عمان الثقافي

كراسي السلطان قابوس العلمية: رؤية وإرثٌ وطني دبلوماسية المعرفة والمشروع الثقافي

30 مارس 2022
30 مارس 2022

تشكل الكراسي العلمية/ البحثية والزمالات والأستاذيات التي تمولها الدول أو الشخصيات الوطنية في المؤسسات العلمية والأكاديمية حول العالم شكلًا مزدوجا من أشكال الدبلوماسية الموازية، يجمع بين مقتضيات الدبلوماسية الثقافية من ناحية، ودبلوماسية العلوم من ناحية أخرى، وقد عرج الاتحاد الأوروبي على تسمية هذا الشكل الناشئ بمسمى «دبلوماسية المعرفة». جرت هذه التسمية في ندوة موسعة نظمتها المندوبية الألمانية الدائمة لدى الاتحاد الأوروبي في 2017، واستُعرضت خلالها استراتيجيات الدول الأوروبية في تفعيل الثقافة والعلم وربطهما في تعزيز العلاقات الخارجية الدائمة وبشكل خاص في أوقات الأزمات والصراعات أو عندما تنشأ التوترات السياسية بما يسمح بإيجاد مساحة تسمح بالتواصل المستمر والتبادل بين الناس. ويسهم شكل هذه الكراسي العلمية في تعزيز التواصل بين فئة الدارسين والباحثين والأكاديميين والعلماء حول القضايا المعرفية والبحثية التي تسهم بشكل أو بآخر في تجويد منظورات التقارب وإثراء الناتج العلمي، وتعزيز الوصل بين دوائر العلم والمعرفة المختلفة وتوطيد شبكات تأثير العلماء في المجتمع السياسي.

وتشكل كراسي السلطان قابوس العلمية أنموذجا بارزًا على مستوى دول المنطقة في تعزيز نمط «دبلوماسية المعرفة»، ذلك أن فكر السلطان قابوس – طيّب الله ثراه – ومنذ بدايات حكمه انصب على بناء مشروع ثقافي ومعرفي يوازي المشروع السياسي والتنموي في بناء الدولة، وتجسد هذه الكراسي على الجانب الآخر تعددًا في أنماط الدبلوماسية الموازية التي مارستها الدولة في عُمان، وقد خلقت تشكلًا لصوت عُمان الثقافي وتخليدًا للدور الحضاري الذي لعبته عبر تاريخها، والمتمعن في الموضوعات والحقول التي تتوجه إليها هذه الكراسي يجدُ أن القيم الرئيسة التي تحاول توطيدها والبحث فيها متجسدة في (التقارب الإنساني – حوار الديانات – التجديد العلمي – التواصل الحضاري)، وهذا ما تعكسه تقاليد المؤسسات العلمية والأكاديمية التي استحدثت فيها هذه الكراسي، وطبيعة الأنشطة العلمية والبحثية التي تمارسها وتتوجه إليها. وبحسب مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، فإن «تمويل كل كرسي يتم من خلال صرف مبلغ كهبةٍ وقفية -تُصرف لمرةٍ واحدة-، تستثمرها الجامعة الحاضنة له، وتُستغل عائداتها في الصرف على راتب الأستاذ المشرف عليه وكذلك المصاريف المرتبطة بالأنشطة والبرامج التي ينفذها» .

الدور الحضاري لكراسي السلطان قابوس العلمية

إذن شكلت هذه الكراسي جزءا من منظومة الدبلوماسية الثقافية، والتي تعرف كونها: «جزءا لا يتجزأ من الأنشطة الدبلوماسية، يراد من خلالها تعزيز التفاهم المتبادل بين الدول، أو هي تبادل الأفكار والمعلومات والفن وغيرها من جوانب الثقافة بين الأمم والشعوب، من أجل تعزيز التفاهم المتبادل بينهم» وإن كان مجال هذه الكراسي منصبًا على السياق البحثي والعلمي فإن مجمل الممارسات والأنشطة التي تقوم بها هذه الكراسي تؤدي في خلاصتها إلى مراكمة معرفة علمية وإنسانية حول القضايا الأساسية التي تتوجه إليها، وإيجاد مساحات للحوار العلمي والثقافي المتعدد الجنسيات في المؤسسات التي تنشط فيها، وتوفير منصات دورية للمناقشة لنخب المعرفة في الموضوعات التي تناقشها وتتخصص فيها، عوضًا عن تمويل الباحثين والمهتمين في القضايا ذات الصلة، بما يؤدي في مجمله إلى تكريس اسم سلطنة عُمان وتصعيد رمزيتها في الأوساط العلمية والثقافية، وفي المجتمعات الأكاديمية التي تنشط فيها هذه المؤسسات وتتوجه إليها برسالتها وتأثيرها، أو عبر الأكاديميين الذين تُسند إليهم مهمة الإشراف على تلك الكراسي وإدارتها وتنسيق أعمالها وأنشطتها. وتتعدد الأنشطة التي تترجم من خلالها تلك الكراسي رسالتها سواء كانت عبر المشروعات البحثية الممولة، أو منح الدراسات العليا، أو المؤتمرات والندوات العلمية، أو المشاركة في تطوير المعارف الأكاديمية واستحداث البرامج الدراسية داخل المؤسسات التي توجد فيها.

ويذكر موقع مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم أن إنشاء هذه الكراسي والأُستاذيات والزمالات العلمية جاء ليُحقّق عددا من الأهداف، أهمها :

•التعريف بالدور الحضاري والثقافي لسلطنة عمان في تطوير المعرفة الإنسانية.

•تشجيع الوصول لمجتمع عالمي عصري يعيش في سلام ويسوده التفاهم المشترك والتسامح.

•دعم وتشجيع الدراسات والبحوث العلمية.

•إيضاح دور سلطنة عمان في السعي للتقريب بين الثقافات العربية وغير العربية، ودعم التواصل الثقافي بين مختلف الشعوب للوصول إلى حوار ثقافي بنَّاء.

•التعريف بالنهضة العُمانية للعالم وزيادة الوعي بجهودها واهتمامها المستدام -ماضيا وحاضرا- في تطوير دراسات اللغة العربية والتـراث والثقافة والدراسات العلمية.

سمات كراسي السلطان قابوس العلمية

ونجد أن تلك الأهداف تتلامس مع دور أساسي للدبلوماسية الثقافية، وهو «إثراء التواصل والتنوع بين القيم المشتركة للمجتمعات البشرية ولذلك، فإن الدبلوماسية الثقافية تشكل نقطة التقاطع بين تفاعل الثقافات، وبما يوسع من آفاق التواصل بين مختلف أطرافها وألوانها، وهذا ما يؤدي في العادة إلى بناء وتوثيق الصداقات والتقارب بين الشعوب، ثم هي من أفضل السبل لتوحيد الشعوب وتقريب وجهات النظر بينهم». ويمكننا من خلال تحليل اختصاصات تلك الكراسي، وطبيعة المؤسسات الأكاديمية التي أسست فيها، وطبيعة الأكاديميين الذين تعاقبوا على إدارتها أن نلاحظ الآتي:

•التنوع في المجالات العلمية التي تتمحور حولها موضوعات تلك الكراسي، مع التركيز على مسألة الدراسات العربية ودراسات الأديان المقارنة.

•عراقة المؤسسات الأكاديمية التي تنشط فيها هذه الكراسي، والدور البارز لتلك المؤسسات والباحثين والأكاديميين فيها ومخرجاتها العلمية في التأثير في الشبكات العلمية والأكاديمية.

•تلامس بعض موضوعات تلك الكراسي مع قضايا ذات احتياجٍ كبير في عُمان وخاصة تلك التي تبحث في موارد المياه وإدارتها ومسائل الاستزراع الصحراوي مما يتيح المجال لنقل المعارف والمخرجات العلمية وتطوير نهج علمي لمقاربة القضايا التنموية المحلية.

•السمة البحثية والتاريخ المعرفي والتأثيري للعلماء والأكاديميين المتعاقبين على الإدارة والإشراف على تلك الكراسي وقوة تأثيرهم في الأوساط الأكاديمية وسعة نتاجهم العلمي وهو ما يظهر من خلال سيرهم الذاتية.

اشتغالات كراسي السلطان قابوس العلمية

وحسب المعلومات المتوفرة عبر موقع مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، هناك (16) كرسيًّا وأستاذية وزمالة تحمل اسم السلطان قابوس في مؤسسات علمية وأكاديمية مختلفة، وهي

1.كرسي سلطان عُمان في الأدب العربي والإسلامي بجامعة جورج تاون الأمريكية (1980م)

2.كرسي السلطان قابوس بن سعيد للغة العربية بجامعة جورج تاون الأمريكية (1993م)

3.كرسي صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد للاستزراع الصحراوي بجامعة الخليج العربي بمملكة البحرين (1994م)

4.كرسي سلطان عُمان للدراسات العربية والإسلامية بجامعة ملبورن الأستراليــة (2003م)

5.كرسي سلطان عُمان في العلاقات الدولية بجامعــة هارفارد الأمريكية (1999م)

6.زمالة السلطان قابوس بن سعيد الدولية بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في المملكة المتحدة (2004م)

7.كرسـي السلطان قابوس لتقنية المعلومات بجامعة الهندسة والتكنولوجيا في لاهور بجمهورية باكستان (2004م)

8.كرسـي السلطان قابوس لتقنية المعلومات بجامعة نيد للهندسة والتكنولوجيا في كراتشي بجمهورية باكستان (2005م)

9.كرسي صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد للدراسات العربية المعاصرة بجامعة كمبريدج بالمملكة المتحدة (2005م)

10.كرسي السلطان قابوس للإدارة الكمية للمياه بجامعة أُترخت الهولندية (2005م)

11.كرسي السلطان قابوس لدراسات اللغة العربية بجامعة بكين بجمهورية الصين الشعبية (2007م)

12.كرسي سلطان عُمان للدراسات الشرقية بجامعة لايدن الهولندية (2008م)

13.كرسي السلطان قابوس للدراسات الشرق أوسطية بجامعة طوكيو باليابان (2010م)

14.أستاذية السلطان قابوس للديانات الإبراهيمية والقيم المشتركة بجامعة كمبريدج بالمملكة المتحدة (2011م)

15.أستاذية السلطان قابوس لدراسات الشرق الأوسط بكلية وليام وماري بالولايات المتحدة الأمريكية (2011م)

16.زمالة السلطان قابوس للرياضيات بكلية كوربوس كريستي في جامعة كامبردج بالمملكة المتحدة. (2014م).

وحسب ترتيب المعلومات المتوفرة يعتبر كرسي سلطان عُمان في الأدب العربي والإسلامي بجامعة جورج تاون الأمريكية من أوائل الكراسي التي تم تمويلها واستحداثها، وتتنوع تبعيات الكراسي داخل هياكل تلك الجامعات، والدور الراهن الذي تقوم به، فعلى سبيل المثال يشرف مركز جامعة طوكيو لدراسات الشرق الأوسط (UTCMES) على كرسي السلطان قابوس لدراسات الشرق الأوسط، وتتجسد الممارسة الحالية للكرسي بحسب الجامعة في إجراء ونشر أبحاث عالية الجودة حول الشرق الأوسط من منظور عالمي وتعزيز التبادل الأكاديمي مع المنطقة. وتمكين أجيال متعاقبة من الدارسين والباحثين من فهم دقيق وغير متحيز للشرق الأوسط. فيما يركز النشاط الحالي لكرسـي السلطان قابوس لتقنية المعلومات بجامعة نيد للهندسة والتكنولوجيا في كراتشي بجمهورية باكستان على تعزيز الأنشطة البحثية في جميع الأساليب والتقنيات ذات الصلة بالحاسوب وتقنية المعلومات. وتتكامل أنشطة بعض الزمالات كزمالة السلطان قابوس بن سعيد الدولية بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في المملكة المتحدة مع زمالات أخرى قائمة كزمالة أمير ويلز ونيلسون مانديلا والزمالة الكويتية، وغيرها من الزمالات مما يشكل بدوره بيئة ثقافية تؤسس لتمازج المعارف وتعدد المنظورات وإثراء المقاربات والأنشطة التي تقوم عليها عمليات تلك الزمالات. وهذه الزمالات تدعم أعمال المركز من خلال تأطير عدد من الأعمال البحثية والأكاديمية، منها المحاضرات والندوات في حقول الأنثروبولوجيا ودراسات التنمية والتاريخ والقانون والدراسات الشرقية واللاهوت والأديان. عوضًا عن تدريس بعض المقررات الأكاديمية في الجامعة، وتقديم بعض الدورات القصيرة، بالإضافة إلى الإشراف على أطروحات الدراسات العليا في التخصصات ذات العلاقة.

الدبلوماسية العلمية

وعبور الثقافات والاختصاصات

تقترب أستاذيات السلطان قابوس العلمية كذلك من المعارف «العابرة للاختصاصات» عبر دعم أنشطة البحث والتدريس في الأقسام التي تقدم تلك المعارف من وجهات نظر علوم مختلفة، لتعزيز الفهم الدولي، وتعميق منطلقات التقصي العلمي، ومن أمثلتها أستاذية السلطان قابوس لدراسات الشرق الأوسط بكلية وليام وماري بالولايات المتحدة التي تسهم في دعم البحث والتدريس في برنامج الدراسات الآسيوية والشرق الأوسط بالكلية، حيث يتوجه البرنامج - حسب الكلية - لدراسة التاريخ والسياسة والدين والأدب والفنون الجميلة والإعلامية والثقافة التعبيرية والطقوسية واللغات الرئيسية في المنطقة. من خلال الدورات الدراسية متعددة التخصصات والمشورة العملية. ومن شأن الأستاذية كذلك تعميق الفهم حول المنطقة، وتاريخها، وتراثها، وصلاتها الحضارية، والاشتغال على بحوث أكثر توسعًا ودقة حول إرثها في العلاقات الدولية وراهنها.

إن اشتغال هذه الكراسي في بيئات متعددة الثقافات يعني بالضرورة تطوير مقاربات حول تأثير المحيط الثقافي والاجتماعي في تطوير السياسة العلمية، وعن تأثير التفاهمات المشتركة في الدفع بحلول علمية أصيلة قائمة على المشترك الإنساني، وهو ما نلحظه من طبيعة مجالات الكراسي العلمية، حيث إنها توزع اهتماماتها بين ما يجمع المشترك الإنساني ويهيئ المقومات الثقافية والاجتماعية والفكرية التي تشكل أرضًا خصبة للتفاهمات العلمية من ناحية، وبين تطوير مقاربات علمية للقضايا الشائكة كقضايا المناخ والتقانة ومسائل الأمن المائي والغذائي، وهذا الدور يتصل بالضرورات الملحة التي يفرضها التعاون العلمي عالميًا، فكما يقول ثيموني ليجراند وديان ستون: «لا يقتصر الأمر على تعدد آفاق التعاون العلمي عبر الوطني المعزز فحسب، بل تتنوع أيضًا آفاق تأثير العلوم السياسية والدراسات الدولية في المشهد الأكثر تنوعًا للمبادرات المشتركة. وفي هذه الأوضاع، تعتبر المعرفة العلمية - أو مجرد الأدلة المقدمة لدعم أفضل الممارسات - موردًا مهمًا للمسؤولين. تظهر فرص التأثير ليس فقط في المساعدة على بناء القدرة العلمية والتحليلية للسياسات في هذه الأماكن الجديدة ولكن أيضًا في العمل مع الدبلوماسيين الجدد» . ومن الكراسي البحثية التي تتوجه لمعالجة التحديات العلمية البينية/ المشتركة وفق منظورات تقاطعية، كرسي جلالة السلطان قابوس للاستزراع الصحراوي بجامعة الخليج العربي، والذي تم إنشاؤه في أكتوبر من عام 1994م في ظل حيثيات منها: الحاجة إلى استغلال المساحات الصحراوية الممتدة في دول الخليج لتعزيز مقومات الأمن المائي والغذائي، والنظر في التحديات المتصلة بهذين البعدين في إطار المشترك التضاريسي الخليجي، حيث تلا استحداث الكرسي إنشاء مركز بحثي متخصص في مجال تقنيات الزراعة المتطورة سمي «مركز السلطان قابوس للزراعة المتطورة وبدون تربة» والذي توجهت أنشطته لـ :

-تهيئة الفرص للباحثين وطلبة الدراسات العليا في تخصص «تقنيات الاستزراع الصحراوي والزراعة بدون تربة» والبرامج الأخرى ذات العلاقة في الجامعة لإجراء بحوثهم العلمية.

-إجراء بحوث علمية تطبيقية باستخدام تقنيات متطورة في الزراعة وخصوصا الزراعة بدون تربة.

-تقديم دورات وورش تدريبية متخصصة بالزراعات المتطورة وبدون تربة لنقل الخبرة المتقدمة إلى الكوادر الوطنية في «دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية» والدول العربية الأخرى.

-تقديم الخبرات والاستشارات والدراسات التعاقدية في مجال توظيف التقنيات الحديثة في الزراعة وخصوصا الزراعة بدون تربة.

-إقامة علاقات تعاون بين جامعة الخليج العربي والجامعات ووزارات الزراعة والمياه والبلديات والتعليم العالي والتربية وغيرها من الوزارات ذات العلاقة في دول مجلس التعاون، تشمل تقديم استشارات فنية لتلك المؤسسات في مجال تقنيات الزراعة بدون تربة وغيرها من التقنيات والأبحاث ذات العلاقة.

الكراسي العلمية واستشراف المخاطر المشتركة

ويشكل كرسـي السلطان قابوس للإدارة الكميـــة للميــاه بجامعــــة أُترخـت الهولنـــدية مثالًا آخر على استدراك المخاطر المشتركة، وتفعيل التعاون العلمي البيني القائم على الاستفادة من أفضل المرجعيات الأكاديمية، أو المؤسسات المتخصصة في تلك المخاطر، حيث إن التماثل بين مشكلات المياه في المنطقة عمومًا وهولندا يدفع بأعمال هذا الكرسي للتركيز على البحوث المتعلقة بأوجه التشابه والاختلاف في طرق إدارة موارد المياه، وحسب موقع الجامعة فإن الكرسي «تركز أبحاثه على أوجه التشابه والاختلاف في مشاكل المياه وحلولها في مناطق الدلتا الرطبة بالعالم الغربي والمناطق شديدة الجفاف في الشرق الأوسط». إن التوقيت وطبيعة الظروف والمخاطر التي جاء فيها إنشاء هذه الكراسي يعتبر خطوة متقدمة للكثير من التحديات العالمية، وإن فكرة السلطان قابوس – طيّب الله ثراه – في جعل العلم والبحث أداة مهيئة لتحقيق التفاهمات أولًا والمواجهة المشتركة للمخاطر والتحديات ثانيًا تعد فكرة متفردة بمقياس الوقت وظرف المحيط. يؤكد تقرير اليونسكو للعلوم 2030 إن: «الحجم والنطاق الدولي للتحديات العالمية يتطلب نهجًا كليا أكثر عمقًا. يعبر هذا النهج عادة الحدود بين التخصصات المختلفة (الطبيعية والاجتماعية والبشرية والهندسية والطبية وعلوم الحياة). وذلك لإيجاد تعاون علمي حقيقي يحتضن التنوع الكامل للأصوات العلمية من جميع أنحاء العالم. وتقديم أساليب بحثية جديدة لتحليل المشاكل المعقدة ومتعددة التخصصات، والجمع بين أنواع مختلفة أو ثقافات فرعية من المعرفة: المعرفة العلمية المتخصصة والسياسية/ الاستراتيجية، الأصلية/المحلية». وهذا في تقديرنا ما تترجمه وتؤطره المقاصد والاشتغالات البحثية لبعض الكراسي العلمية التي تم استحداثها. وتمثل مخرجات زمالة السلطان قابوس للرياضيات بكلية كوربوس كريستي في جامعة كامبردج بالمملكة المتحدة أنموذجًا للاشتغالات التي توازن بين الدراسة التجريبية المعملية لبعض القضايا الرياضية والفيزيائية التي تشكل جزءا من تفاصيل المحيط المادي لاستخدامات البشر، حيث بحث الزملاء قضايا من قبيل « high-Reynolds-number buoyancy-driven» وتدفقات السوائل متعددة الأطوال، مثل النفاثات والأعمدة المضطربة. هذه التدفقات المضطربة الموضعية موجودة في كل مكان في البيئة وتوجد عبر مجموعة واسعة من المقاييس الطبيعية والصناعية، من تدفقات هواء مجفف الشعر إلى الدخان المنبعث من مداخن المصانع إلى سحب الرماد البركاني. كما درس الزملاء كذلك قضايا من قبيل التخفيف من عواقب الانسكابات النفطية على نطاق واسع في المحيطات، وتقليل استهلاك الطاقة في المناطق الحضرية. وإن كانت الدبلوماسية العلمية تعني «استخدام التعاون العلمي لتحسين العلاقات الدولية بين الدول إلى جانب جلب الفوائد العلمية» فقد أسهمت هذه الكراسي والزمالات والأستاذيات كذلك في رسوخ اسم سلطنة عمان، والسلطان قابوس كمانح علمي، ومؤيد عالمي لدور العلم في التقريب بين الشعوب.

كراسي السلطان قابوس

والدور الحضاري العُماني

على الجانب الآخر تعكسُ هذه الكراسي فكرة السلطان قابوس في إبراز الدور الحضاري لعُمان وخاصة في مجال «الدراسات العربية»، وكذلك التنبه إلى نوعية السياق الجغرافي الذي يمكن أن يشتغل فيه مثل هذا النوع من الكراسي فعلى سبيل المثال كرسي السلطان قابوس لدراسات اللغة العربية بجامعة بكين بجمهورية الصين الشعبية. تقود الصين اليوم مشروعًا حضاريًا واقتصاديًا موسعًا، ويتأسس هذا المشروع على ضرورات من الفهم والربط والتواصل الثقافي مع مختلف الأقطار والحضارات، وعن تنقيب دقيق في الأصول التاريخية واللغوية لبناء معطيات الشراكة والدبلوماسية والامتداد مع الدول التي تجمعها بها علاقات مختلفة، وتشكل المنطقة العربية وبعض دولها محط اهتمام واسع للصين، ومن هنا فإن هذا الكرسي يشكل نافذة ليس فقط لدراسات اللغة، وإنما نافذة ثقافية تمكن عبر أنشطتها ومساقاتها وأبحاثها من مد جسور التلاقي الثقافي العُماني الصيني من ناحية، والصيني العربي من ناحية أخرى. يقول البروفيسور شيه زيروج أحد الأستاذة المشرفين على الكرسي بجامعة بكين: «إن أول مشروع علمي تم تنفيذه هو إعادة طباعة وتنقيح «معجم العربية الصينية»، الذي تم تأليفه وطبعه قبل أكثر من 40 عاما. وكذلك عقد الكرسي العديد من الندوات العلمية، كتعليم اللغة العربية، والمشاركة في ندوات ثقافية محلية ودولية» .

إن الإرث الذي قدمته كراسي السلطان قابوس العلمية تعبر عنها العبارة التي وضعتها جامعة أُترخت الهولندية على موقعها الإلكتروني في التعريف بكرسي السلطان قابوس للإدارة الكمية للمياه بأن «السلطان قابوس ينظر إلى العلم باعتباره الوسيلة النهائية للجمع بين الثقافات والأمم، وقد أظهر ذلك من خلال إنشاء الكراسي في مختلف الجامعات الرائدة».

مبارك الحمداني كاتب عماني