عمان الثقافي

لعبة الكراسي: الدرس الأول في الأنانية؟

30 مارس 2022
30 مارس 2022

الإجابة: لا، لا يبدو أن لعبة الكراسي هي الدرس الأول في الأنانية. لكنْ لعلنا نفكك السؤال بداية إلى شقين: الشق الأول متعلق بما إن كانت لعبة الكراسي تعلم الأنانية بدلا من أن تعلم ما هي موضوعة له أو ما يراد بها أصلا، وما يراد بها أصلا أن تعلم اللعب الجماعي للأطفال، وحينها علينا أن نسأل إن كانت اللعبة تعلم الأنانية فعلا أم تعلم شيئا آخر، شيئا متعلقا بالتعاون مع الآخر، شيئا أقرب إلى الغيرية منه إلى الأنانية. مع الملاحظة طبعا أننا هنا نلوي السؤال الذي يجب أن يُسأل لصالح سؤال نفترضه مقدما (أو نقدمه افتراضا)، فلعل السؤال الأفضل، غير ملوي العنق، سؤالنا ما إن كانت اللعبة تقوم بما يُفترض أن تقوم به لا أن نسأل إن كانت تقوم بما لا يفترض أن تقوم به، أي أن نسأل ما إن كانت تعلِّم فعلا اللعب الجماعي والتعاون مع الآخر أم أنها تنحرف عن مسارها فتعلم عكس ما أريد لها أن تعلم. أما الشق الثاني من السؤال فيتبع الشق الأول من حيث إنه لو وجدنا فعلا أن اللعبة تعلم الأنانية فعلينا حينها، وحينها فقط، أن نسأل أيكمن فيها الدرس الأول للأنانية أم أن الأطفال حين يتمكنون من لعب اللعبة، أي حين يتمكنون من الحركة بشكل متناسق ويفهمون ما هم بصدد فعله، يكونون قد قطعوا مسافات طويلة في درب الأنانية سيئة السمعة.

وهذا الشق من السؤال بالذات يدفعنا أبكر وأبكر في عمر الطفل لنصل ربما إلى نقطة الولادة أو ربما إلى نقطة التشكل الجيني للجنين. وحينها لن نكون بمعزل عن مرمى السؤال الأزلي الأبدي: ما إن كانت الأنانية جينية المنشأ أم أنها وليدة البيئة المحيطة، أهو الطبع أم التطبع؟ الآباء هم المسؤولون عن أنانية أبنائهم؟ والحق أنه سؤال مبهج بعض الشيء، إذ أن إجابته الحتمية أنهم هم المسؤولون سواء أكانت الأنانية راجعة إلى الطبع والجينات أم إلى البيئة وسلوك الآباء، ففي الثانية هم مسؤولون سلوكيا ونفسيا في أنهم وفّروا الظروف لخلق الأنانية في أبنائهم لكنْ في الأولى هم مسؤولون بيولوجيا من حيث أنهم أرادوا إنشاء الطفل من أساسه. ولا يغرنَّنا أننا في الأولى، في تسلمينا بيولوجية الأنانية إلى أطفالنا بوساطة الجينات، نكون غير واعين تماما بما نفعل لكوننا في نقطة التقدم العلمي الحالي لا نستطيع بعدُ أن نحدد صفات أطفالنا الجينية، فالأمر راجع حتما إلى موافقتنا لأي سبب كان في أن ننجب أطفالا، وعليه لا يمكن التخلي عن مسؤولية ما ينتجه هذا القرار واعيا كان أو لا واعيا. لكنْ لنهوِّن الأمر علينا بعض الشيء! لا يمكن حتى إن ثبُتَ أن الأنانية تُتعلم من البيئة المحيطة ومن سلوك الآباء أن نلقي باللوم على الآباء، فهناك دائما مشارك في الحدث، مشارك مجهول، يُصعَب تحديده بعدُ، يقوم بخلق طفل أناني بإزاء أخ له غير أناني رغم اشتراكهما في البيئة المحيطة ذاتها والأبوين نفسيهما.

وأيا كان الأمر، فإن التفكير النظري قد يوصل في أحايين كثيرة إلى أن الأنانية هي الأصل في سلوكنا: دافعنا الأنا لا الآخر. فحين نلتذ ونستمتع، أي حين نحقق رغباتنا المباشرة جدا من أمان وطعام وشراب وجنس وتعلم ونمو عقلي، فإنما يدفعنا عامل الأنانية أو عامل تحقيق أكبر نفع ممكن لنا لا للآخرين، وهذا أمر مفهوم ولا غبار عليه. لكنْ ماذا حين نقدّم شيئا للآخر لا نكون مجبورين على تقديمه ألا نكون حينها غيريين بشكل واضح ومفهوم؟ ولعل الإجابة هنا أيضا: لا! فتشْ فقط في أعماقك لماذا تقوم بما تقوم به، لماذا تقدم مالا لمحتاج مثلا! ثمة شيء داخليّ أناني يدفعك لذلك. فإذا أبعدنا الكاميرات التي ربما تسجل لحظة إعطاء المحتاج، وأبعدنا أي جمهور قد يصفق لنا ولنبلنا المفترض فإننا لا بد أن نُرجع الأمر إلى دافع داخليّ متعلق بنا قبل أن يتعلق بالمحتاج. بكلمة أخرى، ثمة كاميرا داخلية أو جمهور داخليّ إن صح التعبير، يراقب الحدث، ويصفق هو الآخر لنبلنا أو شهامتنا أو أخلاقنا أو إيماننا أو سمونا أو قدرتنا على دحر أنانيتنا. إن الغيرية هنا، ما هي إلا انعكاس لأنانيتنا. إن الأنانية، ويا للأسى، هي المنصة التي تنطلق منها الغيرية. ما الغيرية إلا استراتيجية لتحقيق الأنانية لكنها استراتيجية مراوغة لأنها تبدو كما لو أنها تفعل العكس. قد تتقوّض مشكلة الأنانية الغيرية المفتعلة بالتالي إلى ماهية المهماز المناسب لجعل الأنا تستعمل استراتيجية الغيرية لتحقيق منافعها الذاتية.

ولا غرو إذًا أن يكون تعليمنا للأخلاق أو تشجيعنا للعمل الغيري في أطفالنا مبنيا على ما يقدمه الأمر من مصلحة للطفل: حين نسأل الطفل حين ضربت الطفل الآخر ألمْ يتأذى، ينظر الطفل إلى هيئته وهيئة الطفل الآخر ويرى التشابه الواضح بينهما من حيث إن الآخر طفل هو الآخر له عينان وأنف وأذنان ورأس وذراعان، ويعمد حينها أن يسدد لكمة افتراضية لنفسه ليرى ما إن كان سيتأذى، ويتذكر ربما ما حصل له حين سقط سابقا على وجهه أو حين لكمه أحد آخر، وكل ذلك يصب باتجاه أن الأذية حاصلة على الطفل الآخر حين ضربه لا شك، ومع أن الأذية حاصلة على الطفل الآخر إلا أنه «لو حصل ذلك لي فسيؤذيني، وعليه فالأفضل ألا أفعل ذلك للآخرين لأنه يؤذيهم كما يؤذيني». إن التشابه مع الآخر يؤدي إلى التعاطف معه. وضع المرء نفسه في محل الآخر ينبت التعاطف وينهى عن الأذى. إن المنطق المتسلسل هذا قد لا ينجح لو كان المضروب من قبل الطفل هو قطة، قد لا يمكنك أن تقنع طفلا أن يتوقف عن أذية قطة بمثل هذه السهولة، فالقطة لا تشبهنا على الأقل في ظاهر بنيتها، وعليه يجب أن نوضح الشبه بيننا وبين القطة فيما يتعلق بالتألم، أي أن القطة تتألم هي الأخرى حين رفسها أو دهسها مثلنا تماما. أما مع النباتات فقد لا ينفع هذا المنطق بتاتا إلا طبعا لو استطعنا أن نوضح ما يجمعنا بالنباتات من حيث إنها كائنات حية تنمو وتعيش، لكنّ توضيح ذلك وتصديقه إلى نهاياته القصوى قد يؤدي بنا إلى أن نموت جوعا!

التشابه مع الآخر يؤدي إلى التعاطف مع الآخر ذلك لأنك تضع نفسك في محل الآخر تخيليا، لكنّ بعض علماء الأعصاب لا يرون أن التخيل والتشابه فحسب ما يدفع للإحساس بالأذية الواقعة على شخص آخر أمامنا بل إن هناك أذية مباشرة لنا في أذية الآخر. لنضعها بصورة مبسطة: لا يتأذى طفل من ألم طفل آخر بسبب أنه يضع نفسه محله ويشعر أن الأذية تلك لو وُجهت له فستكون مؤذية له أيضا، بل إنه يتأذى مباشرة بسبب وجود «أعصاب المرآة» المشبَّكة داخل أدمعتنا. بكلمة أخرى: لا داعي للتخيل، لسنا بحاجة إلى وسيط؛ الأمر انعكاسي تماما، نتألم بمجرد أن ترى أعيننا تألم الآخر. لعلنا نشبّه الأمر بحين نمرر طبشورة على لوح سبورة خشبي فنصِّر على أسناننا بمجرد سماع صرير الطبشورة. بيد أن اختزال الأمر كله بما تفعله أعصاب المرآة قد يكون مخلا للغاية، فلعل وجود أعصاب المرآة التي تجعل من بعض الثدييات تقلد ما يقوم به من يقف أمامها، لعله مهم في تعلم بعض المهام التي على الطفل تعلمها كما الحركة والأكل بطريقة منظمة، لكنها، كما يرى علماء آخرون، غير قادرة على أن تشرح لنا نشأة الغيرية، ونشأة الحس الأخلاقي.

في التجارب التي تدرس أنانية الأطفال من غيريّتهم في السنوات العشر الأولى، يبدو جليا أن الأطفال يميلون إلى تقديم المساعدة لمن يعتبرونه صالحا، ويتضح ذلك حتى عند الأطفال في سنيهم الأولى، وطبعا مع الأخذ في الاعتبار صعوبة التجارب والحذر في تفسيرها. فلو وُجد شكل كرتوني يحاول أن يصعد تلة وجاء من يساعده فإنه يعتبَر لدى الطفل المختبَر صالحا ويحظى بعدها بمكافأة، أما إن جاء من يعرقله فسيعتبَر لدى الطفل المختبَر شريرا ويسعى إلى معاقبته. لدى الأطفال إذًا حس بالعدالة ورغبة في الخير. وحين يتوجب عليهم توزيع مكافآت على شخصين فإنهم يقسمونها بالتساوي، وحين تكون المكافآت ذات عدد فردي فإنهم يوزعونها بالتساوي ويزيحون المكافأة المتبقية. لدى الأطفال إذًا حس بالمساواة. بيد أنه لا يجب علينا أن نتسرع! مثل هذه التجارب تجعل من الطفل مراقِبا فحسب، أو لعلنا نتجاوز ونقول قاضيا، فهم ليسوا مضمَّنين في المساعدة ولا المكافأة؛ لن يحصلوا جراء مساعدتهم للشكل الكرتوني الذي يصعد التلة أي مساعدة هم أنفسهم، ولن يحصلوا من توزيع المكافآت أي مكافأة لهم أنفسهم.

ماذا يحدث إذًا حين يكون الطفل مضمَّنا في المكافأة، أي طرفا وليس مراقبا (ولا قاضيا)؟ هناك تجربة يُمنح فيها طفل القدرة على سحب صينيتين بهما حلوى كميتها غير متعادلة موضوعتين بترتيب معين بحيث تكون الأولى له والأخرى لطفل آخر، ويكون للطفل القدرة كذلك على إبعادهما. في هذه التجربة يسحب الطفل الصينيتين حين تكون الصينية المعدة له ذات كمية حلوى أكبر، أما حين تكون صينيته ذات كمية حلوى أقل فإنه يبعد الصينيتين. إنه يفضل ألا يأخذ شيئا على أن يأخذ الطفل الآخر حلوى أكثر منه. والواضح من هذه التجارب أنه كلما صغر سن الأطفال، زادت أنانيتهم. إن الحس بالعدالة والمساواة مع كونه موجودا لدى الأطفال، فإن التجارب تشير إلى أن الأطفال يرغبون أن يحظوا بأكثر مما يقول به حسهم بالعدالة والمساواة. ربما يجدون مناسبا أن يحكموا بالمساواة والعدالة لأطراف لا تمسهم أما حين تكون الأطراف معروفة لديهم أو حين يكونون هم طرفا فإنهم حينها يرغبون بحصة أكبر لمعارفهم ولهم أنفسهم. إن هذا يذكرنا بالمعتلين نفسيا واجتماعيا (السيكوباث) الذين يرتكبون جرائم مفزعة ويقتلون بدم بارد، فهؤلاء لا ينقصهم حس العدالة والمساواة، لكنْ ينقصهم التعاطف والاهتمام بالآخرين وتحديدا ينقصهم الضمير. فالمقابلات مع مجموعة منهم ممن ارتكبوا جرائم قتل، توحي بمعرفتهم ما هو خير وما هو شر وتوحي بفهمهم لما هو قانوني وغير قانوني، لكنهم مع هذا لا يجدون غضاضة في أن يقتلوا لأسباب واهنة. إنهم مثلا يوافقون على مسك قطة ولوي عنقها إزاء مبلغ أقل بكثير مما يطلبه شخص «طبيعي»، بل إن بعضهم يوافقون على الفعل من غير أجر طلبا لنشوة التجربة أو لذة الفعل ذاته!!

إن ما يفعله الأطفال الأصغر سنا هو ذاته ما يفعله الكبار، ففي التجارب التي تقيس ما يمكن أن يمنحه أحد ما لآخر إن كان يملك عشرة دولارات بشرط أن يقبل الطرف الآخر المبلغ المُعطى له وإلّا يُحرَم الطرفان من المبلغ، في هذه التجارب يميل المُعطي إلى أن يقدم أقل ما يمكن بينما يميل الآخذ أن يأخذ أكثر ما يمكن، وحين يرى الآخذ أنه أعطي أقل مما يجب، يحبذ أن يحرم نفسه ويحرم المعطي من المال. من المهم إذًا أن يرى المرء نفسه مثل الآخرين أو على الأقل ليس أقل منهم بدرجة كبيرة. وذات التجربة حين تقام على الأطفال صغيري السن باستخدام الحلوى بدلا من المال فإنهم يميلون أكثر إلى أن يحرموا الطفل الآخر من الحلوى لو وجدوا أنهم سيأخذون أقل منه.

لا يبدو بالتالي أن لعبة الكراسي هي الدرس الأول في الأنانية بالنسبة للأطفال، فهم يعرفون الأنانية قبل ذلك بكثير، بل إنها ربما تكون مشبّكة داخل أدمغتهم. ولعل الصرخة الأولى التي يطلقها الوليد دلالة أنانية، فها هو يحرم مما وُفر له من قبلُ من رفاهية المأكل والمشرب والمسكن بلا جهد. ومهما وجدت الدارسات التي تدرس الحس الأخلاقي عند الأطفال، تظل الأنانية مهمة لحفظ الكائن، ويظل وجودها نافعا للبقاء. وحين يتعلم الطفل منذ ولادته أنه لا بد من التعاون مع الآخر فإنه يتعلم أن يكبح جماح أنانيته أو بكلمة أدق يتعلم استراتيجية الغيرية في تحقيق أنانيته. إن وجود أبوين في حياة الطفل الرضيع هو الدرس الأول في أن الحياة لا بد أن تكون تعاونية، وأنه يجب أن يتعلم أن يتكيف مع الآخرين للحصول على متطلباته.

حسين العبري طبيب وروائي عُماني