عمان الثقافي

قارع الأجراس العجوز

24 أغسطس 2022
24 أغسطس 2022

فلاديمير كورولينكو -

الترجمة عن الروسية: أحمد م الرحبي -

أظلمت.

القرية تنام بهدوء.

قرية صغيرة، تحتمي بنهر ناءٍ وغابة تغرق في ذلك الشفق الفريد الذي تمتلئ به ليالي الربيع المرصّعة بالنجوم، حين يرتفع ضبابٌ رقيق عن الأرض، يعمّق ظلال الغابة، وبغلالة زرقاء لازوردية يغطي المساحات المفتوحة... الكون هاجعٌ، مطرقٌ وحزين.

بالكاد تُبرِز الأكواخُ الفقيرة حوافها السوداء؛ هنا وهناك تومض الأضواء؛ البوابات تصرُف بين الحين والآخر؛ كلبٌ متحفزٌ ينبح ويصمت؛ أحيانا تلوح أجسامُ المارّة في عتمة الغابة ذات الهمهمة الواطئة؛ يمرُّ راكبٌ وتئن العربة.

وها هم سكّان القرى الغابوية المعزولة يجتمعون في كنيستهم للاحتفال بعيد الربيع.

الكنيسة تتربع على تلٍ في وسط القرية. نوافذها تلمع بالأضوية. برج الأجراس قديم وعال ومعتم فيما تغوص قمته في الضوء الأزرق السماوي.

درجات السلّم تصدر أزيزا. إنه قارع الأجراس العجوز ميخيتش يصعد البرج وعمّا قريب سيسطع فانوسه في الفضاء مثل نجم يحلّق في الهواء.

**

يصعب على الشيخ صعود السلم شديد الانحدار. ما عادت قدماه الهرمتان تحملانه فجسمه متهالك وبصره حسير. لقد آن الأوان للرجل العجوز أن يستريح ولكن الله لا يعاجله بالموت. دفن أبناءه ووارى الثرى أحفاده وشيع الكبار والصغار إلى مثواهم الأخير بينما هو في ربقة الحياة ما زال. إنه لشيء صعب. كم مرّة احتفل فيها بعيد الربيع، هنا في هذا البرج نفسه، كان خلالها ينتظر ساعته الموعودة، ثم ها هو الله يعيد العيد مرّة أخرى.

وصل العجوز إلى منصة الأجراس واتكأ بمرفقه على حاجز السلم. في الأسفل لاحت من خلال الظلمة أجداث مقبرة القرية المحيطة بالكنيسة وقد بدت الصلبان العتيقة كمن يحرسها بأيدٍ ممدودة، وفي أماكن أخرى متفرقة مالت على القبور أشجار البتولا التي لم تكتسِ بالأوراق بعد. من الأسفل صعدت إلى ميخيتش رائحة البراعم الصغيرة العطرة مع النفحة الحزينة للرقدة الأبدية.

ماذا سيحدث له بعد عام؟ هل تراه سيأتي إلى هنا ثانية، يصعد البرج ويقف تحت الأجراس النحاسية، وبضرباته الحادة يوقظ الليل البهيم، أم تراه سيكون مستلقيا هناك، تحت الصليب وفي تلك الزاوية المظلمة من المقبرة؟ الله أعلم... إنه جاهزٌ لذلك ولكن مشيئة الله أن يستقبل العيد مرّة أخرى. «المجد لك يا رب» – تمتمت شفتاه الذاويتان بالوتيرة المُعتادة ونظر ميخيتش إلى السماء المرصعة بملايين النجوم المتلألئة راسما علامة الصليب.

**

- ميخيتش، يا ميخيتش! – ناداه من الأسفل صوتٌ مبحوح مكتهل. نظر الشماس الهرم إلى أعلى البرج وقد ظلل عينيه البليلتين اللامعتين بكفّه ولكنه لم ير ميخيتش رغم ذلك.

- ما خطبك؟ ها أنا هنا! ـ ردَّ قارع الأجراس مستندا على البرج ـ أم أنك لا ترى؟

- لا أرى... ولكن ما رأيك، ألم يحن وقت قرع الأجراس بعد؟

نظر كلاهما إلى النجوم. آلاف الأضواء الربانية تبرق لهما من الأعلى. لقد صعد «الدب الكبير» عاليا بالفعل ففطن ميخيتش للأمر:

- ليس بعد، انتظر قليلا... مازال بإمكاني تمييز الوقت.

إنه يميزه من دون الحاجة إلى ساعة: ستخبره نجوم الله عندما يحين الوقت. إن الأرض والسماء والسحب البيضاء التي تسبح بهدوء في الفضاء اللازوردي، والغابة المظلمة التي تهمهم في الأسفل بصورة مبهمة، وطبطبة النهر الغارق في الظلام، كل هذا مألوف لديه وكله عزيز عليه، ولا غرو في ذلك إذ قضى كل حياته هنا.

أمامه يتمثل ماضيه البعيد. يتذكر كيف صعد البرج أول مرّة مع والده... يا إلهي ما أبعد ذلك الزمن و... ما أقربه! يرى نفسه صبيا أشقر؛ يحدّق بعينيه؛ تهب الريح، ليس مما يثير غبار الشارع بل ريح مختلة، ترفرف عاليا فوق الأرض بأجنحتها الصامتة وتبعثر شعره... بعيدا جدا في الأسفل يمشي أناسٌ بأحجام صغيرة، أكواخ القرية صغيرة أيضا أما الغابة فانزاحت مبتعدة، والمرج الدائري الذي تستقر عليه القرية يبدو ضخما لدرجة أن حدوده قد اختفت تقريبا.

- ها هو هناك... كل شيء في مكانه ـ ابتسم العجوز الأشيب وهو ينظر إلى المرج الصغير.

وهكذا هي الحياة، لا ترى لها حدودا أو نهاية وأنت في ريعان الشباب... ها هو المرج كاملا، من أوله وحتى ذلك القبر الذي اختاره لنفسه في زاوية المقبرة. – وماذا بعد؟ المجد لك يا رب. - حان وقت الراحة. لقد انطوى درب الحياة الشاق بنية صافية، أما الأرض الرطبة، أمه الأرض، فسيعود إليها عمّا قريب، عمّا قريب.

نعم، إن الوقت قد حان. صعد ميخيتش ناظرا إلى السماء وخلع صوفية رأسه، صلّب وأخذ يلتقط حبال الأجراس... بعد هنيهة اهتز هواء الليل من دوي الضربة... ضربة أخرى وثالثة ورابعة... واحدة إثر أخرى تملأ بهديرها ليلة ما قبل العيد الغافية ويتدفق منها نغمٌ صدّاح متطاول.

توقف القرع وفي الكنيسة بدأت طقوس الصلاة. في سنيّه الماضية عادة ما كان ميخيتش يهبط السلم وينتبذ ركنا من مدخل الكنيسة كيما يصلي ويصغي إلى الغناء. ولكنه مكث اليوم في برجه. استثقل الهبوط فضلا عن شعوره بشيء من الوهن. جلس على المصطبة وراح يستمع إلى الرنين الأجوف للنحاس المتمايل ثم غرق في تفكير عميق. بم كان يفكر؟ هو نفسه لا يملك إجابة عن هذا السؤال. كانت منصة البرج تستنير بفانوسه الباهت. رنين الأجراس الأجوف قد غرق في الظلمة ومن الكنيسة، في الأسفل، تناهى الغناء في هدير خفيف، وحرّكت ريحُ الليلِ الحبالَ التي رُبطت بقلوب الأجراس المعدنية.

أحنى العجوز رأسه الأشيب على صدره وتداعت عليه أفكار مشتتة. «إنهم ينشدون التروبادور» – فكّر ورأى نفسه في الكنيسة. عشرات الأصوات الطفولية تغمر الإكليروس؛ الكاهن العجوز الراحل الأب نعوم يترنم رافعا صوته المرتعش؛ مئات من رؤوس الرجال تنحني وترتفع كسنابل ناضجة تحركها الريح... يُصلّب الرجال... إنه يعرفهم جميعا، وبالطبع فقد رحلوا كلهم. ها هو طيف أبيه الصارم وها هو أخوه الأكبر واقف بجوار أبيه يصلّب ويتنهد بوجدٍ. هو ذا نفسه متألق ومفعم بالصحة والقوة، ممتلئ بأماني لا حدود لها ومسكون بالسعادة ... فأين هي تلكم السعادة الآن؟

تندلع حياة الشيخوخة كلهبٍ ذاوٍ، يسطع شعاعه سريعا وصافيا ليضيء كل الزوايا المظلمة في العمر المنقضي... لا طاقة للعمل، معاناة، الحاجة إلى الرعاية... أين هي تلكم السعادة؟ سيرسم القدر تجاعيده على وجهه اليافع وسيحني ظهره القوي وسيتدرب على التنهد مثل أخيه الأكبر.

كل هذا ماضٍ، كله هناك في الخلف... أما الآن فالعالم بالنسبة له برج معتم تصفر الريح في ظلمته وتحرك حبال الأجراس... «سوف يحاسبك الله، سيحاسبك الله!» – تمتم وأنكس رأسه الأشيب فانهمرت الدموع على خد قارع الأجراس العجوز.

وها هو العدو الثري يدق الأرض بسجداته، يرجو التوبة على دموع اليتامى الدامية ويرسم بعجلة شارة الصليب على نفسه ثم يجثو على ركبتيه ويدق بجبينه الأرض... يغلي قلب ميخيتش ويحترق، أما وجوه الإيقونات القاتمة في الجدران فتشمل عذابات الناس ونفاق الناس بنظرة واحدة متسلطة.

**

- ميخيتش، يا ميخيتش! ماذا بك، أم تراك قد نمت؟ - يُنادى عليه من الأسفل.

- ماذا؟ - ردَّ العجوز وقفز على قدميه مسرعا. – يا إلهي، هل يعقل أنني نمت؟ لم يسبق أن كللت بمثل هذا العار!

وبحركة سريعة من يده المتمرسة أمسك ميخيتش بالحبال. في الأسفل تحرك حشدٌ من الفلاحين مثل نملٍ، راياتهم تتمايل في الهواء وتتلألأ بالديباج الذهبي... ها هم يطوفون حول الكنيسة بخطى ورعة بينما يبلغ ابتهالهم الشجي أسماع ميخيتش:

- المسيح قام من بين الأموات...

يسري هذا الابتهال كموجة في قلب العجوز.

وبدا لميخيتش أن ذؤابات الشموع تسطع في الظلمة، وأن حماسة الموكب تزداد اشتعالا، والرايات تخفق، والريح التي استيقظت حملت موجة الأصوات، وبهبّةٍ واسعة رفعتها إلى الأعلى ومزجتها بالدقات الاحتفالية العظيمة.

لم يحدث قطّ أن قرع ميخيتش العجوز بهذه الشاكلة.

بدا الأمر كما لو أن قلبه العجوز قد تحول إلى نحاس ميّت، وأن رنين الأجراس يشيع غناء حقيقيا يتشنج ويضحك ويبكي ويرقص، منتظما في وترٍ عجيب ومندفعا نحو تلك السماء المرصعة بالنجوم. حتى النجوم سطعت والرنين صار يعلو وينخفض ثم يهبط إلى الأرض بلطف.

ورفع المغني الضخم صوته الجهوري المتسلط حتى ترددت نغمته في السماء والأرض: «المسيح قام».

فاستجاب له اثنان من المنشدين بغبطة بينما قرع القلوب الحديدية المتتالي يُرعش صوتيهما: «المسيح قام».

ثم انبرى للغناء اثنان من أصغر المنشدين كانا يجدان السير كيلا يتخلفا عن الركب فإذ بهما وقد ظفرا بالكبار يتباريان في الغناء كطفلين: «المسيح قام».

ونسي القلب العجوز الحياة الطافحة بالهموم والمآسي... نسي قارع الأجراس العجوز حياته التي أطبق عليها برجٌ ضيق كئيب، وبأنه كان في هذا العالم وحيدا مثل جذع عتيق كسرته ريحٌ شريرة. إنه ينصت الآن إلى هذه الأصوات التي تغني وتبكي، كيف تطير إلى عنان السماء ثم تهوي إلى الأرض الطيبة. خيل له أنه محاط بأبنائه وأحفاده، فها هي أصواتهم البهيجة، أصوات الكبار والصغار وقد التأمت في جوقة واحدة وراحت تغني له عن السعادة والفرح اللذين لم يعرفهما في حياته. تمسّك قارع الأجراس العجوز بالحبال وانهملت الدموع على وجهه وأخذ قلبه ينبض بقوة ويعزف لحن السعادة.

**

أما في الأسفل فكان الناس ينصتون ويحادثون بعضهم البعض عن العجوز ميخيتش وبأنه لم يقرع الأجراس بمثل هذه الروعة.

فجأة رنّ الجرس الكبير نصف رنّة وصمت... كانت رنّة مرتبكة غير مكتملة ولكنها تمثلت كنغمة حزينة وطويلة، وكما فعلت سابقاتها، ارتعشت هي الأخرى وانثالت وبكت وشيئا فشيئا أخذت تخفت في الهواء.

تداعى قارع الأجراس العجوز على المصطبة وبهدوء انحدرت دمعتان أخيرتان على خده الشاحب.

**

- صه! لقد جاء أجل قارع الأجراس فابعثوا بمن ينوب عنه!

1885

فلاديمير كورولينكو كاتب روسي من أصول أوكرانية، عمل في الصحافة وكان ناشطا في مجال حقوق الإنسان.

أحمد م الرحبي كاتب ومترجم عماني