عمان الثقافي

لحن تشايكوفسكي

27 أبريل 2022
27 أبريل 2022

فيكتور أستافيف -

«إلى عبدالله الصايغ»

استمرت الريح نحو أسبوع في وسط أوكرانيا، فارشة بساطًا ثلجيًا رطبًا. ابتلَّ كلُّ شيء، ابتلَّ الجميع في الخنادق، على خطوط النار، حتى في أخاديد الجنود وحفر أزبالهم، كانت الأرضُ ترغي تحت الأحذية، والأخفافُ تسيخ في الوحل؛ والأفكارُ تميعُ وتبهتُ في فضاءٍ تملؤه الظلمةُ والبردُ القارس.

أجلسُ مُقابلًا للهاتف، سمّاعتان مُعّلقتان بأُذنيَّ بواسطة ضمادتين، الأسلاك مبللة، بوق الهاتف يلتصق بيدي، وبين الحين والآخر، أقوم بتنظيف الصمّام بكُّمِ معطفي الرطب، فتتشرّب منه الحبيبات الكربونية في الطبلة وتتلاصق، فلا يسعها - إذّاك - أن تتردد في محبسها.

تسرّب البللُ إلى جوف حذائي، وتشبّعت به إحدى الفردتين تمامًا، ما دفعني لربطها بسلكِ الهاتف. أشعر بقدميَّ وقد تجمدتا، وحين تتجمد القدمان، يتجمّد كل شيء، وتغدو بأكملك مثل كتلة مُجعّدة، يقوم البردُ بسحقها والإجهاز عليها.

يهدُّني السعالُ. أنفي تسيل، وبالكُمِ القذر لمعطفي، أفرك ما تحت أنفي، مِن شفتي، إلى أن تستعر. ما زلتُ بِلا شنبٍ، لِذا، شعرتُ بالشيطِ وكأنَّ فلفلًا نبت تحت أنفي وفيهِ. كنت، وأنا أتبادلُ الشتائمَ بالهاتف مع المناوبين على المدفعية، أقشعّرُ وأشعرُ بالحمى.

حضر قائدُ الفرقة. سمعني وقطّب وجهه. نظر إلى حذائي المُمرغ في وحلِ الغورِ الذي حُفر في ناحيةٍ من الخندق.

- لماذا لا تُرمّم حذائك؟

- لا وقت عندي، كما أن الخيوط لا تثبت فيه. قاعدتُه متعفنة ونعله الجلدي المُقلّد، متشققٌ ومهترئ.

- مع ذلك فعلينا الخروج من هذا المأزق بطريقة ما...

ومن توّهِ اتصل بالقيادة، أرسل لعناته وطلب ولو بضعة أزواجٍ من الأحذية. رفضوا طلبه وقالوا: إنهم سيوحّدون الزيَّ قريبًا، وسيمنحون الجميعَ أطقمًا جديدة.

- بطريقة ما علينا الخروج من هذا المأزق... - كررها القائد عشوائيا، فكأنه لا يقصدني بكلامه، ولكن، لكي أسمعه رُغم ذلك، وأتدبر معناه.

«الخروج من المأزق» - أي نزعُ أحذيةِ الموتى. لقد سبق لي أن فعلتها: غالبتُ خوفي ونفوري، ونزعتُ خُفًا شمعيًا باليًا عن ملازمٍ مسكين. كان ساقطًا مع فصيلهِ على منحدرِ تلٍ مقفر، فوق عشبٍ رمادي محروق. حللتُ بِطانتيَّ قدميه ولففتهُما بقدميَّ. وعلى الرغم من أن حذائي كان مُدّفئًا بحرارةِ قدميَّ، إلا أنهما شرعتا في التجمّد ما إن أولجتهما فيه. كانتا تتجمدان بصورة مستقلّة، تمامًا وكأنّ شيئًا قد فصلهما عني، شيءٌ لم أتبينه مباشرة، ولكنه أناخ عليَّ بصمته وصقيعه، وبوضوحٍ تامّ، تلمسته بكياني كله. لقد بدا لي أن برودة الأرض هي هذا الشيء، برودةٌ تغلّف الوجودَ بأنفاسٍ غير مسموعة.

سرعان ما استبدلتُ حذائي بالخُفِ. لقد كان باليًا بحقّ. «خداهُ» - نصفهما من الجلد المشمّع ونصفهما من القنّب، وجبهته المصنوعة من جلد الخنزير، لم تتحمل الرطوبة فانتفخت كفقاعة، أما قاعدته المصنوعة من الفلين، وقد لاحت محترقة، فقد كانت مكسورة.

أسيرُ نحو العدوّ شبه حافٍ، عبر الوحل الأوكراني اللزج، ولست وحدي في ذلك، فالكثيرون منّا يسيرون هكذا: يخبطون الأرض، أو يجرون أقدامهم خائضين بها أوحال آخرِ الخريف، ودائما إلى الأمام، غربًا. في إحدى القرى التي قمنا بتحريرها، تنهدت امرأة مِن خلفنا: «يا إلهي، يا الله، إنهم يقتادون الأسرى ثانيةً». سيجددون الزيّ عمّا قريب ويستبدلونه بآخر شتويّ. لا ينبغي قبول معطف فروٍ قصير وحذاء لبادي، ولا بأية حال. معطفُ الفرو القصير سيمتلئ قملًا خلال شهر أو شهرين، ثم ستضطر لفرشه على الثلج، حيث ستراه وهو يهتزّ ويزحف، وبحذاء اللبّاد ستجرُّ قدميك فرسخًا أو فرسخين في أرضٍ محروثة قبل أن ينسلخ عنك. لقد شاهدتُ تجاويف في الأرض اللدنة، يملؤها الماءُ، وقطعٌ تشبه طميًا داكنًا، ثم عرفتُ أنها أحذية اللباد التي تركها الفوجُ خلفه، واندفع حافيًا إلى الطريق العام.

جثثُ الانسحاب الأخير قد دُهست مِرارًا وتشتت على زلط الرصيف، مغطاةٌ بطبقة رمادية، تبُقّعُها ألوانُ الزيت والبنزين الذي رشح عن الدبابات والعربات المحطمة.

في هذا المكان يقوم المشاةُ باستبدال الأحذية، فالأحذية وأربطة الأقدام، كقاعدة عامة، تظل سليمة تقريبًا، وليس كالرؤوس التي تفرقع وكأنها بطيخ، فتراها مدعوكة، مسحوقة، كرقائق مسطحة. أربطة الأقدام، مثلها مثل الرايات والأعلام التي يتوسل بها الجنودُ الرحمةَ والعفو، التي يملأ بياضُها الطريق بأسره، بل هي مثل الأسنان، الأسنان البشرية، التي لم تسحقها عجلاتُ العربات، وجنازيرُ الدبابات، فتراها تسطع بياضًا هنا وهناك، بين الصخور المتصدعة وفي شقوق البلاطات.

ماذا يعني هذا؟ وهل بمقدور الإنسان أن يعتاد على كل هذا؟ أجل، بمقدوره، ولكن هل من ضرورة لذلك أصلا؟

آه، ما أشدّ برودة قدميَّ! رعشةٌ دقيقةٌ تهزّ جسمي بأكمله. ما تحت المعطف، وتحت الكنزة، والملابس الداخلية، غارقة في البلل. حرارتي ترتفع وليتني أمرض و...

جلجل الهاتف فضغطت على المكبس بإصبعي التي التصقت به وقلت:

- حسنًا، مَن يريدُ مَن؟

وردًا عن سؤالي، صدر صوتٌ جرسيٌّ، تمامًا كصوتِ شبلٍ في الكشّافة، مُعلنا عن نهاية عملٍ بطولي:

- مرحبًا، أيها الكراسنويارسكي* الأبله!

بافلوشا. بافلوشا كوكولين. أصله من قرية كاميني أو سفيتلي إستوك في ألتاي. التقينا في فوج الاحتياط وجمعتنا المودة: كنت أناديه بلطف «الألتائي العربيد» ويناديني بألطف منه «الكراسنويارسكي الأبله» وبهذا المستوى من التواصل الحميمي، بل والأخوي، كنا نتخاطب.

في الجبهة انضمَّ بافلوشا إلى كتيبة أخرى، ولكنا كنا نلتقي بين الحين والآخر، كما لا نفوّت فرصةً لتبادل كلمة أو كلمتين عبر الهاتف. وقد تمَّ تعيين بافلوشا بداية الخريف في مؤخرة الجيش الأقرب إلينا، وترقى من مُشغّل هاتف إلى مُشّغل راديو.

- حسنا، كيف تسير حياة الشباب معك؟

- الحياة؟ الشباب؟ - دعكتُ أنفي الرطبة، وبعواء أشبه بنباح كلب، قلت: سيكون أمرًا جيدًا لو تفرقعا بأسرع وقت...

انعقدت لسان بافلوشا، ولم يدر كيف يطيّب خاطري؛ يشعر بالذنب أنَّ أموره تلحلحت بينما نغصُّ نحن بالوحل، والقمل، تحت سماء متعفنة لا تعرف الرحمة.

- إيه، أيها الأبله، ما الذي تقوله؟ - خَفَتَ ابتهاجه ولكن بافلوشا ظل محتفظًا بحماسه. بافلوشا هذا، أحمر الخدود بطبيعته، وجهه دائري وهو ثرثار للغاية. يحب الموسيقى ويستطيع العزف على الهارمونيكا والبالالايكا، أما أنا فأجعد، عظام وجهي بارزة، هازئ بطبعي، ولا أجيد العزف على شيء. لدى بافلوشا أسباب للعيش والبقاء في الحرب أكثر مني. ربما يكون بافلوشا أكثر نفعًا للمجتمع، أما أنا فقد تحولت إلى وحش، صدري يتقيأ سعالا ولوزي ملتهبة، تمنعني من بلع لعابي.

عاش بافلوشا حتى بداية الحرب في قرية حُبوبٍ جميلة، وسط جبال مغطاة بصنوبر كثيفٍ حتى قمّتها. عند النهر الذي نشأ بجواره، ينبت الجوز ويسرح الحيوان والطير. بمقدور سُلطات الوطنِ الحبيب أن تُصادر كل ما هنالك من حبوبٍ، فالمرء لن يجوع في القرى الالتائية، حيث البطيخ ينبت في بساتينها، وفي الأرخبيل، عند مصبّ نهيرالقرية في نهر كاتون، يتفرّع النبق البحريّ المُغذّي. قريتي غالية عليّ أيضًا، ومع أن طبيعتها قاسية مقارنة بألتاي، وأرضها الصخرية فقيرة الزرع، إلاّ أن النهر وغابات التايغا خلف ظهرها. لقد انتُزِعتُ باكرًا من قريتي، أُجهظتُ وانخرطتُ في دوامة الحياة.

مرّت الطفولةُ في فاقةٍ وخوفٍ وانتظارِ سعادةٍ موعودة، واليفاعةُ التي كانت صِراعًا من أجل الوجود، انقضت كلمحِ البصر في السكنات العمومية، والتخشيبات المؤقتة، وأنواعٍ من بيوتٍ شتويةٍ، تطفحُ بروائحِ الروث والأسرجةِ ونَشارةِ الخشبِ المتعفنة، والآن هنا، في خنادقٍ تغرق بكل أمطار العالم، وتعصف بها كلُ أصنافِ الرياح، يتصرّم الشبابُ. لا يوجد حتى مكان لتجفيف الملابس أو ما يمكن أن يجففها. ليس إلا أمنية واحدة لا تني تلّح أكثر وأكثر – التلاشي، الموتُ بأسرع ما يمكن.

- ماذا دهاك؟ - صرخ بافلوشا بشيء من السخط - نحن في التاسعة عشرة ولا يزال علينا أن نعيش ونعيش، أيها الأبله...

- فلتعش إذن، إن كنت ترغب في ذلك.

صمت بافلوشا، فاقد الحيلة منزوع العزيمة. أحيانا ينجح في إقناعي وهدايتي للطريق الصحيح، ولكنه الآن عاجز، عاجزٌ تمامًا وبعيد عني، يقفُ هناك، خلف هذا الحجاب الذي لا يمكن اختراقه، كموجة تطفو على الأرض، تعلو وتنخفض.

- اسمع! – يصيح بافلوشا. – فلتسمع إذن!

فجأة أسمع موسيقى من عالم آخر، من كوكب آخر، موسيقى تسبح في سماء أخرى، رائعة، مهيبة، لا يمكن استيعابها بالعقل، موسيقى تشدو لحياة مختلفة، مَخفيّة عني، تستيقظ تحت سماء صافية ونجوم ساطعة.

قام بافلوشا بتشغيل جهاز اللاسلكي وضغط على مكبس التلفون، متيحًا لي الاستماع إلى الموسيقى البعيدة عني، والتي راحت تطفو فوقي. أردت سؤاله عنها وعن صاحبها، ولكن وجهي المتسخ، الناشف بسبب الصقيع، انغمر بدمع سخين، أخذ يتدفق إلى فمي، مالحًا مريرًا، وحين لم يسعفني الحال لابتلاعه، راح يسيل على معطفي ويقطر، ثخينًا، على صدري. اختفى السعال لوهلة وانسحب إلى مكانٍ ما، أصبح مثل مكابسٍ غير مشّحمة، تصدر صْريفًا وتفجّرُ الأنفاسَ في صدري.

«من سرق طفولتي؟ من أكل يفاعتي؟ ومن يقضم شبابي ويُفنيه؟» – أغصُّ بالدمع وأسألُ، مُخاطبًا كائنًا غير منظور. أشعر بالشفقة على نفسي وعلى حياتي... وهنا بالذات تبدأ نقطة تحوّلي.

أين هذه الموسيقى يا ترى؟ أين تعيش؟ مؤكد أنها موجودة في مكانٍ ما، ولا بدَّ أن أناسا جميلين يعيشون بصحبتها حياة رائعة.

الموسيقى التي جلبها بافلوشا من هذا الفضاء المترامي وتوسلها من أجلي، لم يكن يعرف ماهيتها ولمن تكون، وبدوري، لم أكن أعرف جنسها ومن هو صاحبها.

لاحقا عرفت أنها لبيوتر إليتش تشايكوفسكي - المقطع الختامي في الجزء الأول من «بحيرة البجع». عند اقتنائي الأسطوانة، رحت أعيد، مرارا وتكرارا، ذلك المقطع الذي يتحدث عن الانبعاث الجديد، وعن العالم الآخر الجميل، الذي سيهبط كشعاع مشرق على بلادنا، علينا جميعا، وجميع من قاسوا وتحمّلوا.

30 مارس 2000

المستشفى.

هامش:

نسبة إلى مدينة كراسنويارسك (المترجم)

فيكتور أستافيف قاص روسي (1924 – 2001)