحلاتها التجارية وبمدارسها، لكنها مدينة لا تسكنها سوى الأرواح الهائمة. كانت الأرواح معظمها لأطفال ونساء وكبار في السن، بَيْدَ أنهم كانوا سعيدين، يعيشون حياتهم اليومية ببهجة وفرح. رأيت النساء في بيوتهن، وكبار السن أمام المحلات التجارية، وبالقرب من المساجد، وشاهدت الأطفال الصغار يتراكضون ويضحكون ويلعبون في الأزقة، أما الكبار منهم فيتوجهون للمدارس. كان مدينة مضاءة بمصابيح الغاز، ويتوافر فيها الماء في هيئة نافورات وآبار وثلاجات للماء البارد العذب. لم أصدق ما تراه عيناي، كان لا بد لي أن أسأل أحدهم حتى أتأكد من حقيقة ما أراه: مرت فتاة جميلة بجديلتين معقوفتين للخلف بالقرب مني تحمل دميتها بيدها، بدت لي في عمر الخامسة أو السادسة، سألتها: «ما اسمك؟» فأجابت: «ريم»، سألتها لماذا جئتم إلى هنا يا ريم؟ قالت: «هجم الغزاة على بلدنا من الأرض والبحر والجو...قصفوا ودمروا وقتلوا»، قلت لها «لماذا لم تهربوا يا ريم؟ ردت بغضب: «وأين نهرب؟ وكيف نترك أرض آبائنا وأجدادنا؟». قلت لها: «وماذا حدث لكم؟ «قالت: لقد قتلوا آلاف الأطفال الصغار والنساء والشيوخ، كثير منهم تقطَّعوا إلى أشلاء، ومنهم من قضى تحت الأنقاض، حتى الذين قُتِلوا ودُفِنَت أجسادهم، لاحقهم الغزاة، ونبشوا قبورهم، وبعثروا جثثهم، وداسوها بجرافتهم ومجنزراتهم الآلية. خشينا أن يخنقوا أرواحنا بعد أن أبادوا أجسادنا؛ فقررت جميع الأرواح في بلدي أن ترحل بعيدا عنهم حتى لا يقتلوها مرتين». سألتها: «ولم اخترتم هذا المكان؟ أجابتني: «لا أدري... قال جدي وهو يودعني: إنها بلدة آمنة يا روح الروح»، قلت لها: «هل ستبقون دائما هنا؟ ردت باستغراب: «بالطبع لا... بعد أن يرحل الغزاة، سنعود إلى أرضنا وبلادنا ونرقد فيها بسلام». ودعتني ريم قائلة: أراك لاحقا... أريد العودة إلى صديقاتي؛ لألعب معهن».

***

استيقظت من نومي فجأة وأنا مصدوم ومندهش. كنت في حالة صداع وتشوش ذهني. لم أستطع النوم ليلة أمس حتى ساعة متأخرة من الليل. كانت الأخبار التي تبثها شاشات التلفزة مؤلمة ولا تُحتمل، حصار ودمار وأشلاء. المشاهد كذلك صعبة ولا تُحتمل، قتلى وجرحى بالآلاف، ولا أحد يمنع الغزاة من ارتكاب الجرائم والمجازر بحق الأبرياء. كانت ليلة ثقيلة عليَّ، تقلَّبت في فراشي مرارا حتى أخذتني سنة من النوم. الساعة الآن تشير إلى الخامسة والنصف صباحا. خرجت من غرفتي إلى الباحة الخارجية للبيت، ما زال الوقت فجرا، نجمة كبيرة مضيئة تلتصق بالسماء، غبار ضبابي يخيم على أشجار النخيل والبيوت القديمة، فجأة سمعت أصواتا وهمسات تصدر من جهة البساتين، كانت الكثبان الرملية التي تقع قبالتي تتوشح بأردية الضباب الكثيفة. توهج الأفق بحمرة الشروق، وشق الضوء أرجاء الأرض، ثم بغتةً رأيت -في البعيد- داخل أمواج الضباب كأن أرواحا تصعد من وسط الرمال. كانت الرؤية سديمية وغير واضحة. لم أكن متأكدا مما أرى. بدت لي تلك الأرواح مثل لآلئ منثورة تخترق الضباب، وتلامس السحب والغيوم. آلاف من أرواح شفافة -كما يُخيل إليَّ- تصعد وترتقي السحب، بعضها امتطاها، وبعضها أمسك بأطرافها. مضت لحظات ثم هبَّت نسائم باردة تزجي السحب نحو الغرب. تأملت المشهد مليا... كان مشهدا أسطوريا هائلا، ظننت لوهلة أنني في حلم عميق. بعدها خفتت حدة الصداع والتشوش الذهني فرجعت إلى غرفتي. أدرت جهاز التلفاز. كانت القنوات التلفزيونية كلها تبث خبر توقف الحرب، وانسحاب الغزاة من الأرض.

أحمد الحجري قاص عماني