عمان الثقافي

كُهّانٌ ومعابد

27 أغسطس 2025
27 أغسطس 2025

في غِمار الحياة عمدَ المصريون القُدامى إلى استعمال التعبيرات غير المباشرة في الإشارة إلى مختلف الأحداث؛ ومثال ذلك امتناعهم عن ذِكر التعبير القُحّ الصريح عن الموت، ولعل بعضَ أسبابهم كانت تكمُن في نُشدان الاستتار والروغان من الطاقات السلبية المرتبطة بالموت، أو في الخشْيَة -حالَ الإجهار به- من جلْب الإيذاء، أو لعلها تأتَّت من تجليات سِمةَ الاحتشام التي لازمت الشخصية المصرية القديمة، وقد تكون الأسبابُ مختلفة وبعيدة عن قدرتنا على تصوُّرِها والإحاطة بها. وكذلك عمدوا إلى استعمال الجِناس والتعبيرات ثنائية المعنى أو التي تُوحي بأكثر من معنى، وقد يتبدّى لنا ذلك إلغازاً بحسب ذائقتنا ويصعب علينا استكناهُ مقاصِده الأصلية التي قد يكون من ضمنها مقصدُ الإلماحِ إلى وجودِ صِلاتٍ واقتراناتٍ بين جذور معانٍ متباينة لم تعُد جليَّة ولا مُدرَكة لنا حالياً. ويبدو أنّ بعضاً من شعوب العالَم القديم قد ظلت تنتهج ذلك المسار المصري بعد اضمحلاله وانطفائه في بلاده؛ وشاهد ذلك رواية «الحمار الذهبي» للكاتب الجزائري الروماني، من القرن الثاني الميلادي، «لوكيوس أﭘـوليوس»، الزاخرة في أصلها اللاتيني بمثل هذه التعبيرات متعدِّدة المعاني. من مثالٍ كهذا ندركُ أنّ هنالك في حياة المصريين القُدامى ما يصعبُ علينا أن نفطن إليه حقاً، وأننا نعجزُ عن فهْمِ الكثير إلّا بدعم التخمين والحيلة وإلّا على نحوٍ تقريبيٍّ فيه ما فيه من ثغرات.

ولعل أصعبَ معوقات فهْمِنا الدقيق للحضارات القديمة يتمثّلُ في إسقاط مفاهيمنا ومعتقَداتنا الراهنة عليها، بما في ذلك من تعسُّفٍ وجوْرٍ على الطرفيْن، وبما فيه من غرورٍ يُجيزُ لنا -بلا حقٍ وبلا وجاهةٍ- اعتبارَ مفاهيمِ وخُلاصاتِ عصرنا الراهن هي القياس والمرجعية واعتبارَ أنّنا مالكو الصواب وأصحاب الأهْليّة.

توجد اجتهاداتٌ هنا وهناك تُثابِرُ على تفسير أنماط التعلُّم ومراكمة الخبرات التي كانت لدى الجماعات الحضارية القديمة، وحاول المجتهدون سبْرَ طرائق التفكير القديمة المتآلفة والمتناغمة كُليَّةً مع البديهة الطبيعية، مثلما هو حال الكائنات الحيّة الأخرى على الكوكب الأرضي، بما كان قد أتاح -تلقائياً- لطرائق التفكير القديمة تلك نسقاً راقياً من الخبرات والإدراكات والمعارف المكنونة، وألهمها إعمارَ الفكر والوجدان باتساقٍ مع عناصر الطبيعة. لكن طرائق التفكير الراهِنة الفاقِدة، على وجه العموم، للبديهة الطبيعية والوعي الأصلي الراسخ العميق المتعلِّق بها، يظل دوماً من الصعب عليها القدرة على تَمَثُّلِ ومقاربةِ طرائق التفكير والسلوك القديمة.

في ما يخص شؤون الحضارة المصرية القديمة، يظهر أمران مثيران للالتباس والخلط وسوء الفهمِ ومن ثَم يؤدّيان إلى التضليل والتجهيل، بصرف النظر عمّا وراءهما؛ أولهما هو لقب أو مصطلح "الكهنة" أو "الكُهّان"، بمعنى الوسطاء الدينيين أو الأئمة العقائديين القائمين على تأدية فروضٍ وشعائرَ وطقوسٍ، الذي يُطلَق بلا تحفُّظٍ على الموهوبين والعباقرة من قُدامى المصريين، من الجنسين، المتفرِّغين للدراسة والتأمل والبحث ومراكمة الخبرات وإرساء الحكمة والفلسفة وإذكاء الفنون ورعاية العلوم واستجلاب واستنزال الطاقات الكونية وإنمائها والحفاظ على أُسس الثقافة والمبادئ المصرية، عبر عشرات القرون من السنين. ولقد كان من المؤسف أن تروج في الأدبيات المهتمة بمصر القديمة أفكارٌ شعبوية من قبيل فساد وجشع ومؤامرات وصراعات "الكُهّان" واستغلالهم لبُسطاء الشعب، وهي أفكارٌ مستمدَّة من الإسقاط ومن إلباس علماء وفناني وفلاسفة ومُرشِدي مصر القديمة -بعد إطلاق لقب "الكُهّان" أو "الكهنة" عليهم- ألبسةِ رجالِ دينٍ، بصفاتٍ مُحدثة مشتهَرةٍ وبحمولاتٍ سلبيةٍ ثقيلة. وثانيهما هو مصطلح "المعابد"، الذي يفترض أنّ هنالك "عابدون" و"معبود أو معبودات" و"عبادة" بطقوسٍ ومراسيم إلخ، وإطلاق ذلك المصطلح على العمائر المصرية الهائلة القديمة المعروفة، التي كان يجدر التفكير بأنها هي الأماكن الخاصة التي هيَّأها المصريون القُدامى لأجل دراسة أعلى وأرقى مستويات العلوم والتفنُّن والتفلسُف والإبداع ولأجل استجلاب الطاقات الكونية وتفعيلها وإحداث التوازن بينها وتمكين أفضل استفادة منها.

وبطبيعة الحال فإن مصطلح "كهنة/كُهّان" ومصطلح "معبد" يوجِّهان التفكيرَ حتماً إلى مجالٍ محدّد وسِياقٍ معيّن من اهتماماتنا المعاصرة، ويربطانه تلقائياً بمفاهيم عقائدية ومضامين دينية وحمولة ثقافية مكتسَبة من الثقافات التي راجت بعد اضمحلال الحضارة المصرية، وقد جرى إسقاط هذين المصطلحيْن بمتعلقاتهما وحمولاتهما المستجَدَّة على دوالٍ أساسية في الحضارة المصرية القديمة، لا علاقة لها بهذه المفاهيم والمضامين والحمولات المعاصرة، مما أدّى ويؤدّي إلى إساءة فهمها بل إلى استغلاقها وطمْسها.

أعتقدُ أنّ فكرة الرهبنة وحياة الرهبنة في مصر بعد دخول الدين المسيحي إليها، التي ابتدعها الرُّهبانُ القَبَطُ، بمقدورها أن تتيحَ لنا شيئاً من المعرفة بحقيقة "الكهنة/الكُهّان" وتُلهمنا كشفاً عن حقيقة "المعبد/المعابد" في العصور المصرية الأقدم؛ ذلك أنّ نظام الرهبنة منذ نشوئه في مصر المسيحية كان مسموحاً به للذكور وللعذارى من الإناث، وكان يُشترط في مَن يتقدّم للدخول في الرهبنة أن يكون عارفاً بالقراءة والكتابة، بما يُثيرُ التساؤلُ: ما ضرورة القراءة والكتابة للرهُبان وفيم سوف يستعملون مهاراتها إذا كان مقصدُهم هو العزمُ على الانقطاع في المعازل والسُّبات عن مجريات الدنيا والتفرّغ للمشاغل الشخصية الروحيّة! وفي أديرة الرهبان والراهبات المصرية تحدّثت المراجعُ والوثائق، مثلما يكشف ذلك نظامُ الرهبنة الذي أقرَّهُ ورعاهُ منذ القرن الرابع الميلادي «رئيس المتوحِّدين، الأنبا شنودة الأخميمي» الـمُسمَّى بـ«أبو القبَط» و«أبو المصريين»، ومثلما يُخبِر به كتابُ «تاريخ الرهبنة والديرية في مصر وآثارها الإنسانية على العالم»، لمؤلِّفه «رءوف حبيب»، عن ازدهار الفنون والعلوم والطبابة والمداواة والاختراعات وتطوُّر مهارات النجارة والنسج وصياغة المعادن وصناعة الورق؛ فتنوّعت -مثلاً- في أديرة أولئك الرهبان والراهبات أصنافُ أوراق البردي المبتكرة وازدهرت الموسيقى والزخرفة والرسم والنحت وكذلك ارتقت علوم الحساب والكيميا والطب وتعزَّزت عمارة الأديرة الحصينة.

هكذا كانت أديرةُ الرهبان وأديرة الراهبات، في البواكير المسيحية بمصر، مَعازِلَ يحيا فيها أهلُ صبرٍ ومثابَرة ومروءة، وخلايا غيرَ منكفئةٍ عن العمل الدنيوي وإعمار الحياة، بل مَعاهِدَ نَشِطةً متفرِّغةً للأبحاث والإبداع ولشؤون العلم والمعرفة. ولعلها، بمزاولتها هذه الأنشطة وغيرها، كانت تُمدِّدُ وتُقلِّد وتستعيدُ وتُحيي المؤسساتِ المصرية الأقدم التي صارت مشتهرة -في تجاوزٍ- باسم "معابد". ولعل تصويب الأمر، جزئيّاً ومؤقتاً، يتأتّى بإحلال مصطلح "راهب عِلم/رُهبان عِلم" محل مصطلح "كاهن/كهنة/كُهّان" الشائع في الكتابات عن الحضارة المصرية القديمة، فيمكن عندئذٍ الإيفاءُ -نوعاً ما- بالمعنى والجوهر اللذين يتلائم معهما حالُ وطبيعةُ عمل ووظائف عُلماء وفناني وفلاسفة ومُرشدي العصور الحضارية في مصر القديمة الذين كانوا هم رُهبان وراهبات الحضارة المصرية على مدى عشرات القرون. ولعل مصطلح "مدارس" أو "معاهِد" -الذي ليس من خصائصه ولا مدلولاته إقامة شعائرَ "عِبادة" إنّما درْس فروضٍ عِلمية بطقوسٍ عَمليّة متكاملة- يكون هو الأنسب مؤقتاً كبديلٍ عن مصطلح "المعابد". وتلك المدارس لم تكن مُتاحة لارتياد العوام، على عكس أحوال الرحبات والأمكنة الدينية، بل إنّ أجزاءً منها حُظِر دخولُها إلّا على شخصٍ واحد أو على قِلةٍ محدودة من صفوة العلماء والفنانين وِفق نظامٍ صارم وتراتُبٍ محترم. طوال حِقب الحضارة المصرية القديمة ارتأى العارفون فيها والعالِمون والقائمون على أدقّ أمورها أنّ المعارفَ نوعياتٌ ودرجاتٌ ومراتب وأنّ كلَّ أسرارها ليست مُستحَقّة للجميع، وكان من الحصافة إخفاء ما يتوجَّب إخفاؤه منها عن غير أهله.

لا يُستبعَد، بإمعان البحث، أن تكشفَ تفاصيلُ أبنية كل "مدرسة" عن كوْنِها -بنفسها، وفي نفسها- أدواتٍ ومَعامِلَ ووسائلَ لتأدية الوظائف التي لأجلها أُقيمت على النحو الذي شُيِّدت به إجمالاً وتفصيلاً. أعمدةُ المدارس باختلافاتها، وتيجان الأعمدة، والنقوش، والتماثيل، والأَسقف، والأبهاء، والمقاصير، والأروقة، والساحات، والأفنية، والأسطُح، والدرج، والبوّابات، كلها ليست للزينة ولا للاستعراض ولم تكن اختياراً من ضمن اختيارات؛ إنّما كان كلٌّ منها، بمشتملاته كافةً، ضرورةً متفرِّدةً من أجل غايةٍ سامية مُحدَّدة لسلامة ورفاهية مصر ولأجل تجسيد مبدأٍ فلسفيٍّ مستقر في الثقافة المصرية القديمة التي لم تكن خالية من ماورائياتها، غير أنها كانت ماورائيات مختلفة عن سَمِيَّاتِها اللاحِقة.

دوامُ الحالة الحضارية لقرون متتالية ولألفيات من السنين اشترطَ، بحزمٍ، اتقاءَ سُبُل الانتكاس والتدهور، واستلزمَ ما هو ليس بأقل من استتباب نظامٍ متعافٍ، إلى أقصى حد، من الفساد والجشع والمؤامرات والصراعات على كل الأصعدة، مع التوَثُّب الدائم نحو المزيد من الاكتمال والنضج والرشاد الإنساني الذي يقوده، جيلاً بعد جيل، بجدراة وكفاءة، مُعلِّمون أمناء حُرّاسٌ متنوِّرون منوِّرون خُلصاء آنَ لهم أنْ تُخلَّص صورتُهم مما ألحقه بها الأخيرون من إقلالٍ وإزراءٍ وتشويه.

(6 مارس 2025 - القاهرة ، عابدين)