No Image
عمان الثقافي

قبل الموت بقليل. بعد الحياة بكثير شهادة عن الكتابة الروائية

22 فبراير 2023
22 فبراير 2023

في لحظة تجلّ بشرنا شاعر بأن الموت مهزوم لا محالة أمام الفنون جميعها. إلا أننا نعلم في قرارة أنفسنا أنه ما من فنّ أصيل إلا وله بالموت وشيجة. نعرف مثلا أن بورخس – الشاعر والأديب الأرجنتيني الأشهر- يعرّف الشعر بـ«أن ترى في الموت حلمًا، وفي غروب الشمس حزنًا ذهبيًّا»!. ونعرف أيضا أن تادووش كانتور –المسرحي البولندي الكبير- يسمّي مسرحه بــ«مسرح الموت»!. أما الرواية فيكفي أن نقتبس بخصوصها مقولة الناقد الأدبي البريطاني فرانك كيرمود Frank Kermode في كتابه «الإحساس بالنهاية» The Sense of an Ending التي يرى فيها أن «الروايات في كل أشكالها ما هي إلا وسائل مختلفة لمقاربة حقيقة الموت التي ستختبرها كل الكائنات البشرية: الحركة المتواترة للروايات نحو الخواتيم واجتلاء المعنى في النصوص الروائية ما هي إلا نماذج تقارب حيواتنا البشرية التي تتحرّك حثيثا نحو الخاتمة - الموت وتسعى خلال حركتها تلك لتخليق وسائل تخلع معنى ما على ذواتنا في حياتنا(1)».

من هذا المنطلق يتبدى لنا إلى أي مدى يحضر الموت في حياة أي أديب، ليس فقط فيما يكتبه من أدب، بل ما قبل هذه الكتابة وما بعدها. هنا، يغدو حديث الكاتب عن أعماله الأدبية بشكل أو بآخر حديثا عن الموت وتمثلاته، يقاربه من وجهة نظر خالق هذا العمل الأدبي، وصانع الحياة فيه وفي شخصياته، لماذا كَتَب لهذه الشخصية الحياة؟، ولماذا قرر لتلك الموتَ الشنيع؟. بل إنه يتفرّج أحيانًا على هذه الشخصيات –بانتشاء أو بامتعاض- وهي تفك القيود التي كبلها بها، وتذهب مختارةً إلى مصائرها رغمًا عنه، مصائرها التي لن تخرج عن واحد من ثلاثة: الحياة أو الموت أو المنطقة الفاصلة بينهما.

* * *

هذه ليست المرة الأولى التي أسرد فيها حكاية دخولي عالم الرواية بالصدفة، وبسبب الموت تحديدا؛ موت حلاق بنغالي في قريتي العُمانية «الرَدّة» صباح يوم من أيام ربيع عام 2012م. كان الحلاق قد سكت قلبُه للتو فحُمِل من عُمان في تابوت ونُثِر رماده في أحد أنهار بنغلاديش. وقتها كنتُ قد أمضيت سبعة عشر عاما في كتابة القصة القصيرة كانت محصلتها ثلاث مجموعات قصصية متباعدة النشر، ولم يكن لائحًا في الأفق أنني سأكتب رواية. غير أن شوزيت مات فأدخلني هذا العالم دون قرار أو تخطيط مسبق. لم يكن مجرد حلاق في «الردة» التي أضحت الآن أقرب إلى مدينة منها إلى قرية، بل شاهدًا من غير أهلها على جميع تحولاتها العمرانية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية. قضى فيها سبعة وعشرين عاما هي أكثر من نصف عمره عندما مات. وبسبب مهنته، لم يبق رأس في الردة إلا وانحنى لهذا البنغالي العصامي. عندما رحل في ذلك اليوم من 2012م، كنتُ متأثرًا بقراءاتي لبعض الكتب التي تتضمن بورتوريهات سردية عن أشخاص أو أماكن. كتاب «رحيل» لعبدالله حبيب مثلا الذي رثى فيه ست عشرة شخصية معروفة ومغمورة بأسلوب آسر، وبورتوريهات الشاعر صالح العامري لأصدقائه في ملحق «شرفات» الثقافي، وبعض بورتوريهات «أخبار الأدب» المصرية في صفحتها الأخيرة، وسرد سليم مطر عن أبيه في «اعترافات رجل لا يستحي»، وغيرها، فكان أن قررتُ أن أرثي شوزيت ببورتوريه مماثل.

بعد نشر النص الذي كان عنوانه «رماد شوزيت» دهشتُ من القبول الحسن الذي لاقاه، ليس فقط من الأصدقاء الكتّاب، والقراء الذين يمكن تسميتهم «نخبويين»، ولكن أيضا من أولئك البسطاء في «الردة» الذين لم أعتد منهم سابقًا أي تغذية راجعة على ما أكتب، لدرجة أنني لم أكن أعرف أنهم يقرؤونني أصلا. حينها التمعت في رأسي فكرة: لَمْ يكن شوزيت إلا واحدًا من شخصيات مدهشة كثيرة عايشتُها وأعايشها كل يوم. لِمَ لا أبدأ سلسلة بورتوريهات عن هذه الشخصيات؟ سيكون كتابًا سرديًا رائعًا ولا شك، هكذا منّيتُ نفسي. تذكرتُ حينها صديقي زاهر المحروقي الذي كان لا يمل من تحريضي على استثمار ما يصفها بــ«الشخصيات الروائية» التي يضج بها مكان عملنا المشترك: إذاعة سلطنة عُمان. قلتُ سأبدأ بأكثرها إدهاشا بالنسبة لي.

* * *

كان بسيوني سلطان(2) رجلا مصريا سبعينيًا ذا أنف طويل، متدينًا، لسانه رطب بذكر الله، ولا يحب الجهر بالفحش من القول إلا في حالة واحدة يتيمة: إذا ذكرتَ أمامه – عمدا أو خطأ، لا فرق - اسم الزعيم جمال عبدالناصر!. كانت علاقتنا عادية في بدايات تعرّفي به، أو لِنَقُلْ إنها فاترة بسبب عدم تقبله تعليقًا لي على خطأ يخص عمله. وذات يوم، وبينما كان الحديث مع الزملاء في العمل عن مآلات الربيع العربي ذكر أحدُنا بشكل طبيعي جدًا اسم جمال عبدالناصر فكان أن هدرت القاعة فجأة بصراخ وشتائم بسيوني: «الله يلعنه، ويلعن اللي يتشدد له». ثم ما لبث أن تكرر هذا المشهد بعد ذلك وإن بطرق أخرى وتفاصيل مختلفة، وأحيانًا متعمّدة.

استعدتُ بعضا من حكاياته وقفشاته وسجلتها كتابةً. لكن ذلك لم يكن كافيًا، فكل هذه الحكايات لا تقدم بسيوني إلا من الخارج، وكنت بحاجة لأن أراه من الداخل، من جوانياته العميقة. ولأني لم أكن من أصدقائه المقربين، ولا أمَلَ لي أن أصبح صديقه بعد أن أعلنت أمامه مرةً بشكل متعمّد حبي لجمال عبدالناصر، فقد كان يلزمني الاقتراب منه عن طريق وسيط. كنتُ مدركًا في داخلي أن وراء هذا الرجل الذي لا يطيق عبدالناصر حكايات مدهشة تستحق أن تُروى، سواء أكانت في بلده الأصلي مصر، أو في بلده الثاني عُمان الذي قضى فيه خمسة وثلاثين عاما. لحسن الحظ أنه كان لنا – هو وأنا - صديق مشترك هو نفسه الرجل الذي كان يشجعني دومًا على الكتابة عن شخصيات محيطة بي: زاهر المحروقي. ولم يكن زاهر – لحسن حظي مرة أخرى - مجرد سارد عادي، ولكن يخلط السرد بالتحليل النفسي القادر على إقناعك بالبواعث التي أرغمت فلانًا على هذا القول وعِلانا على ذاك الفعل. طلبتُ منه بعد أن شرحتُ له رغبتي في الكتابة عن بسيوني، وبعد أن وعدته بأن يظل حديثه سرا بيننا أن يسرد لي كل ما يعرفه عن هذه الشخصية العجيبة، وألا يتردد في قول كل ما يعرفه عنه أو يحس به تجاهه، فوافق وأدرتُ زر التسجيل.

وكما يحدث دائما، فإنك تجلس لتكتب شيئًا فإذا بالكتابة تقودك لشيء آخر. كانت حكايات بسيوني تتناسل أثناء الكتابة، ولأن «الخيال لا يكتمل إلا بالحياة، والحياة لا تُفهم إلا من خلال القصص التي نرويها عنها» (3) كما يقول بول ريكور، فقد أغرتني هذه الحكايات بردم بعض ثغراتها الواقعية بلطافة الخيال، وهكذا حذفتُ تفاصيل وأضفتُ تفاصيل أخرى حتى لم يعد بسيوني سلطان الواقع هو نفسه بسيوني سلطان الخيال. وكان القرار أن يتحول البورتوريه السردي إلى رواية. أما العنوان فلم ألاقِ صعوبة في البحث عنه: «الذي لا يحب جمال عبدالناصر».

* * *

أستطيع القول إن الموت كان هو الناظِم لعقد رواية «الذي لا يحب جمال عبدالناصر» والمرتِّب لأحداثها. الموت بشقيه: الذهاب إليه والعودة منه. الذاهب إليه هو بسيوني سلطان بالغيبوبة الطويلة في بداية الرواية، التي كان سببَها العائدُ من الموت جمال عبدالناصر بعد اثنين وأربعين عاما من وفاته. بيد أننا سنكتشف في نهاية الرواية أن أحداثها جرتْ لبسيوني قبل الموت بقليل، وبعد الحياة بكثير.

بدأت أحداث الرواية في 23 يوليو 2012م الذي يوافق الذكرى الستين لثورة 23 يوليو في مصر، وفي الآن ذاته هي الذكرى الثانية والأربعون لتولّي السلطان قابوس الحكم في عُمان في 23 يوليو 1970م. إذن، فهو تاريخ هام وذو مغزى في مكانَيْن عربيَيْن مختلفَيْن ويستحق أن تبدأ به رواية تقدم نفسها كراصدة –أو محاوِلة على الأقل- لمسير ومصير الربيع العربي الذي كان وقتها في أَوَجِّه. فهو تاريخ برر لجمال عبدالناصر طلبَ مغادرة القبر والعودة – ولو بشكل مؤقت- إلى الحياة في مصر التي حنَّ إليها، وبرر – من جهة ثانية- للكاتب بدء سرده عن عُمان في يومٍ كان يُطلق عليه «يوم النهضة» ويُحتفل به هناك سنويًا، بل ويكون عادةً يوم إجازة رسمية. إذن، هذا هو التاريخ المناسب للعودة والمغادرة المؤقتتَيْن للحياة، من قِبل بطلَيْ هذه الرواية الحاضِرَيْن الغائبَيْن فيها: جمال عبدالناصر وبسيوني سلطان. أو لنقُلْ الذهاب المؤقت للموت من قبل بسيوني، والعودة المؤقتة منه من قبِل عبدالناصر. وكأن الشخصيتين لا يمكن أن تتواجدا معًا في حياة واحدة أو موت واحد، إذْ تفضي حياةُ أحدهما بالضرورة إلى موت الآخر، ويؤدي موت أي منهما إلى بعث الآخر وتمتعه بالحياة!.

يسأل بطل رواية «السقطة» لألبير كامو: «هل لاحظت أنّ الموتَ وحده هو الذي يوقظ مشاعرنا؟ وكيف أننا نُحب الأصدقاء الذين غادرونا لتوهم؟ وكيف نُعجب بأولئك الأساتذة الذين لمْ يعودوا يتحدثون، بعد أن ملأ التراب أفواههم! حينئذ ينبثق التعبير عنْ الإعجاب طبيعيًا، ذلكَ الإعجاب الذي ربما كانوا يتوقعونه منا طيلة حياتهم. ولكن، أتعرف لماذا نكون دائما أكثر عدلا، وأشد كرما نحو الموتى؟ السبب بسيط. فليس هنالك التزام نحوهم. إنهم يتركوننا أحرارا» (4)!. نفس هذا المعنى سيكرره بعد ذلك جورج أمادو في روايته «ميتتان لرجل واحد»: «حين يموت الإنسان يحظى آليًّا باحترام الناس، مهما كانت الحماقات التي ارتكبها في حياته، فالموت يمحو بيد الغياب شوائب الماضي، فتشرق ذكرى الراحل العزيز منزّهة عن الخطأ كإشراقة الماس.(5)» هذه الرؤية حول تبجيل الميت رغم حماقاته عندما يكون حيًّا، واحترامه بسبب عدم الالتزام له بشيء، إذا ما سحبناها على بطل «الذي لا يحب جمال عبدالناصر» فإنه يمكن القول إن الموت هنا – غيبوبة بسيوني بالأحرى- لم يكن إلا حيلة سردية لقول ما يمكن قوله عن هذه الشخصية الروائية بحرّية وتجرد. ومن هنا يأتي اختياري أن تكون الرواية بوليفونية أو رواية تعدد أصوات، فمن خلال الحديث من زوايا نظر متعددة عن شخص ميت تبرز الحياة بحلوها ومرها، بمكابداتها وتناقضاتها المختلفة، وتتضح معالم الشخصية بكل ما فيها من مزايا تستحق الإطراء، أو عيوب تستأهل الذم. هذا الموت هو مثلا ما جعل رئيسَ بسيوني المباشِر في العمل ينسى غيظه منه ويحاول مساعدته بكل ما يملك من سلطات: «كان يغيظني أحيانا ويحرق أعصابي، ولكن حين أقارن سيئاته بحسناته فإن هذه الأخيرة هي التي ترجح. أظن أنه من المناسب أن أخبركم أنه بعد هذه الرقدة الطويلة في المستشفى فإني رأيت أن اللياقة تقتضي أن يجد - حين يفيق من غيبوبته - عقده وقد جُدِّد لسنة أخرى. سوف يرفع هذا الأمر من معنوياته في وقت هو فيه في أمسّ الحاجة إلى معنويات. وحتى الشهرُ المتبقي من العقد القديم سأمنحه إياه إجازة مدفوعة الأجر ليقضي فترة نقاهة في بلاده»(6). وهذا الموت هو أيضًا - لا غيره - ما جعل ألدّ أعداء بسيوني في الرواية سالم الخنصوري أقل حقدًا وأكثر صفاء نفسيًا من ذي قبل، بل ويعترف – برغم أنه يعتبر بسيوني حاقدًا وشريرًا- أنه –أي سالم- هو الأكثر حقدًا وشرًّا بينهما: «أعرف أن بسيوني يحقد عليَّ بشدة، ربما بنفس درجة حقده على عبدالناصر. ولكن ألستُ أنا سببَ هذا الحقد؟! ألا يعني تلذذي بمضايقته أن ثمة بذرة حقد داخلي أنا أيضا، يؤججه بسيوني بشتائمه وشكاواه، وأنا بدوري أؤجج حقده بتذكيره بالشخص الذي يود لو ينساه. عليَّ أن أعترف لكم أنني أشعر الآن أنني أقل حقدًا وأكثر صفاء نفسيا خلال هذه الفترة التي غاب فيها بسيوني عن الوعي. لا تفهموني خطأ من فضلكم: فأنا أكثر إنسان على هذه الأرض سيحزن لو لم يُفِقْ بسيوني من غيبوبته هذه. أنا فقط كنت أقول إنه بمجرد أن نام حقد بسيوني نام حقدي أنا أيضا، وكأنهما توأم سيامي لا يمكن لأحدهما العيش بدون الآخر. ولكن حقد بسيوني – وهذا اعتراف آخر – كان أكثر شرفا ونبلا من حقدي: فهو يظهر بوضوح وبلا مواربة ولا نفاق، يغضب بسيوني فيشتمني أو يلعنني أو يشكوني دون أن يغيّر وجهه المعروف لدى الجميع. أما أنا فعندما أغضب منه فإنني أجاهد نفسي لكي لا تخرج مشاعري الغاضبة على هيئة صرخة أو شتيمة أو شكوى. أخلع وجه الذئب الغاضب وأضع مكانه وجه الحمل المبتسم الذي لا يجد ما ينفّس به عن غضبه سوى تذكير بسيوني بما يكره. إذا لم يكن هذا شرّا فما هو الشر؟!»(7)

***

«شهادة وفاة كلب» هي روايتي الأخرى التي يحضر فيها الموت منذ العنوان. ولا أدري إلى أي مدى يحق لي وصفها بــ«روايتي» في حين أن غلافها يحمل أيضًا اسم كاتب آخر شاركني كتابتها هو الصديق الروائي العُماني عبدالعزيز الفارسي. في الحقيقة ترددتُ كثيرًا في الكتابة عنها وتساءلتُ إن كان يحق لي الانفراد بالحديث عنها بعيدًا عن مؤلفها الآخر. غير أن ما شجعني على كسر التردد هو معرفتي أن الرواية – أي رواية - لا تعود بعد النشر ملكًا لكاتبها، وإنما للقراء، أيًّا كانت توجهاتهم أو خلفياتهم الثقافية. حتى وإن ظهر أن أحد هؤلاء القراء كان –بالصدفة- مؤلفها!. يجوز لي إذًا أن أعود إليها كقارئ هذه المرة، خاصة بعد سنوات من نشرها سمحتْ للكاتب فيَّ أن يبتعد عنها مسافة زمنية ليست بالقصيرة. يموت المؤلف كما أراد له رولان بارت، ويحيا مكانه في الجسد ذاته شخصٌ آخر هو القارئ ليستنطق الرواية وشخصياتها وأحداثها. ذلك أن السرد لا يتحدث بنفسه، وإنما يحتاج لقراءةٍ تستنطقه كما يخبرنا الناقد مارك كوري في كتابه «نظرية السرد ما بعد الحداثية»، و«سوف تكون القراءة دائما نوعًا من الكتابة»(8)، ها أنا إذًا أعيد كتابة الرواية قارئًا. ولكن القراءة لا يمكنها تأويل النص في إطار من الحرية الكاملة، يضيف كوري، «لا يمكنها قول أي شيء تريده. يوجد دائما نوع من المراوحة بين الموضوعية والذاتية في القراءة: إن القراءة تبدع السرد بنفس القدر الذي يبدعها»(9).

إذا كانت الغيبوبة، شقيقةُ الموت والممهّدةُ لطريقه، تتضح لقارئ «الذي لا يحب جمال عبدالناصر» منذ الفصل الأول، فإنه لا يمكن الانتباه إليها في «شهادة وفاة كلب» إلا في الصفحة الأخيرة، وإذا كانت الرواية الأولى تنتهي نهاية مفتوحة دون أن يعرف القارئ هل عاد بسيوني سلطان إلى الحياة من غيبوبته الطويلة تلك، أم واصل طريقه إلى الموت، فإن الرواية الثانية تقدم نهاية مغلقة واضحة بأن بطل الرواية الذي لا اسم له قد مات، ليكتشف القارئ أن كل أحداث الرواية التي نافت على ستين عامًا – هي عُمر القضية الفلسطينية آنئذ- إنما حدثت في ساعتين خارج الحياة وخارج الموت أيضًا. إنها الغيبوبة من جديد تطل في الرواية الثانية كما الأولى دون تخطيط مسبق –في الجانب الواعي من الكتابة على الأقل-. حتى الموت الذي يحدث في هذه الرواية والمتمثل في انفجار طائرة قبيل نهاية الرواية لا يحدث إلا داخل الموت الأصغر الذي هو الغيبوبة. إنها أحداث تجري في «شهادة وفاة كلب» قبل الموت بقليل، وبعد الحياة بكثير.

* * *

إذا كنتُ أتحدث عن الموت في روايتَيَّ بتجرّدِ قارئ، كما سبقت الإشارة، فإنه يطيب لي أن أختم هذه الشهادة بحديثِ روائيّ آخر، لا يمكن إلا أن نحترم تماهيه مع فكرة الموت حدّ أنه لم يعترف بتلك الشعرة الرقيقة التي تفصل بينه وبين الحياة. إنها فقرة مؤثرة أقرب إلى صرخة وجودية في وجه الموت من روائي نعرف أنه ذهب إليه باختياره، مُلغِيًا تلك المسافة التي يضعها الروائيون عادة بين الكتابة والحياة. إنه الروائي الإيراني صادق هدايت الذي يكتب في روايته «البومة العمياء»: «إنه الموت فقط هو الذي لا يكذب!. إنه حضور الموت الذي يقضي على جميع الأوهام ويفنيها. نحن أطفال الموت، والموت هو الذي ينقذنا من جميع خداعات الحياة، وفي أعماق الحياة هو الذي ينادينا ويومئ إلينا- وفي الأعمار التي مازلنا لا نفهم فيها لغة الناس إذا مكثنا أحيانا في قلب اللعبة، فذلك من أجل أن نسمع صوت الموت. وطوال العمر هو الموت الذي يشير إلينا»(10).

مراجع الشهادة :

1- «الذي لا يحب جمال عبدالناصر»، سليمان المعمري، الانتشار العربي، بيروت، ط2، 2014م.

2-«شهادة وفاة كلب»، سليمان المعمري وعبدالعزيز الفارسي، الانتشار العربي، بيروت، 2016م.

3- السقطة، ألبير كامو، ت: أنيس زكي حسن، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1964م.

4- ميتتان لرجل واحد، جورج أمادو، ت: عبدالجليل العربي، مسكلياني للنشر والتوزيع 2015م.

5- البومة العمياء وقصص أخرى، صادق هدايت، ترجمة ودراسة د. إبراهيم دسوقي شتا، مكتبة مدبولي. 1990م.

6- الرواية المعاصرة : مقدمة قصيرة جدا، روبرت إيغلستون، ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي دار المدى. 2017م.

7- الوجود والزمان والسرد. فلسفة بول ريكور، ترجمة وتقديم: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت 1999م.

8- نظرية السرد ما بعد الحداثية، مارك كوري. ت: السيد إمام، شهريار للنشر والتوزيع، العراق. 2020م.

هوامش:

1- الرواية المعاصرة : مقدمة قصيرة جدا، روبرت إيغلستون، ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي «دار المدى»، 2017م. ص 181 و182

2- بسيوني سلطان ليس هو الاسم الحقيقي لهذه الشخصية، ولكنني سأسميه بهذا الاسم بما أن هذا هو الاسم الذي عُرِف به في روايتي الأولى.

3- الوجود والزمان والسرد. فلسفة بول ريكور، ترجمة وتقديم: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت 1999، ص52 و53.

4- السقطة، ألبير كامو، ت: أنيس زكي حسن، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1964م، ص29.

5- ميتتان لرجل واحد، جورج أمادو، ت: عبدالجليل العربي، مسكلياني للنشر والتوزيع، 2015م، ص13.

6- الذي لا يحب جمال عبدالناصر، سليمان المعمري، الانتشار العربي، بيروت، ط2، 2014م، ص 101.

7- المصدر السابق. ص 140 و141

8- نظرية السرد ما بعد الحداثية، مارك كوري، ت: السيد إمام، شهريار للنشر والتوزيع، العراق، 2020م.

9- المصدر السابق.

10- البومة العمياء وقصص أخرى، صادق هدايت، ترجمة ودراسة د. إبراهيم دسوقي شتا، مكتبة مدبولي، 1990، ص 157.