No Image
عمان الثقافي

كيف يلج الأطفال إلى اللغة؟

25 يونيو 2023
25 يونيو 2023

لطالما تناقشت النظريات المتعلقة باكتساب اللغة حول الطبيعة الفطرية أو المكتسبة لهذه الملَكة، قبل أن تتبنى موقفًا وسطا يقدّر التفاعل والرغبة في التواصل عند الطفل.

إن تعلّم الكلام هو معجزة تبعث على الذهول. فقبل أن يكون بمقدور الطفل القيام بحساب جمع أو التمكن من التقاط كرة، «سيفهم تقريبًا جميع الجمل التي يوجهها إليه الكبار، وسيكون قد أتقن لغته عمليًا قبل أن يعرف كيفية ربط حذائه»، كما تقول بحماس المتخصصة في علم النفس اللغوي بينيديكت دو بواسون - باردي (Bénédicte de Boysson-Bardies). بحلول سن الرابعة من أعمارهم، يكون معظم الأطفال قد اكتسبوا بالفعل البنيات الأساسية للغتهم الأم. تتساءل عالمة النفس اللغوي ميشيل كايل (Michèle Kail): «كيف يتأتى تحقق هذا الإنجاز في هذا الوقت القصير جدا، عند كل الأطفال وفي جميع الثقافات؟ من الصعب تجنب الاستنتاج بأن اللغة هي جزء من إرثنا البيولوجي».

لقد قادتنا سرعة هذا الاكتساب تاريخيا إلى الاعتقاد بأن اللغة هي ملَكة فطرية. في القرن الثالث عشر، أراد الإمبراطور فريدريك الثاني التحقق من هذه النظرية من خلال حبس الأطفال حديثي الولادة، وأمر الممرضات بعدم التحدث إليهم أبدًا. لقد أراد معرفة اللغة التي سينطق بها هؤلاء الأطفال «على نحو طبيعي»: اللاتينية أم العربية أم العبرية... من الصعب التحقق من هذه الأطروفة، غير أن هناك أمرا واحدا مؤكدا اليوم، وهو أن هؤلاء الأطفال المساكين ما كانوا لينطقوا كلمة واحدة! يظل الاستماع للغة والتواصل مع مستخدميها أمرين ضروريين لكي يتعلم الإنسان الكلام. وكما توجز دوبواسون-باردي: «فمن دون المعلومات اللغوية، ستبقى المؤهلات الأولية عاجزة عن التحقق».

بين الفطري والمكتسب

إن النقاش حول ما هو فطري وما هو مكتسب قديم قدم الفلسفة وعلم النفس... وفي الأبحاث المعاصرة حول اكتساب اللغة، «تبلورت هذه المعارضة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي» كما تعتقد المتخصصة في علم اللسانيات آن سالازار أورفيج. يزعم باحثون سلوكيون (béhavioristes) أن اللغة هي نتاج للتعلم، وبالتالي فهي أساسا مكتسبة، شأنها في ذلك شأن المشي أو الأكل أو التحكم في عواطفنا. وعلى الضفة المعاكسة، تطرح المقاربات «الفطرية» (nativistes) أو «التوليدية» (générativistes) فكرة أن جميع الناس مزودون منذ الوهلة الأولى بـ «قواعد لغوية عامة». إن الأمر يسير كما لو أن الدماغ يحتوي على قالب، وبإمكان البشر تعلم لغات مختلفة عبر التعرض لمجموعة متنوعة من المحفزات، لكنهم سينجزون هذا التعلم من خلال البناء الفطري نفسه. لقد تم استبعاد كل من هاتين الأطروحتين الآن.

يبدو من ناحية أنه من المستحيل أن نعزو كل شيء إلى الفطرة. «لقد أبرزت الدراسات حول تطور ومرونة الدماغ الدور الكبير الذي تلعبه التجربة في تكوين الشبكات العصبية، مما يجعل فرضية التمثيل اللغوي المشكّل والمحدد مسبقًا أقل احتمالية»، كما تشرح سالازار أورفيج. غير أنه لا يمكن أن نعزو كل شيء إلى الاكتساب أيضا: «نحن نعلم الآن أن المولود الجديد يأتي إلى العالم مزوّدا باستعدادات كبيرة (...) مما يجعل من المستحيل تصوره على أنه عبارة عن صفحة بيضاء.

تبلور مسار آخر في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بوحي من النظرية البنائية لعالم النفس جون بياجيه، فبالنسبة إليه، تنحدر اللغة من ملَكات فطرية - مثل القدرة على تصنيف الأشياء، وإجراء المقارنات، أو حتى التحكم الدقيق في الجهاز الصوتي...، لكنها ليست فطرية على الرغم من ذلك؛ فهي تعتمد على نحو أكبر على كيفية نمو الطفل وتطوره. لقد أصبحت هذه الفكرة موضع إجماع الآن: يبدو أن الطفل يملك قدرات معرفية وحسية-حركية منذ البداية، تسمح له بتحليل تجربته وتشكيل لغته انطلاقا من هذه التجربة.

غير أن بنائية بياجيه ترجح من عمليات النمو الداخلي ولا تمنح الحياة الاجتماعية إلا «دورا هامشيا»، كما تشير سالازار أورفيج إلى ذلك. لكن الطريقة التي يتحدث بها المحيطون إلى الطفل تلعب دورا أكثر أهمية مما كان يعتقده علماء اللسانيات إلى غاية ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. تركز الأبحاث الحالية أكثر على «التفاعل الضروري» بين العوامل الداخلية والخارجية، والتداخل الحاصل بين هذه العوامل. إن المقاربات الوظيفية والانبثاقية التي تقوم على الاستعمال، أو حتى المقاربات التفاعلية هي التي «تعترف بالتجذر الاجتماعي، والتواصل والتفاعل الاجتماعي باعتباره الإطار الأولي لعملية اكتساب اللغة».

أطفال موهوبون

يبدأ هذا التفاعل... حتى من قبل الولادة! فبعد فصلين من الحمل، يكون لدى الجنين جهاز سمعي ويبدأ في «التعوّد على بعض من أصوات وإيقاعات لغته الأم»، كما تقول ميشيل كايل. تشير الدراسات التي أجريت على معدل ضربات قلب الجنين إلى أنه يتفاعل أكثر مع صوت والدته، ولكن أيضا مع الموسيقى الخاصة - «النغمة» - للغة الفرنسية إذا كانت محيطه فرنكوفونيا، أو الروسية إذا كان محيطه ناطقا باللغة الروسية، إلخ. يُبدي رد الفعل هذا أن الجنين يملك بالفعل قدرات معرفية يمكن أن تجعل لديه قابلية للغة.

ويؤكد رد الفعل هذا في الوقت نفسه أن التعرض للمحفزات البيئية والتفاعل مع الآخرين يقوم بتوجيه نمو الجنين في وقت مبكر جدًا. يولد جميع الأطفال الرّضع وهم قادرون على التمييز بين جميع أصوات أي لغة في العالم، لكنهم يفقدون سريعا هذه القدرة لصالح اللغة المحيطة بهم. يتمكن الأطفال اليابانيون البالغون من العمر شهرين، على سبيل المثال، من إدراك الفرق بين صوتي «u» و«ou» في اللغة الفرنسية، بينما يعجز آباؤهم عن ذلك! لكن الفارق يتضاءل في عمر 6-8 أشهر تقريبًا، وهنا يكمن السبب في أنه يغدو من الصعب جدًا التحدث باللغات الأجنبية بلكنة جيدة.

يمكن أن نتأسف لذلك لو لم يكن هذا «التنقيح الإدراكي» ضروريًا من أجل اكتساب اللغة الأولى. فلو استمر الرضيع في الانتباه إلى أدنى تغيير على مستوى طبقة الصوت أو النغمة أو اللكنة، فلن يتمكن أبدًا من إضفاء المعنى على البيئة الصوتية التي تكون أصلا فوضوية. إذا تمكن الرضيع من اكتساب لغته الأولى، فذلك لأنه قادر على تصنيف الأصوات في بيئته، وتحديد أكثرها فعالية للتواصل وتجاهل التنوعات التي لا فائدة منها.

وهذا ما يسمح له، على سبيل المثال، بالمطابقة بين كلمة «مرحبا» التي ينطق بها طفل من مدينة ليل وتلك التي ينطق بها شخص بالغ ينحدر من مدينة مرسيليا. وعلى نحو عام، يرتبط النمو المعرفي بالعالَم الاجتماعي كما تشرح سالازار أورفيج. ومردّ ذلك من ناحية، هو أن الأدوات والأنساق الإشارية على وجه الخصوص تملك جذورا اجتماعية. ومن ناحية أخرى، لأن التفاعل هو الذي يكون دليلا للطفل خلال تملك واستخدام هذه الأدوات. إن الطفل براجماتي، فهو لا يسعى تماما إلى «تعلم لغة» بالمعنى الدقيق للكلمة، كشخص بالغ يتعلم اللغة الهنجارية، بقدر ما يسعى إلى اختيار الأصوات الأكثر فاعلية من أجل فهم محيطه.

اللكنة في عمر مبكر!

يبقى اكتساب اللغة حتى سن 6-8 أشهر محصورا على مستوى الإدراك. يفهم الطفل المزيد والمزيد من الأشياء، لكن نطقه يكون تلقائيا ولا إراديا، ويظل محدودًا بسبب قدراته الحركية. غالبا ما كانت هذه الملاحظة حجة لصالح من يقول باكتساب اللغة بالفطرة، فكون الرضيع يعرف الكثير دون أن يكون قادرا على الكلام، يشير إلى أن الاستخدام يلعب دورا هامشيا فقط. وبالتالي فإن النطق يصبح إراديا في عمر 8 أشهر تقريبا مع شروع الرضيع في الثغثغة - صوامت وصوائت متكررة، مثل «با با با» أو «ما ما ما». وعلى خلاف ما يحب الوالدان اعتقاده، فهذه ليست كلمات، ناهيك عن أن تكون محاولات من الرضيع لقول كلمتي «بابا» أو «ماما». يكون الأطفال في هذا العمر ما يزالون يلعبون ويجربون.

إن التسلسل بين الصوامت والصوائت بالمناسبة هو أحد الخصائص النادرة التي يبدو أنها توجد في جميع لغات العالم. وفقا لعالمي اللسانيات بيتر ماكنيليج (Peter MacNeilage) وبربارا ديفيس (Barbara Davis)، فإن هذه البنية المقطعية مستمدة أصلا من حركة مضغ الأطفال - الفم المغلق ثم المفتوح يصبح تسلسلا من الصوامت والصوائت... غير أن الأطفال الرّضع يكيّفون مرة أخرى هذه القابلية مع محيطهم. إنهم يقلدون والديهم كثيرا، ويتحدثون بصوت أكثر حدة مع والدتهم مقارنة بما يفعلونه مع والدهم، على سبيل المثال. ومما يبعث أكثر على الدهشة، أنه يصير لديهم بالفعل لكنتهم! حينما يستمع البالغون إلى أطفال يبلغون من العمر 8 أشهر وهم يثغثغون بالإنجليزية أو اليابانية أو بالفرنسية من دون أن يكونوا مسبقا على دراية بأي لغة ينطقون، فإنهم في غالب الأحيان ما يتمكنون من التعرف على لغتهم الخاصة. هذه مؤشرات كثيرة توحي بأن إنتاج الأصوات يساعد الطفل أيضا على تملك اللغة وتثبيتها. تساعد الاستراتيجيات التي يعتمدها الكبار في التحدث مع الأطفال الرّضع - المبالغات والتشديد والتبسيط... - أيضًا على تعلمهم بشكل أفضل، حيث إن النموذج يكون أكثر بروزا وبساطة، كما أن تقليده يكون أسهل. فهو يساعدهم على تحديد السمات الخاصة بلغتهم - البنيات المقطعية، والأوزان... والمعجم بالطبع! إن «حديث الأطفال» هذا يشجعهم على النطق بكلماتهم الأولى عند السنة الأولى من أعمارهم تقريبا في المتوسط - بغض النظر عن الاختلافات بين الأفراد والثقافات التي يصعب تقييمها، والتي غالبا ما يختلف حولها القائلون بالفطرة والقائلون بالاكتساب. بشكل عام، يربط الأطفال أولا بين «الأشكال الصوتية وبين الأحداث أو الأشياء»، كما تشرح دوبواسون باردي، فيستوعبون تدريجيا أن هذه الأشكال الصوتية تحيل على أحداث أو أشياء بعينها. ويعي الأطفال في عمر 11-18 شهرا، أن كل كلمة تعني شيئا وأن كل شيء بالمقابل يمكن تسميته، وهذا لا يقتصر فقط على الأشياء المألوفة (الباب)، وإنما ينطبق أيضا على أجزاء معينة من هذه الأشياء (مقبض الباب)، أو الكل الذي تندرج في إطاره (باب الغرفة). ويعقب ذلك انفجار على مستوى معجم الأطفال، يعرفه الوالدان والمتخصصون في الطفولة المبكرة تمام المعرفة.

عارف بقواعد اللغة انطلاقا من عمر السنتين

في الفترة العمرية 18-24 شهرا، «يصبح نطق الكلمات أقل عرضة للأخطاء وتظهر عبارات مركبة من عدة كلمات (...) ويبدأ النظام النحوي للغة البالغين في تنظيم المعرفة اللغوية للطفل»، كما كتبت دوبواسون باردي. تكشف هذه الفترة بالفعل عن معرفة تفصيلية بالقواعد النحوية وإن كانت جزئية. وعند عمر السنتين في المتوسط، يفهم الطفل أنه ينبغي ترتيب الكلمات بترتيب معين، ويميز بين مجموعات الأفعال والأسماء، ويستخدم الضمائر بشكل جيد، إلخ. وحتى لو لم يكن على دراية بجميع القواعد بعدُ، فإنه يستغل تفاعلاته مع البالغين لكي يحدد طرق الكلام الأكثر فاعلية ويجعل كلامه مفهوما للآخرين.

سيتعلم الطفل على نحو عام كيف ينمي «مهارة براجماتية»، كما لاحظت كايل. يتعلق الأمر على سبيل المثال بصياغة طلب أو بتدبير توزيع الأدوار بين المتحدثين أو حتى التصرف بأدب. سيتم تعلم قواعد الاستخدام هذه من خلال التفاعلات مع المحيطين به بحسب السياق. وعلى المدى الطويل، سيلج الطفل إلى تعليم يكون أكثر استهدافا ووضوحا وتكرارا وربما أقل متعة: تعلم القواعد بشكل عام، والقراءة أو حتى الكتابة.

فابيان تريكور صحفي مستقل متخصص في الشؤون العلمية. يتعاون مع عدة مجلات فرنسية متخصصة مثل مجلة علوم إنسانية، ومجلة فلسفة، ومجلة علوم ومستقبل، ومجلة الدماغ وعلم النفس.

حافظ إدوخراز كاتب ومترجم عن الفرنسية نشر العديد من المقالات والترجمات منها كتاب «عصر الفراغ: الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة» للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي.

عن مجلة: علوم إنسانية