No Image
عمان الثقافي

ما هو أبعد من استعادة البلاد من خلال البيوت والفضاءات الحميمة

28 ديسمبر 2022
الفنانة الفلسطينية رانية العامودي
28 ديسمبر 2022

لم تمض ثوان أو دقائق، إذا بنا في داخل تلك البيوت، بما فيها من آنية حاضرة، لنتذكر أن هذا ما كان من زمن يكاد يزيد عن القرن، هي ما عنونته الفنانة من زمن.

المشهد صباحي، فلسطين الصحيفة اليومية، فناجين الشاي والقهوة، فاكهة، وطعام، وحيوانات أليفة، وضوء النهار. وهكذا عادت البيوت كما هي، ملقية السؤال الأكثر تراجيدية، أين أصحابها؟

في المعرض المعنون بـ «1911» استعادت الفنانة الفلسطينية رانية العامودي الوطن من خلال الفضاء الخاص بما فيها من حميمية، فأعادتها عامرة طازجة بملامس الأرض والصباحات، وطعم البرتقال، ورائحة البيوت؛ حيث استطاعت استعادة الفضاء العام والوطني، بشكل إبداعي بعيد عن النمطية التسجيلية.

لم تستعد العامودي الوطن كمكان فقط، بل زماناً ودلالات عميقة عن فلسطين بحواضرها التي مثلت أهم حواضر النهضة العربية، لعل في ذلك إشارة إلى استعادة جوهر النهضة وعمقها، لاستلهامها في طريق استئناف ما انقطع، ووصل أصيل للزمن باتجاه التحرر الوطني والفكري معا، ولعلهما فعلا مرتبطان.

في «جاليري بنك القاهرة عمّان»، كان رد فعل المبصرين للوحات هو التأثر بجمال الأسلوب، ثم التفكير في مكونات اللوحات، ليستعيدوا مشاهد دافئة في بيوت وأماكن، فيصير الخاص عاما؛ فمن خلال تحليل عناصر البيت في اللوحات يصير البيت وطنا.

جميل أن يختتم «جاليري بنك القاهرة عمّان» في تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) لهذا العام 2022، كواحد من أكبر الجاليريهات الأردنية موسمه لهذا العام بالمعرض الاستعادي لوطن حيّ، وفاء له، وما ارتبط به من تنوير عربي زمن النهضة العربية الحديثة.

في هذا المعرض الذي نتج من مشروع استعادة فلسطين من خلال الإعلانات في جريدة «فلسطين» ما بين1911 و1948، تقدم الفنانة رانية العامودي مقترحها الجمالي-الوطني، للذاكرة الحية عبر 32 لوحة، فيما عرض القاص الفلسطيني مجموعته القصصية تحت عنوان «أنف ليلى مراد، الذي حمل داخل جميع اللوحات.

كل بيت هنا وطن، بما اختارته العامودي في معرضها الشخصي الثالث من أسلوب له علاقة بالمضمون؛ حيث يبدو أن الفنانة هنا قد ركزت على البيوت، إيمانا منها أن الأوطان هي في الأساس بيوت وساكنوها. لقد اختارت هذه الحميمية، فكان المعرض قائما على تصوير داخل البيت، ولعله من جهة أخرى ما حنّ له أصحابه من مكونات.

إذن كانت الفضاءات الأكثر حميمية، سواء بما احتوت من أثاث، أو ما اختفى داخل الخزانات، ربما باستثناء فضاء لوحة «مغتسل»، التي استلهمت من إعلان عن «حمامات الحمة»، مشيرة إلى تردد الفنان فريد الأطرش على هذا المياه المعدنية الحارة شمال فلسطين، بسبب آلام في ظهره، الذي غنى فيه أغنيته المشهورة «يا ريتني طير وأطير حواليه»، حيث حضرت الطيور ترتشف الماء في اللوحة. أما لوحة «مقهى الانشراح» فيظل فضاء المقهى ضمن الفضاءات الداخلية.

تفاصيل ودلالات

لقد أدخلتنا الفنانة تلك الفضاءات، زمانا ومكانا، حين وظّفت عناصر المكان الخارجية، داخل لوحاتها التي تركز على الفضاءات الداخلية؛ فالبيت هنا وطن، فيه ما في الوطن من عناصر الحياة اليومية، المتعلقة بعيش الأهالي.

وهنا سنجد أن أسماء اللوحات بحد ذاتها، ومكوناتها، تشكل دلالة هذا التواجد الذكي، بدون تكلف أو افتعال، بل إن تركيز المشهدية الداخلية، جعلت فلسطين الاقتصادية والفنية والاجتماعية والإعلامية، موجودة بشكل بنيوي، أي في بنية البيت الذي فعلا يعكس الوطن.

وقد تجلى الجانب الاقتصادي في لوحات «عصير وفاكهة» و«سمك يافا» و«بيض في وعاء» و«كلسات البيو» و«برتقال» و«السكب»، كذلك في لوحة «حائك من حيفا»، التي تتحدث عن تصميم الأزياء الحديثة في فلسطين.

أما الجانب الترفيهي والفني والثقافي فقد تجلى في لوحة «أمير البزق» ولوحة «آلة كاتبة».

في حين عبرت لوحة «ليكا» عن الجانب الاجتماعي، وما ظهر من عادات اقتناء الكلاب المدللة المنزلية في بيوت الطبقة الغنية.

أما الجانب الإعلامي الذي ازدهر في فلسطين، فهو صحف فلسطين، التي تجلت في كل اللوحات كما أسلفنا.

المرأة والبيت

أما تفسير تناول الفنانة الفلسطينية للفضاءات الداخلية، فيعود إلى اهتمام المرأة المبدعة بالبيت الذي تنفق وقتها فيه، فهي الحارسة له، وهي المدبرة له، لكن ثمة تحليل نفسي خاص بالفنانة رانية العامودي، وهي أنها بوصفها فتاة وامرأة قد قضت معظم أوقاتها في الفضاءات الداخلية.

وله مكافأة حسنة

بعد تصفح تلك اللوحات الـ16، بجمالياتها وألوانها وما أعادته من حنين، فإنها تصدمنا بـ 16 لوحة أخرى بالأسود والأبيض، اختارت لها جدارية في آخر المعرض، لتصفعنا فقرة مكتوبة بعنوان «وله مكافأة حسنة»؛ كأنها لتكمل لنا الحكاية، لكن بتراجيديا الفقد الرمزي-الواقعي، والوطني الإنساني.

16 لوحة بالأبيض والأسود، هي لوحات ما كان أصحابها يوما يظنون أنها ليس فقط ربما لا تعود، بل إن وطنا سيكون معرضا للضياع!

هنا حضرت المفقودات الشخصية التي تم الإعلان عنها في جريدة فلسطين: محفظة، ساعة، كلب، حمار، جواز سفر، مستندات، إسورة، باص، طفل، مسنّ، فتاة..

«وله مكافأة حسنة»، هكذا تم عنوت فقرة المفقودات، التي فيها «كان الموضوع أشبه بمقدمة أكثر فجائية.. فقدان البلاد».

أسلوب

خلال التنقل من لوحة إلى أخرى، لوحظ تركيز الفنانة على الأرضيات، بما فيها من بلاط، حيث ازدهرت صناعة البلاط في فلسطين، والمميز هنا أن جزءا مهما من تلك الأرضيات تم تصويرها وبعثها للفنانة، ولعل رسم البلاط بزخرفته شكل اعتناء خاصا منها، حيث أخذ وقتا في الرسم، والتشكيل، ربما بقصدية التركيز على دلالة مهمة.

كما لوحظ أيضا وجود عنصر سائد ممثل بالجريدة في كل لوحات المعرض، حيث تم هندسة وجود الجريدة بأماكن متعددة، بحيث يكتشف الناظر ذلك اكتشافا، بل ويصير بعد عدد من اللوحات يبحث عنها، حيث كانت هناك حركة مختلفة في مكان الجريدة وشكلها.

لقد ظهرت الجريدة في 15 لوحة على الطاولات، ما عدا ثلاث منها: «لوحة ليكا» حيث تجلس الكلبة ليكا عليها، ولوحة «مقهى الانشراح»، ووجدت ملقاة تحت كرسي، ولوحة «فتاة وعلبة شوكلاتة»، حيث وجدت على الرف العلوي.

ولعل لذلك تبرير فني هنا، كون المعرض مستلهما من الإعلانات المنشورة في جريدة فلسطين التي تأسست عام 1911 التي دعي المعرض باسمها.

أما العنصر السائد الآخر، فهو وجود الخزائن والجرارات، والمفاتيح، كما في لوحات: «أزهار الأقحوان»، و«سكب» و«كلسات البيو»، و«آلة كاتبة»، و«سيدة الأحد»، و«في فندق فيكتوريا» و«عصير وفواكه».

ولعل هذه العناصر في اللوحات إشارة خفية من الفنانة لإعادة اكتشاف الوطن؛ لأن فتح الخزائن وجرارات الأثاث، إنما تعيد وصلنا بما هو موجود خارج البيوت، من أشخاص وأحداث ومقتنيات.

أسلوب مشهدي هو ما اختارته الفنانة العامودي، مشهد يلائم القصة الومضة، لكنه هنا يظل طويلا في أعين الناظرين، حيث إنه إذا أمكن للفنانة أن تدخلنا فضاءات لوحاتها، فإننا وجدنا صعوبة في الخروج، لعل جزءا منا يظل هناك، في اللوحات والوطن السليب.

وبشكل عام نشعر أننا ندخل تلك الفضاءات شعورا وفكرا وحواسا: نرى ونسمع ونقرأ الصحف، نشم، ونأكل.

أمر مثير وغريب، بالرغم من عدم وجود شخوص في اللوحات، إلا أننا كنا نشعر بهم: ببداية صباحهم، بقراءة الجريدة وشرب القهوة، بكل تفاصيل الحياة الطازجة نراهم أحياء هنا، فلعل هذا ما قصدته المبدعة هنا؟ هل هي رسالة نبيلة عن هذا الألم الذي لم ينته عن طرد الناس من بيوتهم والاستيلاء عليها والوطن؟ إننا نراهم فعلا رغم كل الزمن، بل إنهم يحضرون الآن أكثر!

عمق البساطة، تقابله بساطة العمق، وتتكامل معه، حيث يصير الذاتي جدا، والمحلي جدا شأنا وطنيا وعالميا، يتعلق بأسوأ إفرازات قرون الاستعمار والحروب: تهجير البشر من بيوتهم.

لقد علق الفنان العراقي فيصل اللعيبي على اللوحات بقوله: بإن الفنانة نجحت في «تصوير الحياة الإنسانية الدافئة»، فيما أبدى الفنانان الفلسطينيان الكبيران سليمان منصور ونبيل عناني تقديرهما لاختيار المضمون والشكل المشهديين، حيث أظهرت الفنانة هنا تمكنها في التعامل مع المضمون والشكل الفني بجمالية وعمق.

والعجيب هنا هو استخدامها المنظور أيضا بشكل إبداعي، فكل عنصر في اللوحات له منظوره. وكذلك الضوء، حيث كانت اللوحات جميعا مضاءة.

اللونلم يكن هناك اختيار لوني محدد، ما عدا في الجزء الثاني الخاص بلوحاتها عن «المفقودات»، حيث اختارت «الأسود والأبيض».

اختارت الشكل الزخرفي للنصف الأسفل من اللوحات الذي بدت ألوانه حارة، أما بقية العناصر فهي معبرة عن اللون الواقعي، بمعنى أن الألوان الفلسطينية التي في البيئة والبيوت هي الأكثر حضورا.

ولربما كان اختيار البلاط المزخرف، لسببين مرتبطين ببعضهما بعضا: الأول هو دلالة حضور الذاكرة بقوة، تلائم قوة بلاط البيوت الذي ما زال فعلا حاضرا بقوة حتى الآن. والثاني تعميق جمالية البيوت والوطن السليب، بحيث تبدو استعادته طازجة.

ربما نحن في حاجة لبحث اللون هنا ودلالته النفسية، من ذلك اجتماع البرتقالي والأخضر الخفيف، كما في لوحة «عصير وفواكه»، حيث كأن اللوحة تكشف عما غاب.

المفقوداتهناك ما يمكن وصفه بالتوازن النفسي، بين الحضور والغياب، حيث يمكن النظر للوحات الـ 16 بالأبيض والأسود المتعلقة بإعلانات فقد المقتنيات في جريدة «فلسطين، خاصة في الجزء الثاني من الأربعينيات كمعادل لما حضر من وجود بهيّ للبيوت وما فيها.

أما اختيار الأسود والأبيض فهو لا شك مرتبط بفكرة غياب المقتنيات الصغيرة، وفقدان أفراد من المجتمع التي لم تفقد هي إلى الأبد، بل تم فقدان الوطن، الذي من خلال هذا المعرض تمت استعادته، حتى لا يظل ممعنا بالغياب.

اكتسى الأسود والأبيض بزرقة خفيفة موحية، كأنها تعمل تأثير الموات، فمن خلال برودة الأزرق، نشعر بشيء من الموات، الذي ربما يذكر بدائرة العودة إلى الحياة.

المتأمل في لوحات الفقد، يشعر بلعب الفنانة، أو عزفها لونيا أبيض وأسود؛ لتحقيق تأثيرات نفسية، حيث يسيطر السواد، فيما يظل المفقود من خلال الأبيض المحدود، الذي لوحظ أنه أخذ شكلا شبه هندسي، ولعل ما هو أهم هو ما استلهمت الفنانة من سياق خلفية الفقدان، وإعادة المفقود تخيلا إلى مكانه، أو تخيل مكان المفقود مثل الفتاة.

لوحات مشهدية منتقاة

في لوحة «قهوة الانشراح» اليافيّة، تظهر المشهدية في بعثرة ورق «الكوتشينة»، على الطاولة التي تظهر عليها كأس شاي «ساخنة»، زهد بها مرتادو المقهى، بدلالة عقب السيجارة المتروك قبل ثوان، كذلك النارجيلة المنتهية، في حين تظهر جريدة «فلسطين» ملقاة على الأرض. وهنا ثمة تقابل ما بين المذياع «الراديو، فوق الطاولة، والجريدة تحت الكرسي. ويبدو مفتاحا الراديو كعينين يطلان.

في لوحة سمك يافا، مشهدية قراءة الجريدة، فالنظارات فوقها، والقطة حاضرة، فيما ظهر التقابل اللوني ما بين زخرفة بلاط الأرضية، وزرقة السماء، أما مقابلة الحضور والغياب، فكانت من خلال السمكة على الطاولة، وهيكل عظمي لسمكة أخرى على الأرض، رسمت بشكل متواز مختلفة اتجاه الرأس.

في لوحة «برتقال»، يظهر الحضور من خلال زهرية الورد، وأجزاء برتقالة أكلت. تطل يافا من لوحة داخل البيت، نجد اللون البرتقالي هنا جاذبا العين، يعمق حالة اليقظة في ظل استعادة المكان والزمان.

أما في لوحة «حائك من حيفا»، فإن احمرار الفستان مع زخرفة بلاط الأرضية توافقا في جعل المشهد أكثر حضورا، أما تقسيم اللون فكان تقسيما واقعيا، بجمالية التناسق ما بين لون الخلفية ومكونات البلاد اللونية.

في لوحة «فتاة وعلبة شوكولاتة»، المستوحية من قصة شوكولاتة «سلفانا»، طلت القصة من علبة الشكولاتة، ومن خلال صورة الممثلة «سلفانا» الإيطالية، التي أعجب بها ابن صاحب المصنع، فأطلق اسمها على حلواه. تظهر الخزانة هنا كمكان للمقتنيات والذاكرة. في حين ظهر بلاط الأرضية إطارا للخزانة، كذلك في لوحة «كلسات البيو»، حيث تظهر المشهدية الأنثوية. وقد ظهرت «الأنثوية» جماليا أيضا على مستوى اللون في لوحة «فندق فكتوريا» المرتبط بتحية كاريوكا الراقصة الشهيرة، وهنا تظهر الموسيقى في لوحة «أمير البزق، العازف في فرقة محمد عبد الوهاب، حيث تظهر آلة «البزق» وسط نباتات الزينة الخضراء.

أما في «أزهار الأقحوان»، فهي تحكي قصة، لها علاقة بتحولات المجتمع النسائي، ثمة إيحاء بالذكرى من خلال تعدد زهريات الورد، التي تذكر بجمعية نسوية تبيع الزهور لجمع التبرعات لأجل الأعمال الخيرية، يضطرها الإرهاب الصهيوني للاشتراك بالكفاح، وهنا نجد الفنانة قد وضعت على طاولة الورد «الرضاعة» دلالة على مقتل الطفل مع 6 آخرين في عملية تفجير.

في لوحة «بيض في وعاء»، كان لحضور الديك أثر في الحضور، كذلك قارورة الزيت.

من اللوحات المميزة، «سيدة الأحد»، التي تستلهم مي زيادة الكاتبة المبدعة، حيث يشير الجرار الممتلئ بالرسائل إلى حياة مي المحبوبة.

«أمل» فـ «حضور»، فـ «1911»، كل معرض شخصي للفنانة العامودي، له هويته، الإنسانية والوطنية، وهنا، نزعم أن الفنانة توجت كل ذلك، في استعادة الوطن على المستوى الإنساني الحميم والحضاريّ.

تحسين يقين كاتب فلسطيني