عمان الثقافي

«كليلة ودمنة».. ثقافة تجاوزت الحدود

25 يونيو 2023
25 يونيو 2023

في عام 1941م أعادت دار المعارف المصرية نشر كتاب «كليلة ودمنة» وهو عمل علمي فريد يُعد أنموذجًا للتراث العربي والعالمي، ومنذ أن ترجمه عبد الله بن المقفع (724 م ـ 759 م) في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) عن اللغة الفارسية فضلا عن اللغة الفهلوية التي كُتب بها هذا الكتاب، وقد فُقد النص الفهلوي وهو ما أوقع الباحثين ونقاد الأدب والمؤرخين في حيرة شديدة وخصوصًا بعد أن عُني به المؤرخون من مختلف دول العالم، وقد تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية أكثر من مرة وعُني به الأستاذ جيمس هنري برستد James Henry Breasted الأستاذ بجامعة شيكاغو معتمدًا على النصوص العربية، كما كتب الأستاذ سبرنجلين Sprengling أستاذ اللغات السامية بذات الجامعة مقالا 1924م مطالبًا زملاءه بدراسة النص العربي للكتاب اعتمادًا على نصوص عديدة جُمعت من كل أنحاء العالم بما فيها النصوص العربية والفارسية والهندية بعد أن فُقد الأصل المكتوب باللغة الفهلوية. وبينما كان العالم يموج بصراعات خلال الحرب العالمية الثانية أقدم الأستاذان الكبيران طه حسين، وعبد الوهاب عزام على دراسة وتحقيق هذا العمل العلمي الفريد الذي تكفلت بنشره دار المعارف المصرية (1941م) بعد أن شعر الأستاذان بأن كل ما نُشر من مطبوعات بمختلف لغات العالم عن هذا الكتاب لا تحظى بثقة القارئ والناقد معًا، فقد طُبع الكتاب لأول مرة في باريس عام 1816م بمعرفة المستشرق الفرنسي دي ساسي de Sacy اعتمادًا على العديد من النسخ المطبوعة بكل اللغات لكن جميعها قد اعتراها العوار لهذا لم يثق فيها المحققون والنقاد، وقد اعتمدت مطبعة بولاق على هذه الطبعات وقد نُشر مرتين في القاهرة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، وفي الطبعتين تم الاعتماد على ترجمة «دي ساسي» التي اكتسبت شهرة كبيرة بعد أن أجازها الشيخ حسن العطار (شيخ الأزهر) والذي قال عنها: «لا يوجد لها مثال بين كل الترجمات»، بعدها طُبع الكتاب عدة طبعات في مصر وجميعها تكرار لما طبعته مطبعة بولاق. حظي الكتاب باهتمام مؤرخي الأدب ونقاده في الشام ومن بينهم خليل اليازجي الذي نشر الكتاب اعتمادًا على نسخة مكتوبة من ثلاثمائة سنة (على حد قوله) وطابق بينها وبين النسخ المطبوعة في مصر وغيرها، فضلا عن طبعة المستشرق دي ساسي وحاول التوفيق بين كل هذه النسخ، وتصويب ما وقع فيها من أخطاء، كما نشر أحمد حسن طُبارة طبعة أخرى يقول إنه عثر على أصل لها عام 1675م وحاول مطابقتها مع طبعة باريس 1816م، وطبعة مصر 1879م، واختار أقربها إلى الأصل إلا أن المحققين (طه حسين وعبد الوهاب عزام) قد قالا عنها بأنها طبعة ملفقة من نسخ مختلفة تصرَف فيها الناشر بما أضاع قيمتها التاريخية والأدبية.

لعل أهم نص أقرب إلى الصواب هو النص الذي نشره الأب لويس شيخو ( 1859 – 1927م) والذي قال بأنه وجده مخطوطًا وقد عثر عليه في أحد الأديرة في لبنان 1338م وقد رأى فيه شبهًا كبيرًا بأسلوب ابن المقفع، وأنه أقرب في محتواه إلى النص الهندي المنقول من السريانية والذي نُقل عن اللغة الفهلوية التي هي أصل الكتاب، وقد طبع الأب شيخو هذا النص بكل أخطائه اللغوية، وتعد هذه الطبعة أول ترجمة عربية تقدم نصًا غير ملفق من كتاب «كليلة ودمنة»، وتحفز الباحثون والنقاد إلى معرفة المزيد عن أصل الكتاب المترجم من الفهلوية على حد تعبير الأستاذ عبد الوهاب عزام.

أما الطبعة التي حققها ودرسها طه حسين وعبد الوهاب عزام التي أقدما على نشرها 1941م بعد أن وجدا في كل ما طُبع من كتاب «كليلة ودمنة» من عوار لا يُطمئن القارئ والناقد. وقد توصلا إلى أقدم نسخة من الكتاب في مكتبة آيا صوفيا بأسطنبول مكتوبة عام 1221م، وقد أقرّا بأنها أقدم من كل النسخ التي اعتمد عليها المستشرقون والعرب، ولم يكن القدم فقط سببًا لاختيار هذه النسخة كما قال المحققان، بل هي القرب إلى المعاني الأدبية، والبلاغية، والتاريخية لكتابات ابن المقفع، وعنوان النسخة: «كليلة ودمنة مما وضعه علماء الهند على لسان الطير والوحوش وغير ذلك في الحكم والأمثال»، وكُتب في نهاية المخطوط: «تم الكتاب بعون الله وتوفيقه، وتم الفراغ منه في مستهل جمادى الآخر سنة 618هـ (1221م) لكاتبه الفقير إلى الله عبد الله بن محمد العامري»، بعدها يُنهي الكاتب كتابه ببيتين من الشعر لم يُعرف قائلهما:

نال غيري وهو دوني وصالها

وأصبح ذكري عندها غير نافق

فكم بيدق للشاه أصحب قاهرًا

ولا زال قدر الشاه فوق البيادق

والظاهر من صفحتي العنوان والخاتمة أنَّ صاحب النُّسخة اسمه محمد بن الحجافي وأن كاتبها عبد الله بن محمد العامري، وأنه كاتب من عوام الناس، لا يُجيد قواعد اللغة العربية ولا رسم الحروف، لهذا ورد في هذه النسخة الكثير من الأخطاء، ورغم ذلك فهي تفضُل كل النسخ المطبوعة، فقد تضمنت جملاً طويلة، وأسلوبًا شائقًا عُرف به ابن المقفع، كما احتوى النص على جُمل يظهر فيها أثر الأسلوب الفارسي كما جاء في هذا النص أسماء المدن والأشخاص التي لم ترد في النسخ الأخرى، وقد حُذفت هذه السماء من النسخ الأخرى لأعجميتها اختصارًا وتخفيفًا على القراء، كما أن هذا النص يحتوي على أمثلة من كتب عربية قديمة من قبيل: «عيون الأخبار» لابن قتيبة الدينوري (ت: 889م)، كما احتوى الكتاب على الكثير مما جاء في كتب عربية أخرى كثيرة. ويذهب المحققان إلى الغوص في كثير من كتب التراث بهدف الوصول إلى أوجه الاتفاق أو الاختلاف بين كل النسخ التي طُبعت باللغة العربية من كتاب: «كليلة ودمنة».

كليلة ودمنة – كتاب هندي:

ورد في قول ابن خلكان (ت: 1282م) أن ابن المقفع هو الذي وضع هذا الكتاب، وقيل أن مؤلفه من أصل فارسي، نُقل بعده إلى العربية. ويتفقا (طه حسين وعبد الوهاب عزام) على أن الكتاب هندي الأصل وقد تحققا من ذلك مما كتبه أبو الريحان البيروني (ت: 1048م) في كتابه الشهير «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» ويضيف: «وددت لو ترجمت كتاب بنج تنترا» وهو المعروف بكتاب كليلة ودمنة، ويتفق المحققان على أن الكتاب قد تُرجم من الهندية إلى الفهلوية بعدها تُرجم إلى العربية في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) وقد عرفه العرب بعد أن تُرجم إلى الفارسية، بعدها نقله إلى العربية عبد الله بن المقفع كاتب أبو جعفر المنصور العباسي (‏754- ‏775م)، بعدها لم يُعثر على أصل النص الفهلوي لكن كان قد تم نقله إلى الفارسية، ثم نقله من الفارسية إلى اللغة العربية عبد الله بن هلال الأهوازي عام 165هـ ( 781م) خلال خلافة المهدي ( 775 – 785م).

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تُرجم الكتاب أكثر من مرة؟ ترجمه ابن المقفع، ثم ترجمه عبد الله الأهوازي، ثم سهل بن نوبخت، ثم ابن الهبَارية، كما تم ترجمته من العربية إلى الفارسية أيام الساسانيين، ثم ترجمه نصر الله بن عبد الحميد في عصر الدولة الغزنوية. كما نُظم بالفارسية أكثر من مرة فضلاً عن ترجمة الكتاب إلى معظم اللغات الأوروبية بعد أن حظي بعناية فائقة من الأدباء والكتاب والمؤرخين ونقاد الأدب على اعتبار أنه تراث إنساني فريد يجمع ما بين الوقائع التاريخية والخبرات الإنسانية، والكثير من التُرف والقصص الذي كان جديدًا ومبتكرًا في هذا العصر، لذا تدخل المترجمون بالحذف أو الإضافة لأن جميعهم لم يطلع على النص الأصلي للكتاب وهو ما يفسر التباين الواضح بين ترجمة وأخرى، وقد سُمي كتاب «كليلة ودمنة» باسم «ابني آوى» وهما محور كل القصص التي وردت في الكتاب.

يُعد هذا الكتاب من أهم ما خلفه التراث الإنساني من قصص وحكايات تأتي في معظمها على ألسنة الطيور والحيوانات كالحمامة والثعلب، ويقع الكتاب في إحدى وعشرين بابًا بينما قال البعض بأنه لم يتجاوز الستة عشر بابًا وأن الاختلاف بين عدد الأبواب هو اختلاف بين المترجمين الذين استهوتهم حكايات الكتاب من قبيل الأسد والثور والحمامة والبوم والغربان والقرود والسلحفاة، ويتفق نقاد الأدب على أن النسخة العربية التي كتبها عبد الله بن المقفع هي الأقرب إلى النص الأصلي وهي أجملها قَصَصًا، وأكثرها مواعظ وعبرًا، وأطولها حوارًا وأعظمها متعة. ويبدو أن المحققين (طه حسين وعبد الوهاب عزام) قد أقدما على تحقيق ونشر «كليلة ودمنة « حينما شعرا بأن كل النسخ المكتوبة بالعربية قد وقع كاتبوها في أخطاء، من هنا جاءت فكرة تحقيق هذا الكتاب، وقد رجعا إلى كل ما كُتب عنه من ترجمات عربية وإنجليزية وفرنسية بهدف الوصول إلى روح النص الأصلي وهو جهد شاركتهما فيه المؤسسة الناشرة (دار المعارف) في وقت كان العالم برمته يموج في صراعات دموية (الحرب العالمية الثانية)، ولعلهما قد وجدا من الوقت لكي يذهبا بعيدًا إلى هذا العالم الفسيح الممتع من خلال القصص والحكايات الرائعة التي وردت في هذا الكتاب الذي كُتب في القرن الثاني من الهجرة (الثامن الميلادي)، وقد تلقاه المترجمون ونقاد الأدب بكل اهتمام، وهو النص الوحيد الذي اقترب كثيرًا من النص الأصلي الذي ابتلعه النسيان ولم يُعثر له على أثر فضلاً عن روح ابن المقفع وأسلوبه الشائق وهو يسرد حكايات الكتاب بشكل ممتع أبهر النقاد والقراء من مختلف ثقافات العالم، ولعل من اللائق أن نقدم الشكر لدار المعارف المصرية وهي تعيد نشر هذا الكتاب الذي قدم له طه حسين بمقدمة بليغة عند نشره عام 1941م، وقد قال مقولته التي لخصت أهمية هذا الكتاب قائلاً: «أظن أنني لا أتجاوز إرادة القراء إذا أهديت إلى مطبعة المعارف ومكتبتها وإلى الدكتور عبد الوهاب عزام تحية ملؤها التقدير والإعجاب والأمل».