5464
5464
عمان الثقافي

كرة القدم: لعبة سلام ومحبة؟ أم لعبة كراهية وحروب؟ تأملات في علاقة كرة القدم بالأدب

27 أبريل 2022
27 أبريل 2022

في الثاني من يوليو 1994 استقرت ست رصاصات في جسد لاعب كرة القدم الكولومبي إندريس إسكوبار، أودت بحياته في أقل من نصف ساعة، لتسجل واحدة من أبشع الجرائم التي تسببت فيها كرة القدم. بعد ثلاث سنوات، وتحديدًا في منتصف 1997 نجا عضو الكونجرس المكسيكي فيكتور كوينتانا من الموت بأعجوبة، والسبب أيضا – كما سأسرد بعد قليل- كرة القدم.

هاتان إذن صورتان متضادتان عن هذه اللعبة العجيبة التي لَمْ تُسَمَّ «الساحرة المستديرة» من فراغ. سيظل الجدل والتمزق بين هاتين الصورتين طويلًا ما بقيتْ اللعبة، وما بقي عشاقها وكارهوها. ولن يتسنى قولٌ فصل في كرة القدم، هل هي لعبة سلام ومحبة أم أنها لعبة كراهية وشقاق وحروب؟.

متابعو مونديال أمريكا عام 1994 يعرفون أن إسكوبار كان سيئ الحظ أكثر منه سيئ اللعب، وأن سبب اغتياله الغادِر ذاك هو هدف سجله بالخطأ في مرماه في مباراة كولومبيا مع الولايات المتحدة، مما أغضب مشجعي بلاده المتعصبين، إذ ساهم هدفه غير المقصود في إخراج كولومبيا مذمومة مدحورة من الدور الأول للمونديال، وهي التي كانت تمني النفس بالفوز بكأس العالم، خصوصًا بعد أن هَزمت مارادونا ورفاقه في التصفيات مرتين، إحداهما بخمسة أهداف نظيفة، ورشّحها بيليه – اللاعب البرازيلي الأشهر- للفوز بالمونديال، وهكذا فعل أيضًا جابرييل جارثيا ماركيز، ابنها البارّ وأديبها الكبير، الذي راهن بشدة على هذا الفوز، فصار من أبرز المُحبَطين، ثم المنددين باغتيال اللاعب المغدور.

قبل الطلقات الست التي أردت اللاعب الكولومبي بنصف قرن، كتب الروائي البريطاني جورج أورويل أن مباراةً في كرة القدم هي «حرب بغير طلقات»(1). كان أورويل يتحدث عن الرياضة بشكل عام، بمناسبة انتهاء جولة رياضية لفريق دينامو موسكو السوفييتي في بريطانيا، لعب فيها أمام أكثر من ربع مليون متفرج أربع مباريات كرة قدم مع فرق إنجليزية دون أن يخسر أيًّا من هذه المباريات، (فاز في مباراتين وتعادل في اثنتين) وهو الأمر الذي لم يرُقْ للمشجعين الإنجليز طبعا. يقول أورويل: «دائما ما أُذهل حين أسمع الناس يقولون إن الرياضة تبث الصداقة والمودة بين الأمم، وإن عامة شعوب العالم لو يلتقون في مباراة كرة قدم أو كريكت لما مالوا إلى اللقاء في ساحة المعركة»(2). على النقيض من ذلك يؤكد أورويل أن «الرياضة على المستوى الدولي محاكاة صريحة للحرب. لكن سلوك اللاعبين ليس الأهم، بل موقف المشجعين، ومن ورائهم الأمم التي تُجهد أعصابها حتى تتأجج غضبًا بسبب هذه المنافسات العبثية، وتؤمن بصدق – ولو لفترة قصيرة – أن في الركض والقفز وركل الكرة امتحانًا لوطنيتهم(3)».!

يشارك أورويل في هذه الرؤية الروائيُّ الأمريكي بول أوستر الذي يرى أن كرة القدم هي «بديلٌ عن سفك الدماء»(4) وأن «الدول اليوم تخوض حروبها في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون سراويل قصيرة. ورغم أنه يفترض أن هذه لعبة، وأن المتعة هي هدفها، غير أن الذكريات المرعبة لعداوات الماضي تخيِّم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة»(5).

ضرب أوستر أمثلة بمباريات هي أشبه ما يسمى بالـ«ديربي» بين هولندا وإسبانيا، وبين إنجلترا وفرنسا، وبين بولندا وألمانيا، ربما لأن مقالته تركّز على أوروبا، غير أنني أرى أن عبارته تلك تنطبق أكثر ما تنطبق على مباراة إنجلترا والأرجنتين في مونديال 1986 بالمكسيك، تلك التي سجل فيها مارادونا هدفه الشهير الذي لا يزال يثير جدلًا إلى اليوم، لأن يده التي أودعته شباك الحارس بيتر شيلتون في غفلة من حَكَمٍ عربي كانت «يدًا إلهية» على حد قوله. ولأنه «في الأرجنتين غالبا ما تهدف الانتصارات على أرض الملعب إلى معادلة الكارثة الناجمة عن إطلاق الرصاص أو التقليل من صدى صوته» على حد تعبير أندريس نيومان في روايته «الأرجنتين ياما كان» فإن الأرجنتينيين لم ينظروا لتلك المباراة على أنها مباراة كرة قدم وحسب، وإنما انتصار تعويضي في حرب فوكلاند التي سبق أن خسروها أمام بريطانيا قبل هذه المباراة بأربع سنوات، وإضافة إلى نيومان فقد جسد هذه النظرة أدبيًا الأديب أوسبالدو سوريانو في قصته التي تنتصر «لمارادونا لا لغالتييري»(6)، لأن الأول هو صانع النصر الكروي على إنجلترا الذي محا به هزيمة عسكرية وسياسية نكراء تسبب فيها الثاني (ليوبولدو غالتييري رئيس الأرجنتين سنتئذ) بمغامرته غير المحسوبة.

نفهم إذن لماذا سيبقى الأرجنتينيون يلهجون بهذا النصر لسنين طويلة بعد المباراة، ولماذا سيظل الإنجليز يبكون هذه الهزيمة، ولا تستطيع صحفهم نسيانها حتى وهي تغطي خبر وفاة مارادونا بعد أربع وثلاثين سنة(7). ببساطة؛ لأن كلا الطرفين كان معبأً بما هو أكثر من متعة اللعب. أما بقية العالم ممن شاهد المباراة بشكل اعتيادي دون أن يكون رهينة لأية خلفيات سياسية أو تاريخية مسبقة، أولئك الذين صفقوا لهدف مارادونا الثاني في المباراة نفسها، والذي محا به خطيئة هدفه الأول المسروق، فمن الطبيعي أن ينتهي انشغالهم بالمباراة فور انتهائها، أو بعد انتهائها بقليل، إلى أن يتسنى لهم مشاهدة مباراة أخرى تضاهيها في المتعة. إنهم لن يهدروا وقتهم الثمين في الانشغال بهدف مارادونا اليدوي أو خطأ الحكم التونسي، لأن لديهم مشاغل حياتية أهم. وهذه هي النقطة التي استند إليها أمبرتو إيكو الأديب والفيلسوف الإيطالي المعروف في هجومه على كرة القدم، إذْ رأى أننا نبدد بالانشغال المبالغ فيه بمباريات الكرة طاقات، كان يجدر بنا توظيفها في مناقشة مشاكل المجتمع: كيفية إدارة الاقتصاد، أو محاربة الإرهاب، على سبيل المثال، «إنها حقا طريقة ماكرة لصرف الناس عن الحياة الاجتماعية والسياسية» هكذا لخص إيكو الأمر(8). وهو رأي يكتسب وجاهة عند مؤيدي هذه النظرة إذا ما علمنا أن السياسيين برعوا في توظيف هذه اللعبة الشعبية لإلهاء شعوبهم وصرفهم عن قضاياهم الأهم. ”ينبغي الاهتمام بهذه الرياضة التي تجمع حولها كل هذه الملايين من الناس”، هكذا انتبه ماو تسي تونج الزعيم الاشتراكي الصيني وعشرات غيره من السياسيين لأهمية هذه اللعبة. سلفيو برلسكوني الإيطالي دخل السياسة من بوابتها الواسعة: كرة القدم، عندما اشتري نادي أي سي ميلان وحوله إلى ناد ثري ومنافس استطاع أن يجذب ملايين الإيطاليين الذين سينتخبون برلسكوني بعد ذلك رئيسًا لوزراء إيطاليا. وفي النمسا لم يجد يورج هايدر الزعيم اليميني المتطرف طريقة أفضل لتحسين صورته أمام الناس من شرائه نادي كارنثن. وفي ثلاثينيات القرن الماضي كان الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني يحرص على التقاط الصور مع منتخب كرة القدم الإيطالي، أبطال العالم في عامي 1934 و1938. لقد وظف السياسيون الذين يملكون السلطة والنفوذ إذن كرة القدم لمآربهم السياسية، هكذا يؤكد الأدباء في تبرير هجومهم على اللعبة الشعبية الأولى في العالم، وهكذا يفسرون الاهتمام باللاعب الذي يفكّر بقدمه – حسب توفيق الحكيم- أكثر بكثير من الأديب الذي يفكّر بقلمه. ومن هنا جاءت صرخة الصحفي المخضرم عامر وجدي في رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ: «أيها الأنذال، أيها اللوطيون، ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟!»(9). وإذا كان هذا الأمر صحيحًا في انطباقه على سياسيين عالميين كثر، إلا أن هؤلاء الأدباء لا يستطيعون إنكار أن هناك طائفة أخرى من السياسيين عرفت أهمية الأديب بنفس درجة معرفتها أهمية اللاعب، وأنها في مساعيها لاستضافة بلدانها كأس العالم - أهم تظاهرة احتفالية تجعل الوطن محط أنظار الكرة الأرضية بأسرها- استعانت بالأدباء أيضًا جنبًا إلى جنب مع لاعبي الكرة. فرأينا الأديب البرازيلي باولو كويلو في الميزان نفسه مع روماريو اللاعب الشهير، في قائمة الشخصيات البارزة التي تستعرض ملف استضافة البرازيل لكأس العالم 2014. ورأينا غونتر غراس الأديب الألماني الفائز بنوبل يروّج لمونديال بلاده عام 2006 بطريقة مبتكرة؛ إذ قرأ مجموعة من قصائده في ملعب كرة قدم هو ستاد «ميلرنتر»، وكما لو أنه في مباراة كروية قسم أشعاره في الجلسة إلى جزأين، قرأ كلّا منهما في 45 دقيقة، وفصل بين الجزأين باستراحة استمرت 15 دقيقة!.

وبالعودة إلى أورويل نذكّر أنه مات عام 1950، أي أنه لم يعش حتى عام 1969 وإلا لشاهد بأم عينه تجسيد ما كتبه في حرب ضروس – حقيقية، وبطلقات هذه المرة- بين دولتين جارتين هما السلفادور وهندوراس، وهي الحرب التي سميتْ – للمفارقة - «حرب كرة القدم»!، لأن مباراة كرة بين الدولتين كانت الفتيل الذي أشعلها. ومن الجيد أن نذكِّر «مُرَمْنِسي» هذه اللعبة طاغية الشعبية أن ما تُسمّى «لعبة السلام» هذه تسببت – خلال هذه الحرب القصيرة التي لم تزد على أربعة أيام- في إزهاق ثلاثة آلاف روح على الأقل! كان ذلك قبل ربع قرن بالتمام والكمال من موت إسكوبار الذي أضيفت روحه إلى هذه الأرواح. ولا أدري ما الذي دار في خلد ذلك المسكين في تلك النصف ساعة البرزخية بين الرصاصات الست والموت. هل كان يتأمل شريط حياته القصيرة؟ هل كان يحلم بكرة القدم؟ أم تُراه كان يفكّر في القاتل الذي حرص أن يهتف بعد كل رصاصة يطلقها: «هدف»!. القاتل ورفاقه الذين شاركوه الجريمة سيتضح لاحقًا بعد التحقيقات أنهم ينتمون إلى عصابات المخدرات التي خسرت كثيرًا في المراهنات بسبب هدف إسكوبار. لم يكن الهوس بالكرة إذن حكرًا على اللاعبين أو السياسيين أو الناس البسطاء. بل حتى المجرمين والإرهابيين ومن في حكمهم كانوا يحلمون بالكرة.

ليس فقط قتلة إسكوبار في مثالنا هذا، بل أشهر من حمل وصمة «إرهابي» في العالم شخصيًّا. «ففي شريط فيديو أفرجت عنه وزارة الدفاع الأمريكية في شهر ديسمبر 2001 لابن لادن وهو يتبادل أطراف الحديث مع شيخ غريب عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تطرق الحديث إلى كرة القدم مرتين. الأولى يتذكر فيها ما ذكره له واحدٌ من أنصاره قبل عام من أنه «شاهدتُ في منامي أننا كنا نلعب مباراة لكرة القدم ضد الأمريكيين. وعندما ظهر فريقنا في الملعب، كانوا كلهم من الطيارين». وقد فازت القاعدة في المباراة»(10). نحن نعرف أيضًا أن أسامة بن لادن نفسه يكتب الشعر، هذا على الأقل ما رأيناه في شاشة الجزيرة. ولستُ هنا بصدد البتّ في ما إذا كان شاعرًا معترَفًا به أم مجرد موصوم بالإرهاب يقرض الشعر، ولكني أذكُر هذه المعلومة فقط لأربطها بالحُلم الذي سرده. فها هو شاعر آخر – معترَفٌ به هذه المرة، بدليل أنه فاز بجائزة نوبل في الأدب- هو الإيطالي أوجينيو مونتاليه يضع الحُلم شرطًا لتصالحه مع كرة القدم: «أحلم بيوم لا يسجل فيه أحدٌ هدفًا في العالم كله»!. مباراة بلا أهداف ستعني أن إسكوبار لن يرتكب ما يجعله يستحق القتل من وجهة نظر متعصبي بلاده. وربما كان لا يزال بيننا اليوم في منتصف الخمسينيات من عمره يدرب نادي ميديلين الكولومبي، أو يحلل المباريات في قناة بي إن سبورت. لكن أليست متعة هذه اللعبة في تسجيل الأهداف؟.

ألن تفقد كرة القدم متعتها هنا بسبب شطحات خيال شاعر!. ألن يقال في هذه الحالة إن الأدب قَتَل كرة القدم؟!.

هذا التساؤل الأخير يعيدنا إلى عضو الكونجرس المكسيكي الذي أنقذته الكرة من الموت. في الحقيقة ليست هي ما أنقذه، وإنما الأدب، كما سنقرأ من سرد إدواردو غاليانو: «في منتصف عام 1997 تم اختطافه من قبل قتلة مأجورين، استُؤجِروا لمعاقبته على كشفه بعض الأعمال القذرة، فكان أن طرحوه أرضًا وأوثقوا رباطه، وراحوا يركلونه حتى شارف على الموت، وقبل أن يُجهِزوا عليه برصاصة، بدأوا النقاش حول كرة القدم. ورغم أن فكتور كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، فقد أدلى بدلوه في النقاش»(11). وانبرى يروي لهم قصصا من كتاب كان قد قرأه منذ فترة ليست بالطويلة. وكما حدث مع شهرزاد التي أجلت موتها بالحكايات حتى نجت في النهاية، فإنه «مع كل حكاية من تلك الصفحات كانت ثمة دقائق تُضاف إلى حياته. مر الوقت، والقصص تجيء وتمضي. وفي الأخير تركه القتلة، مضروبًا، ومحطمًا، لكنه حي. «أنت في مأمن» قالوا له، وذهبوا بأسلحتهم إلى مكان آخر»(12).

في تحليل هذه النهاية السعيدة للقصة نقول: إن سلوك السياسي المكسيكي المثقف كان دحضًا عمليًّا لنظرية الأديب البلجيكي جان فيليب توسان التي رأى فيها أن الناس في المدن صنفان؛ يذهب الأول إلى المكتبات، ويذهب الثاني إلى استادات كرة القدم، وأن بين المكانين -المكتبة والاستاد- يقوم حائط سميك خفيّ. لقد رأينا قبل قليل كيف حطم غونتر غراس عام 2006 هذا الحائط المزعوم بشكل فيزيقي عندما ألقى أشعاره في الاستاد، أما مونتانا فقد سبق غراس بتسع سنوات في تحطيمه هذا الجدار معنويًّا. دخل فكتور الاستاد من الباب العريض فنجا. نعم. كتاب واحد فقط من مكتبته كان كافيًا ليكتب له النجاة. كان هذا الكتاب يحمل عنوان «كرة القدم بين الشمس والظل».

من منا لا يعرف الآن أن مؤلف هذا الكتاب هو أديب الأرورغواي الشهير إدواردو غاليانو، وأنه من أهم وأشهر ما نُشِر من كتب أدبية عن كرة القدم. وأن غاليانو لم يكتبه إلا محبةً وعشقًا في اللعبة الشعبية الأولى في العالم. هل كان هذا الكتاب بدوره ردًّا عمليّا من غاليانو على استحالة الجمع بين كرة القدم والأدب كما زعم عددٌ غير قليل من المثقفين؟. لا يفوت غاليانو أن يوثق في كتابه، هذه النظرة الدونية للكرة من قبل بعض الأدباء، بل إنه يورد سخريتين توحي المسافة الزمنية الطويلة بينهما، والتي بلغت قرنًا كاملًا؛ أن الأدباء لن يتوقفوا مهما مر الزمن عن السخرية من هذه «الساحرة المستديرة». الأولى كانت للأديب البريطاني رديارد كيبلنج الذي سخر سنة 1880 من كرة القدم ومن «الأرواح الصغيرة التي يمكنها أن ترتوي برؤية الحمقى الذين يلعبونها»(13)، أما الثانية فكانت من بورخيس -أديب الأرجنتين الشهير- الذي تعمد إلقاء محاضرة حول موضوع الخلود في اليوم نفسه والساعة نفسها، التي كان فيها المنتخب الأرجنتيني يخوض مباراته الأولى في مونديال 1978 المقامة على بعد مسافة قريبة من مكان المحاضرة!.

على أن إطلاق القول على عواهنه في مسألة النظرة المتعالية من الأدباء والمثقفين إلى كرة القدم، سيكون أمرًا متجنيًا ومجافيًا للحقيقة. فلقد سردتُ قبل قليل انخراط باولو كويلو وغونتر غراس بصفتهما الأدبية في صميم فعاليات كرة القدم. ونحن نعلم اليوم أن عددًا غير قليل من هؤلاء الأدباء، ليس فقط أحبوا كرة القدم وحلموا بلعبها كما غاليانو، بل لعبوها بالفعل على درجات مختلفة من الاحترافية. ألبير كامو مثلا كان في يفاعته حارس مرمى لفريق جامعة الجزائر، قبل أن يهاجر إلى فرنسا ويصبح الأديب والفيلسوف الفرنسي الشهير الذي سيفوز بنوبل. يقول عن تلك المرحلة المبكّرة من حياته إنه تعلم من كونه حارس مرمى أن «الكرة لا تأتي مطلقا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها»(14). وقد ساعده ذلك كثيرا في الحياة، «وخصوصا في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة»(15). أما ماركيز فقد كدنا نخسره أديبًا وروائيًا لامعًا لو أن الأمور سارت على ما يرام معه كحارس مرمى لفريق «أتلتيكو جونيور» الكولومبي. لقد كان مولعًا بالكرة، وبحراسة المرمى تحديدا. غير أنه في إحدى المباريات، وبينما كان يستعد للتصدي لإحدى الهجمات، سدد اللاعب الخصم بقوة في بطنه ليسبب له الأذى في معدته، كان عمره حينئذ ثلاثة وعشرين عاما، عندما قرر ترك الكرة كلاعب والاكتفاء بمشاهدتها كمشجع، وهو ما سيخدم الأدب كثيرًا، ولن يضر كرة القدم بشيء.

وإذا كان ماركيز يشترك مع أديبنا العربي الكبير نجيب محفوظ في حصولهما على نوبل، فإنهما يشتركان أيضًا في حب كرة القدم ولعبها في مرحلة الشباب. نقرأ على لسان محفوظ في كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» للناقد رجاء النقاش: «قد لا يصدق أحد أنني كنت في يوم من الأيام «كابتن» في كرة القدم. واستمر عشقي لها حوالي عشر سنوات متصلة، في أثناء دراستي بالمرحلتين الابتدائية والثانوية. ولم يأخذني منها سوى الأدب، ولو كنت داومت على ممارستها لربما أصبحت نجما من نجومها البارزين»(16)، ونحن نلمس هذا التأثر بكرة القدم في بعض أعمال محفوظ الأدبية، كروايته «المرايا»، ومجموعته القصصية «همس الجنون»، علاوة على «ميرامار» التي سبقت الإشارة إليها.

من الذين لعبوا الكرة من الأدباء أيضًا التركي أورهان باموق، والروسيان يفتوشينكو ونابوكوف، وغيرهم، وانعكست هذه العلاقة الوطيدة بالكرة على أعمالهم الأدبية. لكن هذا لا يعني أن مَنْ لم يلعب الكرة بقدمه لم يمارس اللعبة بقلمه على الأقل. إذ نجد كثيرًا من الأعمال الأدبية التي تقوم في مضمونها على كرة القدم أو تستند إليها. سأتجاوز هنا ما بات يُعرف في الأرجنتين وبعض دول أمريكا اللاتينية بـ«الأدب الكروي» الذي تخصص فيه عدد من الأدباء، وسأتحدث عن كتّاب آخرين. الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا مثلًا كان أحد المغرمين بالكرة في أعماله السردية، فلديه 11 قصة عن كرة القدم. أما الإيطالي جيوفاني أربينو صاحب رواية «عطر امرأة» الشهيرة التي تحولت إلى فيلم سينمائي، فله رواية عنوانها «الأزرق الداكن» تدور أحداثها حول مونديال 1974 في ألمانيا. وكتب الروائي الجزائري رشيد بو جدرة روايته «ضربة جزاء» بالفرنسية، وتدور أحداثها حول مباراة في نهائي كأس فرنسا لكرة القدم، حصلت عام 1957 أي أثناء احتلال فرنسا للجزائر، وهذه المعلومة تقودنا للحدث الرئيسي الموازي للمباراة وهو سعي فدائي جزائري لاغتيال أحد عملاء الاحتلال الفرنسي، وما يجدر ذكره هنا أن بو جدرة جعل الزمن السردي للرواية هو نفسه زمن مباراة كرة القدم، أي تسعين دقيقة، وظل سرده يتنقل برشاقة بين المباراة الكروية والمباراة الأخرى والتي هي مباراة الجزائر ضد محتلها الفرنسي. هذا غيضٌ من فيضِ ما كتُب في الرواية والقصة فقط عن كرة القدم، دون التطرق إلى الأجناس الأدبية الأخرى، كالشعر والمسرح، فليس المقام هنا مقام حصر هذه المؤلفات.

خلاصة القول، ليس الأدب وكرة القدم -في تصوري- ندّين، أو خصمين يتحتم أن يصرع أحدهما الآخر. وليس لاعبو الكرة والأدباء طرفَيْ نقيض ينبغي أن يتعاركا أو يزدري أيٌّ منهما الآخر. فطالما أنهما إنسانان في المبتدأ والمنتهى فيمكن أن تكون علاقتهما تكاملية. ويمكن أن تسري عليهما ببساطة جميع المشاعر الإنسانية من حب وكراهية وحنين وحقد وشغف بالحياة، أو خشية للموت، ويمكن للاعب أن يكون مثقفًا وقارئًا نهِما للأدب كالبرازيلي سقراط، مثلما يمكن للأديب أن يكون عاشقًا لكرة القدم ومستمتعًا بها إلى آخر يوم في حياته كغونتر غراس. كلاهما -اللاعب والأديب- لديه أهداف للحياة يسعى لتحقيقها/ تسجيلها، صحيح أن الأديب يأخذ وقتًا أطول ليثبت أن كرته أصابت الهدف، كما يخبرنا الشاعر الروسي يفتوشنكو، لكنه يصيبه في النهاية، تمامًا مثلما يسجّل الموت أهدافه في شباك الجميع في نهاية المطاف: شابًّا كان لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره كاللاعب إندريس إسكوبار، أو شيخًا هرِما اقترب من التسعين كالأديب غونتر غراس. لم يهتم أحدٌ بسؤال إسكوبار قبل رحيله إذا ما كان يخشى الموت أم لا. لم تكن سنه الصغيرة تشجّع على هذا السؤال، كما أن الصحفيين لا يسألون عادةً لاعبي الكرة مثل هذه الأسئلة الوجودية، بل الأدباءَ والمفكرين والفلاسفة. لكنهم سألوا غونتر غراس: «هل تخشى الموت؟»؛ هكذا طرحت عليه مجلة ديرشبيجل الألمانية السؤال بشكل مباشر. كان عمره حينئذ ثلاثًا وثمانين سنة عندما أجاب: «لا. أدركتُ أن الإنسان مستعد للموت. لكن مسائل جمة ما زالت تثير فضولي. فماذا سيحدث لأحفادي؟ وماذا ستكون نتيجة مباراة كرة القدم في نهاية الأسبوع؟»(17). إن إجابة كهذه تعلمنا أن كل شيء في هذه الحياة يمكن أن يمنحنا سعادة وطاقة للعيش إن رغبنا. وعلى رأس هذه الأشياء كرة القدم. بل أنها «الشيء الأكثر أهمية» حسب باولو كويلو «لأنها ذروة الفن، ولأنها توحد الناس وتمنحهم شعورًا رائعًا للاحتفال (...) فنحن بحاجة للعيش سوية كجماعة، وأن نحترم اختلاف الآراء فيما بيننا. وكرة القدم هي أعظم استعارة مجازية بهذا الخصوص»(18)، ولأن كرة القدم تمتزج مع الزمن الذي يمر –كما يقول جان فيليب توسان– وتسكنه، إلى درجة أنها تحمل لنا ونحن نشاهدها، نوعًا من الهناء الداخلي، الذي ينسينا آلامنا، ويُبعد عنا التفكير بالموت. إنها تجعلنا نلج إلى عالم مجرد ومثير للطمأنينة. أوليس هذا سببًا كافيًا لنحبّ كرة القدم، ونتابعها بشغف؟!.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

ورقة ألقيت ضمن ندوة نظمتها مؤسسة بيت الزبير في ٢٧ يناير ٢٠٢١ بعنوان «مارادونا، الأدب وكرة القدم»، وتنشر هنا ورقيا لأول مرة.

الهوامش والمراجع:

1- نُشِرت هذه المقالة بعنوان «الروح الرياضية» في صحيفة تريبيون في ديسمبر عام 1945. وترجمها إلى العربية محمد أسامة، ونُشِرت في موقع «إضاءات» في 12 يونيو 2018.

2- المصدر السابق.

3- المصدر نفسه.

4- مقال بعنوان «أفضل لعبة: أين يذهب كل هؤلاء الشباب». بول أوستر. نيويورك تايمز. 18 إبريل 1999.

5- المصدر نفسه.

6- «لمارادونا لا لغالتييري» هو عنوان قصة سوريانو، وقد ترجمها إلى العربية المترجم المصري محمد الفولي، ونشرها في كتاب «حكاية عامل غرف: من أدب كرة القدم الأرجنتيني» الصادر عن دار مسعى. 2018.

7- صحيفة «ديلي ستار» البريطانية ظهرت بغلاف لصورة مارادونا الشهيرة عندما سجل بيده هدفا ضد منتخب إنجلترا في مونديال عام 1986، وقد رافق الصورة هذا العنوان: «أين كانت تقنية «الفار» عندما احتجنا لها؟ وفي الأعلى عنوان صغير: «مارادونا بين يدي الله بعمر الـ60 سنة». في حين عنونت ديلي ميرور تغطيتها لوفاة مارادونا: «هو بين يدَي الله» مع الصورة نفسها. أما صحيفة «ديلي إكسبريس» فقد وضعت الصورة نفسها أيضا مع عنوان مشابه : «هو الآن بأمان بين يدي الله». وكان عنوان صحيفة «ذا صن»: «خصم إنجلترا في كأس العالم وأحد عظماء كل العصور ... في يد الله».

8- حوار مع أمبرتو إيكو في مجلة جلوب GLOBE . العدد 58 . يونيو 1991. ص 84، 85 . ترجمة مصطفى السهلي.

9- رواية ميرامار. نجيب محفوظ. دار الشروق. القاهرة. 2006. ص14.

10- بن لادن عاشق الأرسنال الإنجليزي يشترك مع سياسيي العالم في الحماس لكرة القدم. صحيفة الشرق الأوسط. العدد 8580 . 26 مايو 2002. نقلا عن «نيويورك تايمز».

11-كتاب «حياة في الكتابة»، إعداد وترجمة عبدالله الزماي، دار مسكلياني، تونس، 2018، ص 11، وفي هامش ص12 يخبرنا المترجم أن مقال غاليانو نُشِر في صحيفة «واشنطن بوست» يوم الأحد 14 يونيو 2009.

12- المصدر نفسه. ص11.

13- كتاب «كرة القدم بين الشمس والظل». إدواردو غاليانو. ت: صالح علماني. طوى للنشر والإعلام . 2013، ص29.

14- المصدر السابق. ص 50.

15- المصدر نفسه. ص 50.

16- كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، رجاء النقاش، دار الشروق، القاهرة، 1998. ص 343

17- ترجمت الحوار عن ديرشبيجل صحيفة الجريدة الكويتية ونشرتْه في 26 أغسطس 2010.

18- كأس العالم في رؤوس الأدباء: حرب من نوع آخر تستعر خارج الملاعب والمدرجات. ملكون ملكون. صحيفة العرب اللندنية. 26 يونيو .2018.

المصادر والمراجع:

أولا الكتب:

1- كرة القدم بين الشمس والظل. إدواردو غاليانو. ت: صالح علماني. طوى للنشر والإعلام. 2013.

2- حكاية عامل غرف: من أدب كرة القدم الأرجنتيني. اختيار وترجمة محمد الفولي. دار مسعى. 2018.

3- ميرامار. نجيب محفوظ. دار الشروق. القاهرة. 2006.

4- حياة في الكتابة، إعداد وترجمة عبدالله الزماي، دار مسكلياني، تونس، 2018.

5- صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، رجاء النقاش، دار الشروق، القاهرة، 1998.6- الأرجنتين.. كان يا ما كان، إندريس نيومان، ترجمة وتقديم د. علي المتوفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2015.

ثانيًا: المقالات:

1- «الروح الرياضية». مقال للروائي جورج أورويل. صحيفة تريبيون، ديسمبر 1945. ترجمه إلى العربية محمد أسامة، ونُشِر في موقع «إضاءات» في 12 يونيو 2018.

2- «أفضل لعبة: أين يذهب كل هؤلاء الشباب». بول أوستر. نيويورك تايمز. 18 إبريل 1999.

3- بن لادن عاشق الأرسنال الإنجليزي يشترك مع سياسيي العالم في الحماس لكرة القدم. صحيفة الشرق الأوسط. العدد 8580 . 26 مايو 2002. نقلا عن «نيويورك تايمز».

4- كأس العالم في رؤوس الأدباء: حرب من نوع آخر تستعر خارج الملاعب والمدرجات. ملكون ملكون. صحيفة العرب اللندنية. 26 يونيو .2018.

ثالثا: الحوارات:

1- حوار مع أمبرتو إيكو في مجلة جلوب GLOBE العدد 58 . يونيو 1991. ص 84، 85 . ترجمة مصطفى السهلي.

2- حوار مع غونتر غراس في مجلة ديرشبيجل. ترجمته صحيفة الجريدة الكويتية ونشرتْه في 26 أغسطس 2010.