2007212
2007212
عمان الثقافي

للحياة بقية: مصادر الشقاء البشري في عوامل شقاء الحياة الزوجية !

25 مايو 2022
25 مايو 2022

محاورات أفلاطون نصوص تأسيسية في تاريخ الفلسفة، بل هي النصوص المؤسسة لتاريخ الفلسفة، من رحمها كانت ولا تزال تنبع أهم النقاشات النظرية حول مفاهيم الخير والعدالة والسعادة، ولقد جمعت في طياتها بين البرهان المنطقي، والخيال الأدبي، والحوار المسرحي، وتضمنت المحاور الأساسية في السياسة، الأخلاق، التربية، التعليم، التنمية، العلم، الرياضة، الموسيقى، وغير ذلك، وفيها يتكلم المؤلف، الذي هو أفلاطون، بأصوات متعددة وأقنعة مختلفة، فيتكلم بصوت سقراط من جهة، وبأصوات محاوريه من جهة أخرى، تماما كما يفعل الممثلون الكبار على خشبة المسرح الفردي، بل يتيح للمحاورين فرصة استنفاد حججهم بلا تضايق أو ضيق، وبالجملة، فالمحاورات تمارين في التفكير بما هو حوار ذهني مع كل زوايا النظر الممكنة. من لا يحاور لا يفكر.

في محاورة المائدة يدور نقاش حول الحب: ما الحب؟ ما معنى أن نحب؟ لماذا نحب؟ أو -طالما الحكاية فيها وقوع- لماذا نقع في الحب؟ كان موقف الشاعر أريستوفان على النحو التالي: في البدء لم تكن أجساد الذكور وأجساد الإناث منفصلة عن بعضها البعض، بل كان في كل جسد مزيج من الذكورة والأنوثة، كان كل جسد عبارة عن ذكر وأنثى في الآن نفسه، غير أن الآلهة قرّرت في لحظة غضب أن تفصل الجزء الأنثوي عن الجزء الذكوري، فتفرق الناس إلى ذكور وإناث، وبعد ذلك صار كل واحد يبحث عن نصفه الثاني الذي انفصل عنه. هنا تكمن رمزية عبارة «البحث عن النصف الآخر» في رحلة البحث عن الزواج لدى تصورات كثير من شعوب العالم، حيث يبحث الذكر عن الجزء الأنثوي الذي انفصل عنه ولا يزال ينقصه، وتبحث الأنثى عن الجزء الذكوري الذي انفصلت عنه ولا يزال ينقصها. أما المثليون فقد كان نصفهم الآخر من جنسهم، وهذا نموذج لدور «الرمز والأسطورة» في فهم مختلف الظواهر الإنسانية!

لذلك نفهم أيضا لماذا يخجل الرجل في المجتمعات الذكورية من إعلان الحب، حتى ولو من باب آداب المعاشرة ! ذلك أنه يخجل من جزئه الأنثوي، ويخاصمه إلى يوم الدين! وهي الخصومة التي تنعكس على كثير من مواقفه وتصرفاته في المجالين الخاص والعام. وهذا قد يكون مقاما آخر للقول.

يستعيد ابن عربي تصور أرستوفان، ويعيد صياغته بتأويل إسلامي هذه المرّة، وعلى النحو التالي: عقب انفصال حواء عن آدم في الجنة (رمزية ضلع آدم)، أصبح حب الرجل للمرأة يندرج في باب حنين الكل لبضعه، كما يندرج حب المرأة للرجل في باب حنين البعض لكله، ذلك أن آدم وحواء كانا جسدا واحدا قبل الانفصال، تحت مسمى آدم، من أديم الأرض. انطلاقا من هنا نشأت رمزية البحث عن «النصف الثاني»، «النصف الآخر»، «النصف المناسب» لأجل إتمام مراسيم الزواج. غير أن وقوع معظم الناس في «النصف الخاطئ» هو ما يفسر ارتفاع نسبة الزواج الفاشل في كل الأمكنة والأزمنة.

في رحلة البحث المضني عن «النصف الآخر» فإن فرص الالتقاء بالنصف المناسب بالتمام والكمال تبقى نادرة جدا، وهي الصعوبة التي تعاظمت في الأزمنة المعاصرة: لقد أصبح العالم قرية صغيرة كما يقال، غير أنه قرية تستوطنها مليارات البشر، وفي هذا الزحام الكبير يصعب أن يجد المرء «نصفه الآخر» بالتمام والكمال، مما دفع شركات خاصة إلى أن تدخل على الخط وتستعين بقاعدة بيانات الأنترنت وتستعمل خوارزميات بالغة الدقة لكي تعثر للزبائن على أنصافهم المناسبة، وتساهم بالتالي في محاولة حل إحدى أكبر المعضلات العاطفية للإنسان. رغم ذلك، ورغم كل الإمكانيات والحسابات، لا تزال الكلمة العليا لضربات الحظ، ولذلك يبقى قدر الغالبية العظمى من الناس أن تختار في حدود المصادفات الممكنة، مع الاستعداد لتحمل قسط من الخسارة، والرضا بنصيب من الإخفاق، وذلك ضمن ما تصطلح عليه شعوبنا باسم «الرضا بالنصيب». وإنها لعبارة معبرة فيما لو فُهمت كما ينبغي.

صحيح أن عبارة «الرضا بالنصيب» عادة ما تقال بنبرة حزينة تكرس الشقاء، لا سيما حين تقال للمرأة كما هو واقع الأمر لكي تصبر على عنف مادي أو معنوي لا يُحتمل، لكنها حين تقال كما ينبغي وفيما ينبغي، وبحيث تعني أن فرصة أن يأتي «النصف الآخر» مناسبا بالتمام تظل ضئيلة أو غير متاحة في كل الأحوال، فإنها تصبح فنا ومهارة في تدبير الحياة الزوجية، وذلك بأقل ما يمكن من التوتر والشقاء.

يروي لنا التاريخ قصص ملايين النساء ممن فُرض عليهن زواج قهري إما بفعل صغر السن، أو الفقر المدقع، أو نتائج الحرب، أو عقب خطف أو سبي، أو ما إلى ذلك من الأعمال التي يجرمها العقل الأخلاقي المعاصر والمواثيق الدولية الراهنة، ومن بين القصص المؤلمة هناك ملاحم لنساء تحايلن على القدر بـ«كيد عظيم»، فاستسلمن لـ«نصيب» لم يكن بالإمكان دفعه، ومن خلال استراتيجية امتصاص الضربة، حولن النهاية السيئة إلى بداية لمجد من نوع جديد. وإنها لإرادة الحياة في النهاية.

«الرضا بالنصيب» معناه القدرة على امتصاص الضربة التي لا يمكن صدّها، ومعناه في حالة الحياة الزوجية أن نتقبل نصيبنا من الخيبة في ألا يكون نصفنا الأخر في الحياة الزوجية مناسبا، أو هو الأنسب. غير أن المصدر الحقيقي لشقاء الأزواج لا يكمن في أن النصف الآخر لا يأتي مناسبا إلا فيما ندر، وذلك هو عوز الأكثرين، بل ينبع الشقاء من الاعتقاد أن هناك خطأ ما في عدم العثور على النصف المناسب، والحال أن مصادفة النصف المناسب بالتمام والكمال أمر نادر الحدوث، والنادر لا حكم له. يكمن شقاء العلاقات الزوجية في اعتقاد أحد الطرفين أو كليهما أن الوضع كان سيغدو أفضل فيما لو تعلق الأمر بشريك آخر قد يكون حقيقيا أو افتراضيا. غير أنه اعتقاد خاطئ وخطير: فهو خاطئ لأن فرصة الالتقاء بالنصف المناسب تقارب الصفر بحساب الاحتمالات في كل الحالات، وهو خطير، لأنه قد يُسبب خسائر باهظة الكلفة وغير مبررة الحدوث.

حسب شوبنهاور الحب هدية ممتعة ومسمومة من الطبيعة التي تخفي أجندتها السرية المتعلقة بالتناسل والتكاثر بلا حساب، أما الانجذاب الجسدي الذي يحدث لنا في رحلة البحث عن الزواج فليس سوى تعبير عن إرادة الطبيعة في «تصحيح النسل»، بحيث يسعى كل طرف إلى تقويم اختلالاته الفزيولوجية من خلال الارتباط بآخر مناسب: طول الجسد، عرض الكتفين، شكل العينين والأنف، إلخ...

بهذا المعنى، وعملا بمقولة سقراط، اعرف نفسك بنفسك، سيبدو الأمر على النحو التالي: عندما كنتُ أبحث عن الزواج، فقد كنت أبحث بلا وعي عن نصف يكمل أنوثتي الناقصة (هرمونات ناقصة، ثديين بدائيين، إلخ...)، وفوق ذلك كنت بلا وعي أبتغي تقويم بعض «اختلالاتي» الفزيولوجية؛ ذلك لأن «إرادة الحياة» الكامنة في كينونتي لا يعنيها ذوقي وثقافتي وقصصي، بل يعنيها المظهر الفيزيولوجي للسلالة البشرية. بهذا النحو لعلي وقعتُ بدوري في الفخ بلا وعي، غير أنه يبدو فخا جميلا حين أتقبله عن طيب خاطر ورضا بالنصيب، تماما مثلما أتقبل الوقوع في بعض مقالب ابنتي الصغيرة برحابة صدر وأريحية.

أما الجانب المسموم من الهدية، فأحسبُ أني خرجتُ بأقل الخسائر الممكنة بفضل تطور العلم والطب وأسلوب الحياة المعاصرة، فضلا عن الحكمة التي تعلمتها من الحكماء الأقدمين، من فلاسفة فن العيش، فلاسفة فن الحياة. وللحياة بقية.

سعيد ناشيد كاتب مغربي