No Image
عمان الثقافي

كيف تحول المنفى إلى فكرة؟

24 مايو 2023
24 مايو 2023

«كما لو أن أحدهم أغلق الباب خلفي وأبقاني وحيدة في الخارج» تقول الرسامة الإيغورية فيرونيك تادغو في مقالة نشرت في موقع رسالة التابع لمنظمة اليونيسكو في عام 2008 أي قبل أن يغلق أحدهم بابا مشابها خلفي بأربع سنوات؛ ومثل تادغو بقيت وحيدة في الخارج، في فراغ الخارج، الظلام يحيط بي من كل صوب، أحاول أن أتلمس طريقي فأكتشف أنني بعد كل محاولة أعود إلى البداية، إلى الفراغ ذاته، وأن ما عليّ فعله هو محاولات متكررة كي أؤثث هذا الفراغ، كي أستدل على مكاني فيه، كي لا أتوه كلما اكتشفت أن الباب قد أغلق ورائي إلى الأبد.

لم تكن أوروبا خيارا مناسبا لي، هكذا اكتشفت لاحقا؛ حين خرجت من سوريا برفقة ابنتي في نهاية عام 2011 بأمر مباشر وحاسم من السلطات الأمنية السورية، كانت فرنسا هي الوجهة التي قصدها من سبقني من السوريين في الخروج من البلد لأسباب مختلفة. بالنسبة لي كانت فيها أيضا شقيقتي الصغرى، التي تعيش منذ سنوات طويلة هناك، فرنسا كانت الأسرع في استقبال السوريين من بين دول الغرب، (أتساءل الآن عن سبب كل التسهيلات التي وفرتها الدولة الفرنسية للرعيل الأول من الثورة السورية، تسهيلات جعلت معظمنا لا يتردد كثيرا في الخروج من سوريا مع اقتراب خطر الاعتقال أو الخروج من المعتقل أو التهديدات التي كنا نتعرض لها). لهذا كانت هي وجهتي الأولى، المؤقتة، كما ظننا جميعا حين خرجنا من سوريا: سنعود بعد قليل، بعد شهر أو شهرين على الأكثر، لم يتوقع أحد منا أن المدة التي ظنناها قصيرة سوف تمتد لتصبح لا نهائية.

اللغة هي المعادلة الأولى للغربة، كان هذا أول اكتشافاتي عند وصولي إلى فرنسا التي قضيت فيها عدة أشهر قبل انتقالي إلى القاهرة. أنا لست موهوبة في تعلم اللغات، ولم تتح لي فرصة العيش في المجتمع الفرنسي في الفترة التي قضيتها هناك، كنت ببساطة أعيش حياتي مع السوريين، نلتقي كل يوم تقريبا، سوريون قدماء في باريس وسوريون وصلوا منذ أشهر، تجمعنا الثورة ومحاولات متواصلة لفعل شيء ما يمكنه أن يخفف ثقل النجاة الذي كان يرهق أرواحنا ونحن نتابع أخبار الموت اليومي في سوريا. عقدة الناجي أصابتنا جميعا، لم تستثن أحدا منا، عقدة الناجي رافقتنا طيلة السنين الماضية، عاشت معنا كما لو أنها ابنة تربت في أحضاننا وكبرت بيننا ثم رفضت أن تغادرنا. هل ثمة منفى موحش أكثر من تلك الهوة التي تحفرها عقدة الناجي في جوفك؟!

يحدث المنفى حين يتم فصل الشخص عن الأرض التي يعيش عليها، ويتعزز حين يحرم من العودة إليها. أنا فصلت عن مكاني وأرضي ومسقط رأسي ومنعت من العودة إليه، أنا إذا أعيش في المنفى، أو بشكل أدق: أعيش في فكرة المنفى لا في المنفى بحد ذاته. ذلك أنني حين تركت باريس باتجاه القاهرة في منتصف عام 2012، خيّل لي أنني عدت إلى الوطن، إلى حيث يمكنني أن أتبادل الحديث مع غير السوريين من دون أن أتلعثم، من دون أن أخشى ردة الفعل؛ ذلك أن «وطن المرء لغته» حسب ألبير كامو؛ لم أكن أريد أن أنفى مرة ثانية أو أن يغلق الباب ورائي إلى الأبد؛ هذا الوطن (اللغة) متسامح ورحب، لن يتركك عالقا وعاريا في الفراغ حتى لو شتمته أو تجاهلته أو نسيته، سوف يترك لك الباب مواربا؛ حين تعود سوف يترفق بك ويحنو عليك ويحضنك كما يليق بالأوطان العظيمة؛ الأوطان التي لا تعيش فيها هي ذاتها بل تعيش في فكرتك عنها؛ هكذا يبدو الوطن فكرة مقابلة لفكرة المنفى، أو ربما هما وجهان لفكرة واحدة يتعارضان أحيانا، لكن يتلامسان كثيرا في حالتي: امرأة سورية وحيدة في خمسينيتها لا مهنة لديها غير الكتابة عبر اللغة الوحيدة التي تعرفها.

لنتفق أولا أن زمن ما بعد الحداثة التقنية الذي نوجد فيه الآن استطاع أن يجعل من مفهوم المنفى مجرد مصطلح ثقافي يستخدم للتعبير عن أزمة الهوية التي أصبحت كما لو أنها الأزمة التي تميز عصرنا الحالي؛ ثقافيا، يمكننا أن نكون في منفى لغوي أو في منفى نفسي أو في منفى روحي أو في منفى جسدي (يتحدث عنه المثليون والعابرون جنسيا)، لكن المنفى كما عرفته ذاكرة البشر الجمعية، أي أن تجبر على ترك موطنك لتذهب إلى مكان جديد مجهول لا تعرف فيه أحدا، وينقطع تواصلك مع كل من وما يخصك في موطنك، فهذا لم يعد موجودا مع تقنيات الاتصال الحديثة التي جعلت من العالم، لا قرية صغيرة فقط، بل غرفة واحدة يمكنها أن تجمع من تفرقت سبلهم في أصقاع الأرض. هذه التقنيات غيرت أيضا من مفهوم الاشتياق، قد أشتاق لضم ابنتي التي تعيش في قارة أخرى، لكن حين أراها بعد حين نواصل ما كنا نتحدث عنه قبل لقائنا بيوم واحد، نحن نتواصل يوميا صوتا وصورة، تعرف كلانا تفاصيل يوميات الأخرى، متى استيقظت وماذا ترتدي وما الذي اشترته من السوق وماذا ستطبخ اليوم، من زارها من أصدقائها، كم عدد التجاعيد التي بدأت تظهر في وجهها؟.. إلخ، نفعل هذا يوميا مع كل من نحبهم من الأهل والأصدقاء، عن أي منفى نتحدث إذا وعن أي اشتياق؟! قلت، مازحة، لأصدقائي الذين يعيشون في بلاد وقارات أخرى بعد سهرتين طويلتين متتاليتين عبر تطبيق meeting : أحتاج للابتعاد عنكم قليلا كي أشتاق لكم. لم يستغرب أحد منهم قولي ولم يستهجنه أحد، ذلك أننا نتواصل يوميا تقريبا؛ الشوق يلزمه فراق، فراق كامل لا تعرف به أي شيء عن الآخرين، ويكاد البعد أن يمحي خطوط ملامحهم من ذاكرتك، فتكابد كي لا تفقدها، تلك المكابدة هي الاشتياق، أمّا المنفى فهو انتظار نهاية ما أنت فيه من البعد والشوق بلا جدوى.

لنتفق أيضا أن مدينة مثل القاهرة لا تتيح لأحد رفاهية التفكير في منفاه الشخصي، خصوصا لمن هي مثلي تسكن في ميدان التحرير في وسط القاهرة؛ الزحام الشديد والضجيج مختلف الأصوات يضعانني في قلب الحياة؛ هل من صورة سوريالية أكثر من صورة شاعرة تعيش في الطابق الرابع في عمارة تطل على أكثر شوارع العالم ازدحاما وضجيجا وهي تفكر أن تكتب قصيدة عن العزلة والوحدة؟! لكنني كتبت عن العزلة فعلا، كتبت كثيرا عنها، كما لو أنني منفية حقيقية، لا بمعنى الطرد من الوطن فقط كما حدث معي، بل بمعنى الانقطاع عن الحياة وفقد العالم؛ الحقيقة هي أنني تقمصت حياة المنفي، كما لو أنني ألعب دورا في فيلم ما: أنا طردت من وطني حقا، بمعنى أنني نفيت منه، لكنني أعيش في مكان لا يمكن ولو للحظة أن أشعر فيه أنني غريبة ووحيدة، أنا إذا لست في منفى ولست مهاجرة، عليّ إذا أن أنتبه جيدا إلى ما أنا فيه، لن أعيش في وهم المنفى ومكابدات الغربة، لكن أيضا لا يمكنني الادعاء أنني طبيعية، هذا الاحتكاك بحقيقة وضعي كان يجعلني أنفصل عن مكاني وزمني الواقعيين وأدخل في ذاتي، حيث أكتشف واقعا آخر فيها: امرأة في أول خمسينياتها وجدت نفسها في مجتمع جديد لا تعرف به أحدا، ولا يمكنها العودة إلى وطنها، ولأول مرة في حياتها تعيش وحيدة تماما، تواجه نفسها وتواجه ذاكرتها التي تشوهت من مشاهد الموت اليومي في بلدها، وتتعايش يوميا مع فكرة الخيبة والخسارة، بينما تحاول التغلب على اضطراب هرموناتها ومخاوف التقدم في السن وترهل الجسد والعجز والوحدة. يقولون إن أعذب الشعر أكذبه، وفي الحقيقة هذا قول مراوغ، فما يجرح في الشعر هو صدقه، في الوقت الذي يبنى فيه هذا الصدق على اختلاق عوالم غير موجودة أو غير حقيقية؛ ما فعلته أنا بداية أنني ابتكرت عوالمي الداخلية المتوحشة من فرط الخوف وجعلتها في حالة تماس مع فكرة المنفى، بهذه الطريقة تحول المنفى الذي أجبرت عليه إلى مكان مختار أو منفى طوعي لكن عبر اللغة. هكذا صارت لغتي الجديدة (ما بعد المنفى) هوية وثبوتيات تتيح لي قليلا من حرية الحركة في الوقت الذي بدت فيه أوراقي السورية الرسمية بمثابة التهمة. هكذا أيضا صارت الكتابة وطنا يحتويني بعد أن فقدت وطني الحقيقي.

إعادة النظر في ذاتي والتعرف إليها بعمق لأول مرة كان يلزمه اكتشاف المجتمع الجديد بحيثياته الحقيقية لا بأوهامي أو أفكاري المسبقة عنه؛ حين أتيت إلى القاهرة لم يكن لي فيها إلا معارف قلة؛ لكن خلال سنوات قليلة كان لي عدد لابأس به من الأصدقاء والكثير من المعارف، غير أن شيئا ما كان ناقصا، ذلك أنني بدوت كما لو كنت شخصا زائدا على حيوات الآخرين، الآخرون المرتبطون بالمكان وببعضهم بعضا عبر تاريخ طويل من تشابك العلاقات المركبة والبسيطة، عبر ذاكرة طويلة وقديمة وعميقة ومليئة بالتفاصيل؛ هكذا كان عليّ أن أؤسس ذاكرة جديدة في مصر وأؤثثها بتفاصيل يومية تربطني بالمكان وشخوصه، وبالجغرافيا والزمن اللذين يحكمان المكان وشخوصه؛ كان عليّ أولا أن أخفف ذاكرتي مما كان يثقلها ويرهقني، تفاصيل الموت اليومي، تفاصيل الغضب، تفاصيل الحزن، تفاصيل الخراب، تفاصيل الخيبة، تفاصيل الشعور بالذنب، تفاصيل الصداقات القديمة والمشاريع المتوقفة والعلاقات الفاشلة والاضطرابات النفسية والمجتمعية والسياسية، تفاصيل كل ما حدث منذ أن بدأت بإدراك كتلتي وما يتعلق بها في موطني، كانت الكتابة هي طريقتي للتخفيف من كل تلك التفاصيل المرهقة، أفرغت الكثير من ذاكرتي عبر اللغة، وسعّت فيها لتفاصيل جديدة تعطيني القليل من الأمان في المكان الجديد. القلق منفى والطمأنينة وطن، كنت أوسع في ذاكرتي مكانا لوطن بديل، بينما الوطن القديم ينزاح ليتحول إلى ندبة عميقة وطويلة وشمها في منتصف صدري جراح قلب ماهر أنقذ حياتي، في مصادفة استثنائية لم تكن سوى واحدة من مصادفات عدة مشابهة شكلت رابطا قويا بيني وبين القاهرة يضاف إلى رابط اللغة.

أفكر اليوم بما حدث لي؛ ماذا لو أنني لم أضطر إلى مغادرة سوريا؟ لا أسأل عما كانت ستؤول إليه حياتي، فأنا أدرك جيدا مسارها فيما لو بقيت، وإنما أسأل حول لغتي وحول مخيالي ومواضيعي الشعرية، الباب الذي أغلق خلفي وأبقاني في الخارج كان سببا في التحول الذي طرأ على طريقتي في الشعر وعلى رؤيتي له وفكرتي عنه، كان سببا أيضا في دخول مفردات جديدة إلى قاموسي اللغوي الشعري؛ لو أنني بقيت لكانت لغتي ستتغير أيضا حتما، لكن في اتجاه مختلف تماما عما آلت إليه الآن، أظنني كنت سأكون سوداوية، أكتب عن الموت كما لو أنني فريسته الوحيدة. أفكر أيضا بما كان سيحدث لو أنني اخترت البقاء في أوروبا، ما الذي كان سيختلف في لغتي؟ هل كنت سأكتب بشروط اللجوء؟ هل كنت سأكتب كلاجئة أو منفية قادمة من بلاد الخراب إلى بلاد النور، هل كانت مفردات الحنين والتفجع على الوطن الغائب (بوصفه مكانا ولغة)؟ لو بقيت في أوروبا أظن أنه لم تكن ستتاح لي فرصة التعرف على عمق المجتمع الأوروبي وشخوصه كما حصل لي في مصر، فأنا، كما أخبرتكم، لست موهوبة في اللغات، كنت سأكون منفية حقا، ولاجئة تعيش ضمن دوائر سوريين لاجئين يصيبون بعضهم بعضا بعدوى المنافي وأمراضها.

أنظر حاليا إلى الخلف وأرى الباب المغلق، وأرى خلفه بلدي على حقيقته، أراه بقلب محب وبذاكرة رحبة، لكن بعين ترى الماضي بوضوح وترى الحاضر بحيادية، لكنها ترى المستقبل كما لو كانت العين التي ترى هي عين غريبة، أنظر وأفكر إنني حاليا نتاج اختياري سابقا. لم يكن الخروج من سوريا خيارا شخصيا، بل كان خروجا قسريا، نفي، غير أنني حولت مفردات المنفى إلى فكرة، كي أتمكن من عيش حياتي، وحولت الفكرة إلى لغة كي أتمكن من مواصلة الكتابة. ومع الوقت اخترت أن لا ألتفت كثيرا للخلف كي لا أرى الباب المغلق وكي لا أرى نفسي مرة أخرى في الفراغ وعلي أن أبدأ من جديد؛ متكئة على اللغة بوصفها هي أوراقي الثبوتية وعلى الكتابة بوصفها وطني الوحيد المتبقي لي.

رشا عمران كاتبة وشاعرة سورية تعيش في القاهرة