محمد صابر عرب.. مؤرخ يخشى من كلفة الثورات
24 ديسمبر 2025
24 ديسمبر 2025
عاصم الشيدي -
في 22 فبراير الماضي وصلتني رسالة صوتية من الدكتور محمد صابر عرب يخبرني فيها أنه سيتوقف عن كتابة مقاله الأسبوعي في جريدة عمان لدواع صحية ستأخذه إلى العاصمة الفرنسية باريس لإجراء فحوصات، و«من ثم سيقرر الأطباء ما يرونه»! لم أستطع لحظتها فهم هذه العبارة في سياقها الصحيح، فقبل ثلاثة أسابيع فقط كنت قد رأيت الراحل في القاهرة وبدا أنه في صحة جيدة، بل إنه كان يمسك بيد الدكتور علي الدين هلال ويسنده خلال دخوله لمحاضرة في معرض الكتاب تناقش العلاقات العمانية المصرية. اعتقدت أن العارض الصحي الذي يتحدث عن عرب طارئ، وسيعود لمقاله الأسبوعي قريبا. لكن الأمر لم يكن كما توقعت أبدا، وكان الدكتور يتماسك أمام أصدقائه وقد بدأ فعلا في إجراء الفحوصات في القاهرة.
في الأشهر التالية بين رسالته الصوتية وبين خبر وفاته في 14 من الشهر الجاري عاش الدكتور صابر عرب أوقاتا صعبة على المستوى الصحي وعلى مستوى شعوره بالغربة في لحظة كان يأمل أن تكون وسط أهله وأصدقائه.. قضى عرب جل هذه المدة متنقلا بين مستشفيات باريس. كان مقر علاجه الرئيسي في مستشفى سانت جوزيف؛ ولكنه يضطر كثيرا للذهاب لمستشفيات أخرى لعلاج مضاعفات الأدوية والعلاج الإشعاعي أو إجراء فحوصات تشخيصية أخرى.
عندما التقيت به في يوليو الماضي في أحد مقاهي الشانزليزيه لم أتعرف عليه للوهلة الأولى. كان ضعيف الجسم وشاحب الوجه لكنه حاضر الذهن ومرتبط بالقضايا العربية حتى في أصعب لحظات مرضه. حدثني عن المرض وعن الغربة وعن الوطن وعن عُمان وعن الخليج وعن العالم العربي وعن السودان. شعرت أنه يريد أن يقول كل شيء.
لا يمكن أن نقرأ الدكتور صابر عرب في حياته أو بعد مماته بصفته الإدارية وزيرا للثقافة أو رئيسا لهيئة الكتاب، فقد كان هذا المسار الإداري طارئا ومرحليا، فالراحل رجل تاريخ بامتياز كرس حياته في تدريس التاريخ في عدة جامعات من بينها جامعة السلطان قابوس التي عايش مراحل تأسيسها الأولى. ولها فيها ومعها الكثير من الذكريات. وفي البحث وراء التاريخ من المدونات والوثائق وتفسيره ومقارنته.
ورؤية الدكتور عرب للتاريخ تبنى على فكرة ثنائية الوثيقة والمؤسسة، فهو لا يرى التاريخ في معزل عن الوثيقة.. إنما معرفة تُبنى على الدليل وتُدار داخل مؤسسات الذاكرة بقدر ما تُكتب في الكتب.
ولذلك يبدأ التاريخ عن الدكتور صابر عرب كما نفهمه من كتبه ومن محاضراته ومقالاته من الوثيقة التي تجبر المؤرخ على الانضباط، وتمنع السرد التاريخي من الذهاب ناحية الأسطرة أو الانتقائية. وانعكس هذا في كتابات عرب التاريخية التي تعامل فيها مع الأرشيف باعتباره المصدر الأهم الذي لا يكتب التاريخ في معزل عنه. كان واضحا في كتاباته عن العلاقة المصرية البريطانية، بوصفها لحظات تكشف البنية العميقة للدولة والمجتمع. وقرأ في أرشيف تلك المرحلة آليات تشكل الشرعية وكيفية عمل الأحزاب، والتداخلات بين الإرادة الوطنية والضغوطات الخارجية. تقوم رؤية عرب في كتابة التاريخ إذن على تفكيك آليات صناعة القرار ومعادلات القوة التي تحكمه وتؤثر عليه.
ثمة عنصر آخر يمكن أن نفهمه في رؤية عرب لكتابة التاريخ فهو يحاول أن يدرس «المفصّل» وليس المشهد العام، فكان يفضل دراسة الأزمات والانعطافات لأنها تكشف النظام السياسي والاجتماعي بسرعة؛ حيث إنه في الأزمات يمكن أن يرى حدود المؤسسات، وتظهر اللغة الرسمية وهي تتعثر أمام الوقائع، وتنكشف العلاقة بين الأفكار والمصالح.
رغم ذلك فإن عرب لا يفصل التاريخ عن الذاكرة العامة. نستكشف ذلك من خلال عمله في إدارة دار الوثائق والكتب وكيف كان يرى أن كتابة التاريخ تتطلب أيضا حماية مادته الخام من خلال الحفظ، والترميم، والفهرسة، ثم الإتاحة والرقمنة. وهو يرى كما قال في أكثر من حوار أن صون الوثيقة دون إتاحتها يمكن أن يُنتج ذاكرة نخبوية، وإتاحة المعرفة دون صيانة تُنتج معرفة هشة. لهذا يتكامل عنده «العمل العلمي» مع «العمل المؤسسي».
لم يبق صابر عرب أسير التاريخ المصري فقط، فكانت رؤيته أوسع بكثير من حدود مصر رغم حجمها الجغرافي وتاريخها العريق. فالتاريخ عنده كتلة كبيرة يتأثر بعضها ببعض. وفي هذا السياق كتب الكثير من البحوث التاريخية عن عُمان.. وكان أبرزها كتابه المهم «الدولة في الفكر الإباضي». وقد سألته قبل سبع سنوات عن هذا الكتاب فقال لي إنه قرأ التاريخ العماني برؤية أفقية. قبل أن يضيف: كان هناك مشروع في التاريخ العماني منذ بداية قيام أول إمامة إباضية وكان هناك صراع بين السياسية والدولة، الدولة بالمعنى السياسي والدولة بالمعنى الديني، وكانت هناك معركة، وكان المقصود أن تكون هناك دولة بالمعنى السياسي والمعنى الديني، ولكن هذه التجربة، وخصوصا منذ عصر النباهنة، تعرضت لمشاكل كثيرة، ثم جاءت ملامح الدولة الوطنية لتتشكل، نسبيا مع عصر اليعاربة.
يقول عرب إن هناك من يرى أن بداية التاريخ العربي الحديث يبدأ في القرن التاسع عشر مع الحملة الفرنسية حيث حدث الانفتاح على العالم الخارجي. لكن عُمان والحديث للدكتور صابر عرب، تخرج عن هذا السياق. يقول عرب إن التاريخ الحديث في عُمان بدأ منذ بداية عصر اليعاربة بدايات القرن السابع عشر؛ لأن معهم بدأت محاولة تكوين الدولة بالمعنى الوطني. والدولة الوطنية في فكر صابر عرب لا تغفل الجانب الديني، فالمعنى الوطني هنا يشمل الدين والسياسة ويشمل ما يعرفه الفقهاء بالمقاصد العامة للشريعة والمقاصد العامة للشريعة هي المقاصد العامة لمصالح الناس وهذه هي ذات المصالح العامة لمصالح الأوطان.
وليس بعيدا عن فكرة بناء الدولة، فإن لصابر عرب موقفا واضحا من أحداث ما عرف «بالربيع العربي». كان يقول بشكل واضح «لست ثوريًا ولا أؤمن بالثورات» وكان يرى أن التغيير الأكثر جدوى هو «الذي يأتي من الداخل» أي التغيير السلمي الناتج عن قوة الضغط الاجتماعي والسياسي وضغط الصحافة الحقيقي والجماعات الوطنية. وكان الراحل يعتبر أن «غياب المجتمع المدني والأحزاب والشخصيات القادرة على صياغة رؤية يجعل الثورات توقف الحياة، وتُعطل التعليم، وتفتح الباب أمام الفوضى».
تجربة الدكتور صابر عرب تستحق دراسة معمقة ووقفة أوسع من هذه سواء من خلال أثره في التعليم الجامعي أو توظيف مواقفه السياسية في فهم مناهجه في قراءة التاريخ وفي إدارته للمؤسسات الثقافية التي رأسها والتي أحدث فيها ثورة تطويرية رغم اللحظات الصعبة التي كانت تمر بها بلاده حينها إلى حد الفوضى والتشظي المؤسسي.
عاصم الشيدي / كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان
