عمان الثقافي

كيف يأخذ الروائيون من الفلسفة؟ الرواية ترتدي ثوب الحكمة

25 يناير 2023
25 يناير 2023

العلاقة بين الفلسفة والرواية عالميا راسخة، وهناك أعمال تمثل علامات يتحاور فيها السرد مع الفلسفة بشكل واضح، وعلى رأسها «الغريب» لألبير كامو، و«المحاكمة» لفرانز كافكا، و«الخلود» لميلان كونديرا وغيرها، لكن على مستوى العالم العربي، هل يمكن القول إن العلاقة بين الفلسفة والرواية واضحة لدرجة يمكن معها وصف تلك العلاقة بالظاهرة أم أن الأمر لا يتعدى كونه مجرد مشاغبات بسيطة بينهما؟ والسؤال بشكل عام: هل يحضر الخطاب الفلسفي في الرواية العربية؟

الناقد المصري الدكتور حسين حمودة يقول إن علاقة الرواية، والأدب عموما، بالفلسفة علاقة قديمة ومتجددة، قطعت مسيرة طويلة ومرت بأشكال متعددة .. خلال تلك المسيرة تراءت في الثقافة الغربية أعمال كثيرة من «محاورات أفلاطون» إلى «كانديد» لفولتير وحتى «الغريب» لألبير كامو و«الذباب» لسارتر، ومرورا بأعمال كثيرة أيضا لديستويفسكي وتوماس مان وإمبرتو إيكو وغيرهم.

في الأدب العربي، بحسب حسين حمودة، كانت هناك أعمال انطلقت من اهتمامات فلسفية، مثل «حي ابن يقظان» لابن طفيل، و«الغربة الغريبة» للسهروردي، وبعض كتابات جبران خليل جبران مثل: «الأجنحة المتكسرة» و«الأرواح المتمردة»، و«الدين والعلم والمال» لفرح أنطون، و«حدّث أبو هريرة قال» لمحمود المسعدي.. ثم عدد كبير جدا من روايات لنجيب محفوظ، وإبراهيم الكوني، وبعض النصوص المهمة في هذه الوجهة، مثل «أوراق: سيرة إدريس الذهنية لعبدالله العروي».. خلال هذه الأعمال، وغيرها كثير، تنوعت العلاقة بين البعد الأدبي والبُعد الفلسفي، فهناك روايات اهتمت بـ«بعرض» أو «تبسيط» أفكار فلسفية بعينها، يمكن التماسها خارج النص الروائي، وهناك روايات عبّرت، روائيا، عن تصورات كتّابها وكاتباتها التي لا تخلو من خبرة حياة، أو من تأملات، لها طابع فلسفي.. وفي هذه الوجهة الأخيرة يمكن أن تتسع دائرة حضور الفلسفة في الرواية اتساعا هائلا، لتشمل عددا كبيرا جدا من الروايات العربية وغير العربية.

التشابه العائلي

ويرى الكاتب العماني محمد العجمي أنه «ليس من الصعب اكتشاف وجود التعالق بين الفلسفة والرواية، فالتحدّي الذي تصنعه الصورة السلبية للفلسفة عربيا يتحوّل في الوقت نفسه إلى محفّز يجعلها تقتحم حقل الرواية، وذلك لاستعمال ما أسماه فيصل درّاج؛ الـمكر الروائي الذي يتيح للروائي التحدث عن وجوه الحياة الـمختلفة. فما هو محرّم عليه أن يقوله بشكل مباشر؛ يمكن أن يقوله بطريقة ناعمة وأسهل من خلال الرواية. شيء يشبه ما عبّر عنه جابر عصفور بالمقاومة عن طريق الكتابة».

ويقول: «كتب كثيرون عن العلاقة بين الفلسفة والرواية عربيا، وتبدو لي المسألة جديرة بالتأمل فعلا؛ لأن كل من الفلسفة والرواية تشكّل مظهرا مهما من حياتنا المعاصرة. فالفلسفة لا تزال هي التي تفتتح حقول التفكير الجديدة في كل عصر، والرواية باتت ديوان العصر على حد تعبير أحدهم. ولا بدّ أن مزيجا بينهما سيكون شيئا يسعى لاختراق جمود ما في شكل من أشكال نشاطنا البشري، باستعمال التخييل والتخليق. أظن هذا ما دفع نجيب محفوظ ليكتب «أولاد حارتنا» ومحمود المسعدي ليكتب «حدث أبو هريرة قال» ويوسف زيدان ليكتب «عزازيل»، وآخرين كالكوني والعروي.

وفضل العجمي التركيز هنا على بعض الأعمال العمانية التي يمكن أن نلمس فيها أبعادا أو حتى معالجات فلسفية، مع يقينه بأن كل كاتب للرواية يمتلك في النهاية رؤية وفلسفة يعكسها داخل أعماله. يعلق: «المُلاحظ مؤخرا أن عددا من الكتاب العمانيين بدأ فعلا يحاول أن يستعمل الفلسفة أو يعكس ثقافته الفلسفية داخل أعماله، وأخص بالذكر هنا عادل المعولي في «الغابة الفاضلة» (2021)، وبسّام الكلباني في «عزلة الرائي» (2018)، وبدرجة أقل سعيد الهاشمي في «والشجر إذا هوى» (2019)، ومحمد اليحيائي في «الحرب» (2022). هذا إذا لم نأخذ الأعمال التي تتناول مفهوما معيّنا لتعالجه بطريقة أدبية ولكن في المحصّلة تعطي المفهوم بُعدا فلسفيا، كما فعل زهران القاسمي مع مفهوم الماء في «تغريبة القافر» (2021)، وبدرية البدري مع «مفهوم الهوية الجنسية في ظل هيرمافروديتوس» (2018)».

ويقول: «ربما يحتاج الأمر لوقت أطول للحديث عن هذه الأعمال، وخصوصا أن التأمّل الفلسفي والذي يراه البعض ضرورياً في تحديد نوع الرواية الفلسفية، يتطلب ضبطا في التعريف. وإن كنت أميل شخصيا تأثّرا بمناهج ما بعد الحداثة إلى استعمال فكرة الطيف لوصف الأبعاد الفلسفية في هذه الأعمال، بالنظر إلى اشتباك الفلسفة هنا مع التصوّف والحكمة والنفس والطبيعة، على نفس طريقة فيتغنشتاين مع فكرة التشابه العائلي في اللغة».

هامش الحرية

الكاتبة الكويتية باسمة العنزي تؤكد في بداية حديثها أن الرواية العربية المعاصرة في الألفية الثالثة من النادر أن تحضر الفلسفة فيها. وحين نتحدث عن الروايات العربية الصادرة خلال العقد الماضي نجد نزوحا كبيرا للرواية الديستوبية وأيضا التاريخية، وذلك لعدة أسباب، من أهمها هامش حرية الكاتب العربي، وانفصاله عن قضايا الواقع التي تتطلب جرأة في تحليلها، مع الكثير من الأعمال الروائية التي تتناول القضايا الاجتماعية المكررة ذاتها بصيغ مختلفة منذ أكثر من نصف قرن.

وتقول باسمة العنزي: «مع ندرة الأعمال الروائية العربية التي تتداخل الفلسفة فيها بالسرد الأدبي يحضرني عمل مميز هو «طعم الذئب» للكاتب الكويتي عبد الله البصيص، واحدة من الأعمال التي تحضر فيها الفلسفة وسط فضاء مكاني آسر بغموضه -الصحراء- وبطل وحيد مهزوم من جماعته يصارع قدره ليبقى على قيد الحياة. هذا العمل يشكل إضاءة تتناول كينونة الفرد من وجهة نظر فلسفية مغلفة ببساطة الطرح وانسيابية السرد».

وتضيف: «تحضرني أيضا الرواية الرائعة والوحيدة لكاتبها السعودي عزيز محمد «الحالة الحرجة للمدعو كاف» والمبنية على فكرة الحياة القلقة من وجهة نظر شخص مصاب بالسرطان عليه أن يتعامل مع ألمه النفسي والجسدي وأن يحمي عزلته في مجتمع يجد نفسه غريبا فيه لأقصى درجة، عمل مشبع بالرمزية رغم لغته الساخرة. البعد الفلسفي كان واضحا بالإضافة لاتكاء العمل على محاور مهمة من علم النفس».

السؤال الفلسفي

ويبدأ الناقد السعودي عبد الله العقيبي من جواب الفيلسوف البريطاني برتراند راسل على سؤال أين تنتهي الفلسفة؟ «إنها تنتهي عندما يثبت العلم خلاف ما كان الفلاسفة يعتقدونه، بمعنى أن الموضوع الفلسفي يموت بظهور الحقيقة العلمية، وقد أجهض العلم الكثير والكثير من الموضوعات والنظريات الفلسفية، خاصة تلك التي تحاول الإجابة عن سر الوجود وبداية الخلق، حتى بات الحديث فيها بعد ثبوت رأي العلم ضربا من الجنون باعتراف راسل نفسه، من هذه النظرة لعلاقة العلم بالفلسفة، وميل الرواية في القرن العشرين إلى ما يشبه البحث العلمي، كان لعودة سؤال الرواية والفلسفة وجود منطقي».

ومن هنا، بحسب العقيبي، ضاقت على الرواية، كما ضاقت على الفلسفة مناطق تحركها، فانحصر السؤال الفلسفي في الموضوعات الميتافيزيقية، والبحث داخل الذات الإنسانية، ومع دخول الرواية في نفس المنطقة الضيقة بدأ ما يشبه العراك بين الرؤية المعرفية الفلسفية، والبعد الروائي الفني الفلسفي.

ومن خلال النظرة الفاحصة لحال الرواية الحديثة مع الفلسفة، يمكننا ملاحظة أنها انقسمت إلى قسمين، روايات تقارب البعد الفلسفي في طرحها للموضوعات الروائية الفنية والاجتماعية، وروايات انطلقت من خلال الفلسفة نفسها، وهي الروايات التي باتت تُوسم بالروايات الفلسفية، مثل غريب كامو، ومحاكمة كافكا، وصولا إلى كائن كونديرا، والشواهد على هذا النوع كثيرة. العقيبي يرى أن الوضع عربيا لم يراوح هذا المبدأ في النظر إلى الفلسفة من خلال الإبداع الروائي، فلا يمكن بحال من الأحوال إخراج أي رواية من الروايات العظيمة عربيا، حتى تلك الروايات التي قاربت الموضوعات الاجتماعية، والفنية البحتة من ميلها إلى الرؤى والأفكار الفلسفية العامة، وأسوة بالروايات العالمية الفلسفية، بات لدينا عربيا روايات من النوع الآخر، الذي ينطلق من الفلسفة، لا في بُعدها العام، بل في أصل تكوينها، أي أنها رؤى فلسفية قُدمت من خلال فن الرواية، ومن أهم هذه الأعمال، «حدث أبو هريرة قال»، لمحمود المسعدي، و«أوراق: سيرة إدريس الذهنية»، لعبدالله العروي، و«عشب الليل»، لإبراهيم الكوني، والأمثلة على هذا الشكل الروائي عربياً كثيرة جدا، ويمكن النظر إليها من خلال أبعاد مختلفة، انطلاقا من المدارس الفلسفية المعروفة، وهناك دراسات أكاديمية ونقدية عديدة سلطت الضوء على هذا النوع من الروايات، وهذا يدل على تمكنها من ساحة التأليف الروائي العربي، قديما وحديثا.

حضور أقل

من جانبه، يقول الناقد المصري الدكتور يسري عبدالله: إن الفلسفة لطالما تسربت بوصفها رهانا من رهانات الرواية، وربما بدت الفلسفة أحد متون الرواية الغربية بتنويعاتها المتعددة، وصيغها المختلفة، ومرجع ذلك يعود إلى طبيعة الذهنية الأوروبية ذاتها، فهي ذهنية شاكة ومتسائلة، تعاين الوجود الإنساني من زوايا نسبية، وتتعاطى معه من منظور وجودي تارة، وعبثي تارة ثانية، وتأملي تارة ثالثة، وهكذا.

ويمكن أن نرى ذلك في مدونة السرد الأوروبي ذاتها، التي تحوي أعمالا أدبية متعددة الروافد الفكرية، والمسارات الرؤيوية، حيث تبدو على سبيل المثال رواية «الغريب» لألبير كامو مغايرة عن «المسخ» لكافكا، ومختلفة عن «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي.

أما الرواية العربية، كما يقول يسري عبدالله، فقد حظيت الفلسفة فيها بحضور أقل تواترا من مثيلتها الغربية، وربما يعود ذلك إلى الذهنية العربية ابنة اليقين، والثبات، وإن كان هذا لا ينفي أن ثمة أعمالا روائية مهمة قد توافرت فيها نزعة فلسفية شكلت جانباً من عوالم السرد داخلها، من قبيل ما رأيناه في رواية «السمان والخريف» لنجيب محفوظ، حيث يبدو عيسى الدباغ البطل المركزي في الرواية ممزقا بين ما يكونه وما يريده، يعاني حالا من الإخفاق، يفضي به إلى ما يسمى بالاغتراب عن الذات

ويضيف: «يمكن أيضا أن نشير في هذا المسار إلى النزعة الفلسفية التي غلفت رواية «أولاد حارتنا» باعتمادها على آلية البناء الأليجوري، حيث صنع موازاة رمزية لفكرة العالم، وتأمل المصائر والمآلات، ويمكن أن نشير إلى سياق من الروايات التي حظيت بمقولات فلسفية داخلها، أو شخوصا ذوي نزعة تأملية في حركة العالم والوجود والأشياء، وإن كانت لم تمثل الفلسفة داخلها جوهرا في متن السرد».

المشتركات العربية

ويقول الروائي الجزائري سعيد خطيبي إن السّؤال عن العلاقة بين الفلسفة والرواية يحتمل النّظر إليه من وجهين: ما هي القيمة الفلسفيّة للنصّ؟ وما هي الخلفية الفلسفيّة للمؤلّف؟ ويجيب: «منذ القرن الماضي تستمد الرّواية العربية تحوّلاتها من تحوّلات الرّواية في الغرب، لذلك نلاحظ مثلا رشيد بوجدرة حين انتقل إلى الكتابة بالعربية كرّس شخصيات تموج في تيار الوجودية، تأثرا بما كان يحصل في فرنسا. لكن منذ الثّمانينيات نطالع صعود تيار آخر في الرّواية العربية، نقصد منه البعد الصّوفي في اللغة، وكذلك في تحديد ملامح الشّخوص. إلى حدّ السّاعة لا يزال هذا التّيار الصّوفي حاضرا، بحكم أنّه واحد من المشتركات العربية». ويضيف: «عثرات الفلسفة وما عانت منه من منع ورقابة، في سنوات ماضية، جعلت الكتّاب يلجؤون إلى الأدب بغرض إصلاح وضعها. ولن نختلف في القول إنّ الفلسفة العربية، منذ ابن رشد إلى اليوم هي فلسفة أدبيّة. تجعل من النّص، سواء كان سردا أو شعرا، مختبرا لها، في توصيل الفكرة وقياس مدى تقبّل المتلّقي لها. فتاريخيا لم يخل النّص الأدبي من جوهره الفلسفي. حين نتساءل لماذا تحامل أفلاطون على الشّعراء وأخرجهم من «جمهوريته الفاضلة»، فالقصد ليس معاداته للشّعر في حدّ ذاته، بل معاداة الشّعر الذي ساد في عصره، والذي غلبت عليه الحماسة، بينما في منظوره لا بدّ أن يكون الشّعر محرضا على التّفكير، على إعمال العقل والمنطق. كذلك هي الرّواية، لن يكتمل شرطها الفنّي إذا خلت من عناصر التّحريض على التّفكير وعلى التأمّل الفلسفي».

استيعاب الفضائل

أما الكاتب العماني علي سليمان الرواحي فقال: إن الأدب بشكل عام، والرواية بشكل خاص، تستوعب الكثير من القيم والفضائل الإنسانية العليا، والتي يبحث عنها المرء في سياقاته الحياتية المختلفة، حيث يمثل الصراع المستمر بين هذه القيم المسار الطبيعي للوصول إلى تغليب المساحة الخيّرة. يلتقي هذا الصراع المستمر مع السؤال الفلسفي المطروح منذ فترة طويلة، حول الأسبقية بين الوجود والماهية. فالوجود يخضع لمتغيرات كثيرة، وظروف مختلفة، لا تجعله ثابتاً على مسار واحد، وليس أسيرا لتأويل منفرد. في حين أن الماهية بحسب هذه النظرة ثابتة مقارنة مع المتغيرات الزمنية المختلفة.

بالإضافة لذلك، كما يؤكد الرواحي، وبسبب طبيعة الرواية المتغيرة مؤخرا، التي تسعى للتعبير عن قضايا الإنسان وهمومه وتطلعاته، ففي تناولها للكثير من الظواهر البشرية، تتمسك بالرؤية المثالية التي تذلل كل الصعاب والتحديات. تحضر هذه الرؤى في الكثير من الروايات التي تساعدنا في فهم هذه العلاقات المعقدة، والمتناقضة بين المشاعر البشرية المختلفة، وربما نستحضر هنا رواية «المقامر» لديستويفسكي والتي هيمنت عليها أجواء الطبيعة البشرية التي يحملها كل فرد ينسب وبمقادير معينة، بين تلك الرغبة في المغامرة من جهة بما يتبعها من عواقب مالية ونفسية مختلفة، وبين تلك الرغبة التي تسعى أن يحافظ الفرد فيها على ذلك ويبقى في منطقة الراحة والأمان من الجهة الأخرى.

من جانبه يؤكد الناقد المصري محمد سليم شوشة أن بعض الروايات قد تميل إلى طرح رؤية فلسفية ولكن هذا ليس كثيرا في الرواية العربية، أو ربما يكون هذا هو النادر والاستثناء، ويكاد يكون ذلك مقصورا على أصوات بعينها من الأدباء الأكاديميين المشغولين والمحملين بهموم خاصة وشواغل معينة، ومن هؤلاء الأدباء المغربي محمد المعزوز صاحب رواية «بأي ذنب رحلت»، وكذلك السعودية أميمة الخميس كما نرى في روايتها «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» التي انشغلت بأسئلة وقضايا فلسفية وتاريخية ترتبط بتجربة المعتزلة بوصفهم تيارا فكريا مهما في تاريخ العرب أو مشغولة بفكرة الجمود الفكري والديني والرجعية التي بدأت مع عصور الضعف ومهدت لسقوط العاصمة العباسية بغداد تحت وطأة المغول الذين اجتاحوا العالم الإسلامي..

يتابع شوشة: «من هذه الأصوات الروائية كذلك التي تتجلى لديها أسئلة وقضايا فكرية وفلسفية مثلاً الروائية المصرية منصورة عز الدين في روايتها «بساتين البصرة» المشغولة كذلك ببداية المعتزلة بسؤال حول الرأي في صاحب الخطئية أو توبة القاتل وربما يكون من هذه الأصوات الروائية كذلك محمد آيت حنا من المغرب كما في روايته «الحديقة الحمراء»، وربما يكون العمل الروائي سلسا ويسيرا أو بسيطا لكنه ممتزج في أعماقه برؤية فكرية وفلسفية أو مشغول بأسئلة وقضايا وكليات من تلك التي تنتمي لشواغل الفلسفة ومباحثها، ومثال ذلك رواية «ربيع الغابة» لجمال مطر التي ينشغل فيها بقضايا ترتبط بأصل الخير والشر لدى الإنسان وأسئلة عن أنظمة الحكم وتحولاتها، وهناك روايات تنشغل بالفلسفة بشكل مباشر أو تنصب على حياة بعض الفلاسفة كما نرى في رواية الروائي المصري يوسف زيدان «فردقان» عن حياة ابن سينا وفي كثير من روايات زيدان يبدو مشغولا بالفلسفة ربما لأنها بالأساس ترتبط بتخصصه الأكاديمي، والحقيقة أن الرواية المعرفية أو المتخصصة أحيانا تكاد تكون نزعة عالمية توهجت وازدادت في العقود الأخيرة بعد أن تشبع الفن الروائي من النمط الحكائي التقليدي فكانت النزعة المعرفية رئة جديد لفنون السرد، بل أحيانا ما تكون متحققة في القصة القصيرة كما نراها لدى الأديب المصري القدير محمد المخزنجي».

وهكذا، وبحسب شوشة، فإن الرواية الفلسفية بشكل كامل ربما تكون غير متحققة لدينا في الأدب العربي حتى الوقت الحالي، ولكن لدينا الرواية التي تحمل بداخلها أو في أعماقها جوانب فكرية وفلسفية، وهذا ليس جديدا تماما، فقد كان كثير من روايات نجيب محفوظ مثلا ذات أبعاد فكرية وفلسفية عميقة، وهو بالأساس دارس للفلسفة في بداياته وظل يقرأ فيها ويأخذ منها. وربما إذا ما حدثت تحولات فكرية وثقافية إضافية أو أخرى وجديدة في ثقافتنا العربية فإن هذا قد يسحبنا نحو نمط مختلف من الرواية الفلسفية، ذلك لأن الخطاب الروائي بالأساس إنما يتجاوب مع الحال الثقافية المتحققة في الواقع ويتجاوب مع أوضاع القراء ومستوياتهم الفكرية ومستويات التلقي وإن كان ذلك كله يتم بشكل لاواعٍ.

الكاتب السوداني عمر النعمة أرباب يقول إنه إذا كانت الرواية عبارة فلسفية تمت صياغتها في صورة خيالية كما أشار لذلك ألبير كامو أو كما وصفها بعض المفكرين بأنها ثرثرة، لكنها بلا شك تنتمي إلى براحات الدهشة والرؤية والجدل والخيال والمنطق وتقديم الحجج، لذا لا تنفصم عن الفلسفة بل تتغذى منها وتأخذ بها في رحلتها حتى تصطفيها تماماً في ما يسمى بالرواية الفلسفية. ومن هنا تأتي علاقة السرد السوداني بالفلسفة حيث ينحو الطيب صالح وعيسى الحلو نحو الفلسفة الوجودية بينما يذهب الروائي بشرى الفاضل في روايته «تعيسة» إلى رؤية فلسفية أقرب إلى الفلسفة المادية وتتمدد الرواية السودانية مع عطاء المشرب الفلسفي آخذة منه من الرواد حتى جيل الشباب ويمكن أن نأخذ رواية صباح سنهوري الموسومة بـ«بارادايس» كنموذج لتفلسف الروائيين الشباب حيث غرفت الرواية من نهر يقع بين فلسفة العبث والعدم. ويعلق في نهاية حديثه: «الرواية السودانية بما أنها تجربة حياة فلا بد أن تمضي في سبيل بين الفلسفة و«الثرثرة» لتكتب لنفسها حياة المعنى وتوصل رسالتها سردا وحكيا».

حسن عبد الموجود قاص وصحفي مصري