عمان الثقافي

قصة الاختفاء البطيء

25 يونيو 2023
25 يونيو 2023

هذه كتابة نقدية عن فيلم «Saint Omer» للمخرجة أليس ديوب الذي يعرض في كثير من دور السينما حول العالم بينما أكتبُ مقالتي هذه. إن تجربة مشاهدة هذا الفيلم غامرة، تدفعك للغوص بعيدا في تعقيدات العلاقات الإنسانية، وفي وضع النساء والعار الذي يلحق بهن مع الأمومة، ما الذي تعنيه الأمومة أصلاً؟ وكيف يمكن أن يكون الحب داخل هذه التجربة قاتلاً؟ يخبرنا الفيلم كيف أن هذا الموضوع لا بد وأن يد «السحر» تدخل فيه، لا بد وأن الأم القاتلة ممسوسة، لكننا نظل طوال الساعتين التي نشاهد فيها هذا الفيلم، في حالة من (التعجب) الشديد: إذ كيف لأم تحب ابنتها إلى هذا الحد أن تقتلها؟ كيف يمكن أن نفسر أنها قبل أن تتركها على إحدى الشواطئ القريبة من مدينتها ترضعها وتحممها وتغني لها ثم تقتلها. إلا أن تجربة مشاهدة هذا العمل تصبح أكثر ثراءً بعد الاطلاع بإخلاص للمصادر التي يشير إليها الفيلم، «هيروشيما حبيبتي لمارغريت دوراس، وفيلم المخرج الإيطالي بيير باول بازوليني «Medea» الذي أنتج عام 1969 بالإضافة لقراءة ميثولوجيا «ميديا» الساحرة الإغريقية التي ستقتلُ أبناءها. وهذا ما فعلته بعد مشاهدة الفيلم، قرأتُ سيناريو فيلم “Hiroshima Mon Amour للمرة الثانية وشاهدت واحدا من أجمل أعمال بازوليني.

نساء حليقات الرأس تماماً وأخريات يجري حلق رؤوسهن في هذه اللحظة، بينما يتفرج الناس المتجمهرون عليهن، هذا ما يُعرض على صف لطلبة يتخصصون الأدب في الجامعة. يشاهدون هذا المقطع من فيلم «هيروشيما حبيبتي» الذي كتبته مارغريت دوراس، ثم نسمع تعليق المحاضِرة راما وهي مدرسة سنغالية، وهي تقتبس لدوراس ما تقوله عن تلك الرؤوس الحليقة. وتقول للطلبة إنها تختار دوراس موضوعا للدراسة في هذا الأسبوع، كيف حولت هذه الكاتبة المرهفة حادثة العار هذه لكتابة تخلد تلك النساء لا بكونهن بطلات فحسب بل كنساء في حالة نعيم. يحدث ذلك بينما تظهر مشاهد لطالبات متسمرات، وجوه مختلفة، مستغرقة في الهم نفسه، في حالة من التلاحم مع ما تقصه المعلمة عليهن، ولا نرى وجها لأي رجل. نساءٌ يترقبن شيئا على وشك أن يحدث، بعد أن حدث هذا كله. كان ذلك هو المشهد الأول من الفيلم. النساء التي تعيرنا ديوب وجوههن لا يرمشن، ولا يصدرن أي صوت، إنهن يتابعن شيئاً ما كما لو أنهن يألفن نهايته.

يمكن أن نلاحظ أن اختيار «هيروشيما حبيبتي» ليس عبثيا، إذ تتقاطع مع قصة الفيلم في مناطق عديدة. فلنقرأ الرواية لنتبين بعضها «من المستحيل التحدث عن هيروشيما وكل ما بالإمكان عمله هو التحدث عن استحالة التحدث عن هيروشيما بدعوى (أن معرفة هيروشيما) هي موضوعة مسبقة كخديعة نموذجية للفكر». ويتقاطع هذا مع الفيلم بصورة كبيرة، لأنه يتفقد برقة منطقة لا يمكن الحديث عنها، هنالك الكثير من سوء الفهم، والكثير من الأشياء التي لا تفسير لها، الأمومة كما لو أنها الكارثة، والتواصل المبتور بين الزوج وزوجه، أو حتى بيننا جميعاً كبشر.

ونعود للرواية لنقتبس «تلك غاية رئيسية من غايات القصة، أن نتخلى عن وصف الفظائع بالفظائع، لأن ذلك قد صنعه اليابانيون أنفسهم، وأن تبعث هذه الفظائع مجدداً من رمادها بتسجيلها في إطار حب يكون بالضرورة فريداً «وعجيباً» حب يصدقه الإنسان أكثر مما لو حدث في أي مكان آخر من العالم، في مكان لم «يطبعه» الموت بطابعه».

من خلال الصورة السينمائية، التحديقات الطويلة والملتهبة، ومشاهد الفضول نقرأ كيف يمكن للأمومة أن تصبح محلاً للتفاوض والاستفهام. «إن حديثها سيتناول في وقت واحد موضوعها ذاته موضوع هيروشيما، وسيختلط كلاهما ويمتزج بحيث يكف – بعد اوبرا هيروشيما – عن أن يتميز بعضه عن الآخر»

تناقض الأم القاتلة نفسها في أماكن عديدة، ماذا تكون الحقيقة إن لم تكن تلك الفراغات بين النقائض، تكتب دوراس: «ما الذي حدث في حياتها حتى تكون هكذا، حرة إلى هذا الحد ومطاردة في الوقت نفسه، مستقيمة إلى هذا الحد ومطاردة في الوقت نفسه، مستقيمة إلى هذا الحد وغير مستقيمة معا، غامضة إلى هذا الحد وواضحة معا؟ شديدة الرغبة في أن تعيش غراميات عابرة، وجبانة إلى هذا الحد أمام الحب؟»

ومشهد جز الشعر إنما هو امتداد للإرهاب العقابي الذي يقع على النساء وأجسادهن على امتداد التاريخ «لقد جزوا لها شعرها في نيفر عام ١٩٤٤، وهي في العشرين من عمرها.

شيقها الأول ألمانيا، قتل في التحرير».

راما مدرسة الأدب لا تتحدث كثيرا في منزل عائلتها، وهي بلا شك ترث ثقافتها الإفريقية التي تصارع من أجل أن تجد موقعا لها في فرنسا. على جدران هذا المنزل نشاهد لوحة الموناليزا، ولوحة لصفحة من القرآن الكريم معا. إنها حالة التحديث الطاغية مع بقاء الهوية على شفير حاد إزاء ما تواجه في واقع يرفضها ويساءلها باستمرار. تبتعث راما لكتابة مؤلف عن لورانس كولي المرأة التي قتلت طفلتها وهي في عمر 15 شهرا، وتعرف نفسها على أنها قبل المجيء إلى باريس، أي قبل عشر سنوات، كانت في غانا. تنتمي لعائلة اهتمت بتعليمها لكي يكون مستقبلها أفضل مما كابدوه من معاناة. عندما تسألها القاضية عن سبب قتلها لابنتها تقول فورا «لأن ذلك يجعل الحياة أسهل» وكانت قد قالت في التحقيق معها أنها تشعر بأنها جزء من مشروع مأساوي وحقير. هي هنا لأنها تحاول إيجاد سبب آخر لما فعلته، مهمة تعلن بوضوح أنها توكلها لهيئة المحلفين، أما هي فتظن أنها «محسودة» فرغم إيمانها بالقيم الغربية على حد تعبيرها إلا أنها مؤمنة بالحسد، وتقول إن هذه هي لعنة عائلتها من السنغال. كولي مولعة بالأدب وتتحدث بلغة فرنسية رفيعة، لغة المثقفين، الأمر الذي سيستنكره الصحفيون، إذ كيف لأفريقية قادمة من غانا أن تتحدث بهذه اللغة وأن تدرس الفلسفة بل وأن ترغب في تقديم أطروحة عن الفيلسوف فيتغنشتاين.

هنالك طبقات من التهميش والنبذ تجسده كولي أولا أنها امرأة، سوداء، ومهاجرة، يتأرجح الفيلم في الإشارة للتحديات التي لا تواجهها على منصة الحكم كامرأة قتلت ابنتها فحسب، بل في كونها من هي عليه.

الرجل الذي سيصبح وأخيرا في دائرة كاميرا المخرجة، عندما يتم استدعاؤه للمنصة، نتأخر في معرفة شكله، إذ ما زالت الكاميرا تلتقط لنا صور النساء في القاعة يحدقن بوجوم وبيأس لشيء يبدو مثل المصير المشترك والمعروف سلفاً، ثم يظهر لنا رجل في57 من عمره وهو عشيق كولي ووالد الطفلة المقتولة ليز.

بعد أن استمعنا لشهادة كولي حول علاقتها بعشيقها، نستمعُ إلى ما يمكن أن نقول عنه «النقيض» فبالنسبة له لطالما كانوا سعداء وأحبوا بعضهما جدا، لا يعرف لم حدث ما حدث! وعندما يسأل: هل كنت عندها في فترة الحمل والولادة؟ لماذا شككت في أبوتك لليز؟ كلها موضوعات ويا للعجب لا يستطيع الرجل أن يقرأ أنها ساهمت فيما آلت إليه حالة كولي المجنونة قاتلة ابنتها.

عندما أراقب من حولي أجد الرجال دوما يتأخرون في فهم الأسباب التي تجعل النساء غاضبات أو معرضات عنهم، ويستخدمون ذلك في أسطرة الإلغاز حول المرأة ورغباتها. الأمر نفسه يحدث مع كولي واحدة منا نحن الكائنات الملغزة.

يرصد الفيلم بدقة ذلك المناخ أو الحالة الشعورية التي تخلفها محاولة جعل الأشياء تحدث بدوافع خارجية مفهومة ومنطقية، إذ ينجح في التقاط التشويش الذي هو الحياة برمتها عندما يضعنا في مزاج أن الأشياء يمكن أن تحدث فعلاً لأسباب لن نتمكن من تفسيرها وعقلنتها بسهولة. يحدث ذلك في الفيلم بالإشارة إلى وضع النساء مع فقدهن للقدرة على السيطرة على أنفسهن، الأمور تفلت منا، لقد ذكرني ذلك على الفور بحلم يقظة يقبض عليّ فجأة، كأنني أصبح خارج وعي بذاتي، أنني سأخرج عارية إلى الشارع مع أنني لا أريد ذلك، بل أحاول كبح نفسي عن فعلها، ومع ذلك أجدني هنالك في وسط الشارع بذلك المنظر المهين. إن هذه الحالة من الهلوسة كثيرا ما تتردد على النساء خصوصاً. إذ يعانين من تصورات أشبه بالسلوك القهري ناتجة عن الكبت الشديد.

مرة أخرى يحاول المدعي العام إعادتنا إلى الواقع، إلى شيء واضح جدا ولا يمكن تلفيقه، غاضبا من كولي التي وعندما تقصُ مشهد قتلها لابنتها تستخدم استعارات شاعرية من قبيل «أسير بينما القمر مثل ضوء كشاف» و»نمتُ مثل قطعة حطب» بينما تصر محامية كولي أن قصتها هي قصة كل النساء إنها وببساطة شديدة «قصة اختفاء بطيء».

علينا أن لا نتجاهل أن الماضي والحاضر والمستقبل جميعها إلى المصير نفسه، الألم نفسه، يتمثل ذلك في أن راما حامل، وتستعيد مشاهد من طفولتها مع أمها في أيام حضورها محاكمة كولي. وهذا ما تذهب إليه نهاية الفيلم أيضاً «نحن كائنات خميرية، كنساء نحمل في داخلنا آثار أمهاتنا وبناتنا.» ثم تظهر المحكمة خالية، يلفها صمتٌ أبلغُ من أي كلمة.

في إحدى مشاهد الفيلم، تجلسُ راما على طاولة في غرفتها الفندقية التي تقضي فيها أيام المحاكمة، تشاهد المقاطع الأخيرة من فيلم بازوليني Medea المستوحى عن الميثولوجيا الإغريقية ميديا، وهي قصة امرأة ستنكرُ عائلتها ووطنها من أجل الحب، عندما تتبع رجلاً لإعطائه رمز القداسة «الصوف الذهبي» فيتمكن من عزل عمه واستعادة الحكم لأنه الحاكم الشرعي لبلاده. الفيلم يبدأ بالإشارة إلى لعنة «القداسة». ثم يعرض لنا بازوليني مشهداً دامياً للتضحية برجل في بلدة ميديا نفسها، وبعد أن يقتل بالفأس يحتفل أبناء القرية بشرب دمه وتناول أعضائه ويدهنون الشجر بالدماء ويزرعون من أعضائه بجانب البذور لكي تتبارك، تلتقط عدسة بازوليني الوجوه الساهمة أولاً والتي سرعان ما تتسابق على غمس يدها في الدم والمشاركة في هذا المهرجان التقليدي.

ثم نشاهد النساء يعملن بكد في الحقل، بينما ينتظر الرجال حصتهم من الطعام على طاولة أنيقة، يصاحب هذه المشاهد ترنيمة ساحرة بأصوات نسائية رثائية، تهويدات تلقي في الروح شعورا بمشقة حياة هاته النساء القادمة من زمن سحيق. لا موسيقى في الترنيمة، الصوت وحده يبكي عاريا ويتوسل شيئاً ما. إحدى المشاهد التي تود إعادة مشاهدتها مجدداً بالإضافة لمشاهد Landscape scenes التي صورها بازوليني في سوريا مثلاً بينما تقطعها الجيوش والعصابات.

ميديا أميرة هذه البلدة كانت تراقب كل هذا لكن يبدو أنها هائجة ومختلفة، يمكنني أن أطلق عليها صفة «البوفارية» نسبة لمدام بوفاري على الرغم من أن ميديا خرجت للوجود قبل رائعة فللوبير بزمن طويل، تدخل ميديا في وسط النار وتصرخُ بقوة، يتبع ذلك مشاهدتنا لتصميم عينيها على سرقة الصوف الذهبي والهرب به.

ثم وبعد أن تسلم الصوف لمن سيكون حبيبها ومخلصها، تضيع في وسط خلاء ممتد وشاسع، بينما الرجال ينصبون خيامهم حول تلك المنطقة باعتيادية، تصرخ ميديا» خاطبيني أيتها الأرض والشمس لم أعد أسمع صوتك، أيها العشب أيها الصخر أين يمكن أن أجدك» بينما تضيع ميديا في القفر. يضحك الرجال على الجانب الآخر وتستمر هي في تنديدها بنصب الخيام هنا، مطلقة تلك الرغبة الجامحة في الالتحام بالحياة.

بعد أن يعود حبيبها لقريته يقرر أنه لا يريد الحكم ويسلم عمه الصوف الذهبي الذي اشترط عليه إحضاره لكي يكون حاكماً، فما رآه في العالم في رحلته لجلب الصوف، كفيل بأن يشعره بضآلة هذه القرية وتفاهة أن يكون ملكاً عليها. نشاهد معاً الحب الملتهب بينه وبين ميديا، ثم مرور السنوات على علاقتهما التي سيتولد عنها طفلان. لكن قنطوراً يعود من جديد لزوج ميديا ليقول له» ألا تلاحظ أزمتها الروحية كامرأة تعيش في عالم يرفض ما تؤمن به» وبعدها بعشر سنين يقرر زوجها التخلي عنها ليتزوج من ابنة الملك، يخلف وراءه ميديا مسكينة ويائسة وتعتصر ألماً.

تخطط ميديا مع خادماتها على شيء ما، يبدو أنه خطير للغاية، تنهيه عنها إحدى الخادمات، لكن ميديا تقول لها: «لن تخبريه... أنتِ امرأة مثلي» وتأتي هذه الإشارة لتؤكد لنا كل صورة مرت في هذا الفيلم ومضمونه، الرابطة التي تجمع النساء، اليأس الواحد الذي نقتسمه معاً ونعرف أنه «لا يمكن أن ننفذ قوانين الكون بطريقة أخرى».

سيطرد والد العروس الجديدة ميديا من بلاده، لكنها قبل أن تخرج منها، تحممُ أطفالها، تغني لهم، تنيمهم في حضنها، وتقتلهم واحداً تلو الآخر. هذا هو المشهد المستعار في خاتمة قصة راما وكولي، راما تنظر برعب لما يمكن أن يحل بها وطفلها المنتظر، الأمومة خارج متنها الثقافي المعتاد كما عبرت عنه إيمان مرسال في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها».

تستخدم مخرجة الفيلم أليس ديوب Raw footage في كثير من مشاهد هذا الفيلم، مما يجعلها أقرب إلى الوثائقي، ربما لأنها وعندما حدثت القصة الأصلية كانت من ضمن الفريق المكلف بتوثيق المحاكمة. وهذه التقنية في التصوير تعتمد على اللقطات الخام غير المعالجة، فنشاهد الألوان والإضاءة كما تم التقاطها، وعادة ما يتجنب صناع الأفلام هذه الطريقة لأنها مكلفة جداً وتأخذ مساحات كبيرة في التخزين، في هذا الفيلم، نشاهد الكثير من الألوان، إلا أن الأصفر والبرتقالي يشعان على طول الفيلم، مما يجعل الفيلم تجربة بصرية شيقة ومثيرة.

أخيراً: علينا أن نتخيل أن طفلة راما تجرُ تاريخاً كاملاً مثل صخرة سيزيف، وعلينا أن نرى كم هي بائسة حتى قبل أن تولد.