Untitled-1
Untitled-1
عمان الثقافي

قراءة الفلسفة بالليل

26 يناير 2022
26 يناير 2022

ترجمة: أحمد شافعي -

مرة أخرى يحيط بي الليل، أشعر كأن البرق سطع، ولوهلة عابرة من الزمن كنت بالكلية في عنصري وفي نوري

نيتشه

العقل يحب المجهول. يحب الصور مجهولة المعنى، لأن معنى العقل نفسه مجهول.

ماجريتي

ارتسم على وجهي تعبير الهدوء المبالغ فيه لبستر كيتن. كان يمكن أن أكون جالسا على شفا جرف موليا ظهري للهاوية محاولا أن أبدو طبيعيا.

*

أقرأ الآن الفلسفة في الصباح. حين كنت أصغر سنًّا وأقيم في المدينة كنت أقرأها دائما بالليل. وتظل أمي تقول «هكذا أتلفت عينيك». كنت أجلس وأقرأ حتى وقت متأخر من الليل. وكلما ازداد الهدوء، ازداد دماغي صفاء، أو ذلك ما كان يبدو لي. في غرفة قليلة الأثاث فوق دكان بقالة إيطالي، كنت أكافح لأفهم حجة فلسفية عويصة واعدة في النهاية بخلاصة بديعة. كان بوسعي أن أستشعر ذلك بكياني كله، فما كنت أقدر أن أنحي الكتاب والوقت يتأخر كثيرا، وينبغي أن أذهب إلى العمل في الصباح. وحتى لو كنت حاولت النوم لظل رأسي مليئا بكانط أو بهيجل. فلا أستطيع إلى النوم سبيلا. وعند لحظة معينة أتخذ القرار. فأجلس والكتاب مفتوح ووجهي منعكس، غائما، على زجاج النافذة المعتم، والمدينة العظيمة كلها من حولي يغلبها السكون. وأراقب نفسي إذ تراقب نفسي. في تجربة بالغة الغرابة.

كنت في العشرين حينما حدثت للمرة الأولى. كانت الساعة السادسة صباحا. في الشتاء. في العتمة وفي البرد. كنت في شيكاجو متجها إلى العمل، راكبا القطار المعلق، جالسا بين عجوزين مثقلتين بالثياب. والتدفئة في القطار مرتفعة للغاية، لكن الباب كلما انفتح في إحدى المحطات المعلقة، هبت عصفة من الهواء البارد فسرت الرعشة في أبداننا. حتى المصابيح كانت تتذبذب، وكلما غيَّر القطار مساره انطفأت المصابيح للحظة وتوقفت عن قراءة تاريخ الفلسفة الذي استعرته من المكتبة في اليوم السابق. كان الكتاب يسأل نقلا عن برمينيديس «لماذا يوجد الشيء بدلا من اللاشيء؟» بدا وكأن عينيّ انفتحتا. لم أكن أملك أن أتوقف عن النظر إلى بقية الركاب وأنا أفكر، يا له من أمر لا يصدَّق، أننا جميعا كائنون هنا، أننا جميعا موجودون.

*

الفلسفة مثل الرجوع إلى الوطن. يعاودني حلم بالشارع الذي ولدت فيه. الوقت في الحي ليل دائم. وأنا أسير بمحاذاة مبان مألوفة على نحو غامض محاولا العثور على بيتنا، لكنه بطريقة ما ليس هناك. أرتد على أثري عابرا بتلك المباني القليلة، وكلها موجود إلا الذي أريده. ويتركني الجهد منهكا محزونا.

في نسخة أخرى من هذا الحلم، أرى بيتنا خطفا. ها هو ذاك، أخيرا، لكنني لسبب ما عاجز عن الاقتراب منه بأي شكل. ما من مصباح مضاء. أبحث عن شباكنا، لكنه أشد إعتاما في الطابق الثالث. يبدو المبنى كلُّه مهجورا. أقول لنفسي في فزع «لا يمكن».

حدث مرة في أحد تلك الأحلام، قبل سنوات كثيرة، أن رأيت في شباكنا شخصا، منكفئا كأنه يرقب الشارع في تركيز. كذلك كانت وقفة جدتي وهي تنتظر حتى وقت متأخر من الليل رجوعنا إلى البيت، لولا أن ذلك الشخص كان غريبا. فحتى دونما قدرة على تبين وجهه كنت على يقين من ذلك.

غير أنه لا يظهر أحد في الحلم في أغلب الوقت. تبقى لواجهات المباني ندوبها وغيرها من دلائل الحرب. مصابيح الشوارع مطفأة، ما من قمر في السماء، فليس واضحا لي كيف أستطيع أن أرى كل هذا في العتمة التامة. والشارع الذي أسير فيه طويل، خاو، لا نهاية له فيما يبدو.

*

كل من يقرأ الفلسفة إنما يقرأ نفسه بقدر ما يقرأ الفيلسوف. فأنا في حوار دائم مع أحداث حاسمة في حياتي مثلما أنا مع ما في الصفحة من أفكار. المعنى هو مادة وجودي. الجهد الذي أبذله للفهم إنما هو دوران مستمر حول قليل من الصور المسيطرة.

لديَّ -شأن غيري من الناس- حدسي. تجاربي جميعا تشكل ما يشبه أنطولوجيا لم يلقنها لي تعليم، فهي سابقة على جميع قراءاتي. وما أحاول فهمه بعون من الفيلسوف إنما سبق أن توصلت إليه بحدسي بالفعل.

وها هي طريقة في النظر إلى الأمر.

امتلأ عقلي من تأملي أمس بكثير من الشكوك فلم يعد بوسعي أن أنساها. ومع ذلك لا أعرف بأي طريقة يمكن أن أعالجها، وينتابني ـ كمن سقط على حين غرة في مياه بالغة العمق ـ قلق من أنني لا أستطيع أن أثبت بقدمي على القاع، ولا أستطيع أن أسبح فأرفع نفسي إلى السطح. وبرغم ذلك سوف أبذل جهدا وأمضي في الطريق نفسه الذي ولجته بالأمس، أي أنني سوف أشرع في تنحية كل ما يفترض وجوده من شكوك حتى أوهاها، وكأنني اكتشفت أنها جميعا زائفة تمام الزيف، وسوف أبقى على هذا الطريق إلى أن أصادف شيئا يكون يقينيا، أو إلى أن أعلم على الأقل، إن لم يتسن لي عمل أي شيء آخر، أنه ليس في العالم شيء يقيني. لقد رأى أرشميدس أنه كل ما يحتاج إليه لكي يجذب الكرة الأرضية من موضعها وينقلها إلى مكان آخر لا يعدو نقطة واحدة ثابتة غير قابلة للحركة، وبالمثل سوف يكون لي الحق في الطموح إلى الآمال الرفيعة لو أسعدني الحظ واكتشفت شيئا واحدا يكون يقينيا وغير قابل للشك.

أحب هذه الفقرة لديكارت، بدايته من جديد، وعزوفه عن الانخداع. فيها وصف لطموح الفلسفة بكل نبله وتهوره. أفضل شك ديكارت هذا على يقينه الشهير في مرحلة تالية. حيث لم يزل لشِعر اللايقين سحره. هو بالطبع طامع في المطلق، لكن الجميع كذلك، أم ماذا؟

*

ثمة أغنية شعبية في شرق أوروبا عن فتاة ظلت ترمي تفاحة إلى أعلى فإلى أعلى حتى علت بها فبلغت السحاب. والمدهش لها أنها لم تسقط. حبستها سحابة. انتظرت فاتحة ذراعيها، ولكن التفاحة بقيت بالأعلى. لم يكن في وسعها إلا أن استجدت السحابة، ولكن تلك قصة أخرى. يعجبني الجزء الأول إذ الحكم للمستحيل.

أتذكر رقدتي في خندق محملقا في بعض الحصى بينما القاذفات الألمانية تحلق فوق رؤوسنا. ذلك كان منذ زمن بعيد. لا أتذكر وجه أمي ولا وجوه الناس الذين كانوا معنا، لكنني لم أزل أرى تلك الحصوات العادية تماما.

يقول فتجنشتين: «ليس الملغز هو «كيفية» الأشياء في العالم، ولكن أنها موجودة». ذلك تماما هو ما أشعر به. كان الزمن قد توقف. وكنت أراقب نفسي إذ تراقب الحصوات وإذ أرتعش خوفا. ثم تحرك الزمن والتجربة انتهت.

بقيت الحصوات في مغايرتها، محفورة إلى الأبد في الذاكرة. هل بوسع اللغة أن تنصف مثل لحظات الوعي المرهف هذه؟ الكلام دائما أقل. عندما يتعلق الأمر بنقل ما يعنيه أن تكون واعيا بحق، يشعر المرء بمدى بؤسه.

يصف فتجنشتين الأمر على النحو التالي: «إن ما يعثر على انعكاسه في اللغة، لا تستطيع اللغة أن تمثّله. وما يعبر عن ’نفسه’ في اللغة، لا نستطيع أن نعبر عنه بطريق اللغة». هذه هي تجربتي التي خضتها مرات كثيرة. الكلمات معوزة، رائعة الفقر.

*

عرفت شخصا حاول ذات مرة إقناعي بغير ذلك. كان يعد نفسه وضعيا منطقيا. هناك من الناس من يحاول تذكيرك على سبيل المثال بأن لك أن تتكلم عن القلم الرصاص، في بعده ووضعه ومظهره وحالة حركته ومثل ذلك، لكن ليس عن ذكائه ومحبته للموسيقى. ولحظة أن أسمع ذلك، يثور بداخلي الشاعر وأريد أن أكتب قصيدة عن قلم رصاص ذكي مغرم بالموسيقى. أي أن ما يعده هؤلاء الناس هراء أشك أنا في أنه حافل بالإمكانيات.

تحكى عن فتجنشتاين وزميل له في كمبريدج هو الاقتصادي الإيطالي بييرو سرافّا قصة بديعة. الظاهر أنهما كانا كثيري النقاش في الفلسفة. و«ذات يوم» حسبما يحكي جوستوس هارتناك «عندما كان فتجنشتين يدافع عن رؤيته بأن للفرضية نفس الشكل المنطقي للحقيقة التي تصورها، أتى سرافا بحركة يستعملها أهل نابولي للتعبير عن الازدراء وسأل فتجنشتين عن الشكل المنطقي لتلك الحركة؟ وبحسب ما يروي فتجنشتين نفسه، كان ذلك السؤال هو الذي جعله يدرك أن اعتقاده بأنه يمكن أن يكون للحقيقة شكل منطقي هو اعتقاد لا يمكن الدفاع عنه».

أما صديقي «المنطقي» فظللنا نتجادل طيلة الليل. زعم أن «ما لا يمكن قوله، لا يمكن التفكير فيه». ثم قال ـ بعد أن تفوهت بشيء عن أن الصمت هو لغة الوعي ـ «أنت صامت لأنه ليس لديك ما تقول». على أي حال، وصلنا إلى مرحلة قول أحدنا للآخر «أيها الغبي». كنا نشرب كميات هائلة من النبيذ الأحمر، ونسيء فهم أحدنا الآخر إلى أقصى حد، ولم نتوقف عن المشاجرة إلا حينما وقفت زوجته شعثاء الشعر بباب غرفة نومها وقالت اخرسا.

وحينذاك حكيت له قصة.

*

ذات يوم في يوغسلافيا، بعد الحرب بالضبط، قمنا برحلة مدرسية إلى المتحف الحربي في المدينة. في المدخل عثرنا على دبابة ألمانية مضروبة، فابتهجنا. وبالداخل كان يمكن النظر إلى قليل من البنادق والقنابل اليدوية والأزياء الرسمية، ثم لا شيء أكثر من ذلك. أغلب المساحة استولت عليها الصور الفوتغرافية. وهذه كنا نتأملها في حماس. فيرى المرء أناسا شنقوا أو موشكين على الشنق. والجلادون واقفون على مقربة يدخنون. كان ثمة كومات من الجثث في كل مكان. بعضها عارٍ. رجال ونساء مكشوفو العورات. ضحك أحد الأطفال من ذلك.

ثم رأينا رجلا يذبح بناء على طلبه. جلس القاتل على صدر الرجل وفي يده سكين. بدا سعيدا بتصويره. لا أتذكر عيني الضحية. كان حولهما بعض الرجال واقفين يحملقون. وفي السماء سحابات.

كان ثمة سحابات، وعشب، وجذوع شجر، وآكام، وصخور، لا يلتفت إليها أحد. في إحدى الصور كسا الجليد الأرض. هو صباح بائس من يناير تصطك فيه الأسنان وثمة شخص يزيد شقاء الحياة على شخص. أو ينهمر المطر. مطر ضئيل قاس يزيل الدماء عن الأيدي على الفور، ويصيب أحد القتلة بالبرد. تخيلته جالسا في ليلة ذلك اليوم بقدميه في سطل ماء دافئ يحتسي الشاي.

خطر لي ذلك لاحقا. بعد أن رأينا كل ما تمكن رؤيته، أجلسونا في المرج خارج المتحف لتناول غدائنا. كان طعاما بائسا. أغلبنا تناول مربّى البرقوق مدهونا على شرائح خبز. وقليلون تناولوا شرائح لحم الخنزير بالبابريكا. وأحد الأطفال لم يكن معه غير خبز وكراث. أخمن أن ذلك كان كل ما في بيتهم في ذلك اليوم. طاب الأمر للجميع. أخرج أحدنا شريحة خبزه الأسمر السميكة ورماها في الهواء. علقت في شجرة. حاول الولد المسكين أن يستعيدها برمي الحجارة عليها. وظل يخطئ التصويب. حاول أن يتسلق الشجرة. فظل ينزلق واقعا. حتى المعلم الذي جاء ليرى فيم تلك الجلبة رأى الأمر يميت من الضحك.

أما العشب، فكان منه الكثير، وكل عشبة فريدة، مسنونة. وفي السماء سحاب وكثير من الذباب البدين الذي تصادفه في المجازر، فظل يزعجنا ويقطع علينا ضحكنا.

*

وها هو ما دار في رأسي في الليلة الماضية وأنا مستلق يقظا أفكر في حجة صديقي:

لم تكن للقصة التي حكيتَها له علاقة بما كنتما تتكلمان عنه.

كانت القصة وثيقة العلاقة بما كنتما تتكلمان عنه.

يمكنني أن أثير مائة اعتراض بعد كل تلك السنين.

الأغبياء فقط هم الذين يطالبون بشيء مضبوط، شيء قاطع ـ ولا أتكلم ما لم أكن أعرف.

آها، أنت تخلط الشعر بالفلسفة. فتجنشتين ما كان ليعيرك اهتماما.

يقول جاسبر جونز: إن «كل شيء يبدو لي شديد الانشغال» وتلك مشكلتي أنا الآخر.

أتذكر قطة غريبة، شديدة الهزال، أخذت تخمش بابي بينما كنت أخمش رأسي مكافحا مع فينومينولوجيا الروح لهيجل.

من قال «كل ما يمكن التفكير فيه لا بد أن يكون خياليا»؟

نلت مني هنا! ما رأيك في كعكة يا هيجيل؟

ومع ذلك كل.. وفوق كل شيء! ودعنا لا ننسى «فوق كل شيء».

ها هو ما قاله نيتشه للسقف: «تتحدد رتبة الفيلسوف برتبة ضحكه». لكنه لم يكن قادرا فعلا على الضحك. مهما بذل فريدرش من جهد، لم يكن يقدر فعليا على الضحك.

أعرف لأنني خبير المفارقات. كل المتناقضات حسنة المنظر تحبني وتأتي لزيارتي في سريري ليلا.

كُلْ طماطم يا أفلاطون.

***

لوالاس ستيفنس العديد من القصائد الجميلة عن آحاد القراء في وحدتهم. منها قصيدة «كان البيت هادئا والدنيا ساكنة». وفيها كلام عن «الحقيقة في عالم ساكن». وهذا يحدث. يسكن العالم ويسكن العقل حتى لتصبح الحقيقة مرئية.

لا بد أن يكون في وقت متأخر من الليل «أن يسطع النور الذي يجعل الأشياء الكائنة تكون»، ذلك هو نور الأرق. وتنجذب عزلة قارئ الفلسفة إلى مقربة من عزلة الفيلسوف. والانطباع بأن أحدهما يفكر ويتوقع أدق انعطافات تفكير الآخر وبدء الفهم الحقيقي.

يعتمد الفهم على العلاقة بين ما نحن إياه وما كنَّاه: كينونة اللحظة. يحرك الوعي ضميرنا، وتاريخنا. الوعي بوصفه نور الصفاء والتاريخ بوصفه ليل الروح المعتم.

*

مسرات الفلسفة مسرات اختزال ـ تجليات الإشارة في كلمات قليلة إلى أمور معقدة. كلا الشعر والفلسفة، على سبيل المثال، يعنى بالكينونة. قد يتساءل المرء ماذا تكون القصيدة الغنائية إن لم تكن خلقا جديدا لتجربة الكينونة. حاجة في كلتا الحالتين إلى تصفيتها حتى جواهرها، إلى قول ما لا يمكن قوله، وإتاحة المجال لتسطع عبرها حقيقة الكينونة.

التاريخ، في المقابل، مضاد للاختزال. لا مجال فيه للترتيب. فوضى! هرج ومرج! خليط بائس! تاريخي الشخصي وتاريخ بلدي أشبه بولد وأمه العمياء في الشارع. تغمغم، متحدثة إلى نفسها، تغني وتندب فيما تتقدمه في الطريق عند تقاطع مزدحم.

قد تحسب أن المعنى الوحيد للتاريخ هو أن توقف الحقيقة سعيدة على رأسها!

مسكين الشعر. شأن بستر كيتون رابط الجأش، الوحيد، برفقة امرأة يحبها، على متن سفينة تبحر في بحر عاصف. بل وهذا مثال أفضل: فيما هو ينجرف مرة أخرى في محيط مترامي الأطراف، تقابله لافتة، هي في الحقيقة هدف تتدرب عليه البوارج في التصويب. يتسلقها كيتون، يستخرج صنارته وطعمه، ويصطاد في وداعة. ذلك شأن الشعر العظيم. سكينة فائقة في وجه الفوضى. عنده من الحكمة ما يجعله يلعب دور الأبله.

ودائما التناقضات: أحب دون كيخوته وطواحينه في رأسي بينما سانشو بانثا وبغله يرفس في قلبي.

هذا مجاز وحسب. ومن ذا الذي يمكن أن يعيش بغير المجاز؟ هل المجاز يقول الحقيقة؟ هل يخفيها؟ بصدق لا أعرف. لذلك أنا دائم الرجوع إلى الفلسفة. أحب أن أتعلم كيف أفكر بصفاء في هذه الأمور.

*

هو الصباح. هو الليل. الكتاب مفتوح. النص صعب، النص لوهلة غائم. عقلي هائم. عقلي يكافح ليقتنص المراوغ على الدوام، المشير على الدوام ـ مهما يكن.

المجهول. المجهول. لا أكف عن مناداته. أبدٌ من «المجهول» دونما سابقة واحدة، كأنه طاقة كونية كامنة في أذني.

إذ ذاك، على وشك اليأس، أعثر على ما يلي في صفحة عند هيدجر: «لم يحدث لمفكر قط أن دخل عزلة مفكر آخر. ومع ذلك فمن العزلة، والاختباء، يخاطب كل تفكير ما يلاحقه من تفكير أو ما سبقه من تفكير».

لوهلة يجتمع الكل: الشعر والفلسفة والتاريخ. أرى ـ بمعنى أنني أكون قادرا على أن أتصور وأن أشعر ـ ما في عزلة الآخر من ثقل إنساني. الكثير منهم جالسون برفقة كتاب. انبلاج الفجر. فكر يتحول إلى صورة. صورة إلى فكر.

تشارلز سيميك ‏ شاعر ومترجم وكاتب مقالات أميركي من أصل صربي ولد في مدينة بلغراد بيوغوسلافيا السابقة.

أحمد شافعي شاعر ومترجم مصري