8546465
8546465
عمان الثقافي

في نقد الحاجة إلى الأمل

26 يناير 2022
للحياة بقية: مصادر الشقاء البشري (1)
26 يناير 2022

لعلك تشكو الحاجة إلى الأمل، لعلك ترجو الأمل وتطلبه بلا ملل، وقد تظنّ فوق ذلك أن داءك الذي ترجو الشفاء منه هو داء فقدان الأمل، وطلبًا للأمل قد تطرق أبواب العلم أحيانًا، وأحيانًا أخرى قد تطرق أبواب الدجل، وأغلبُ الظن أن يذهب بك الظنّ إلى أنّ الأمل شرط ضروريّ لأجل مواصلة العيش ومجابهة تحديات الحياة، وقد تعتقد في المقابل بأن الافتقار إلى الأمل هو سبب تعاستك وتعاسة سائر الناس، وأنه سبب توترك وتوتر سائر الناس، بل قد تراه العامل الأساسي في ضعف القدرة على الحياة سواء في الإطار العمومي أم الإطار الخاص، وكما قال شاعر عربي قديم، «أعللُ النفس بالآمال أرقبها، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل». والحقّ يقال، فقد دأب الشعراء والمغنّون والساسة أيضًا على التغني طول الوقت بالأمل، غير أن الشيء نفسه يفعله باعة الأوهام بالجملة والتقسيط من الدجالين التقليديين والدجالين الجدد وممن يجدون في بيع الأمل لليائسين تجارة مربحة. لكن، بصرف النظر عن تجار الأمل، لديك على الأرجح اعتقاد راسخ مفاده أن الأمل ضروري للحياة، وأنه مثل الماء والهواء، ولذلك تنشده في كل الأوقات، تطلبه من كل العتبات، وتفتش عنه في كل الجهات، غير أنك في بحثك عن الأمل قد لا ترى أي بصيص من الأمل. فهل هناك خطأ في التفاصيل أو أن الخطأ كامن في المبدأ نفسه؟

لنعاود التفكير مجدّدا، وسنرى.. !

بما أن الفلسفة تسائل المسلّمات كما يتفق كل الفلاسفة، وبما أن غايتها سعادة الإنسان كما يؤكد معظمهم، والسعادة أعزّ ما يُطلب، فلا بأس بمساءلة مسلّمة الحاجة إلى الأمل لأجل اختبار صحتها وصلاحيتها: هل الأمل ضروريّ لأجل أن يعيش الكائن العاقل حياة أفضل، بمعنى أن يعيش حياة جديرة بالحياة؟ الإجابة التي يسلم بها الناس والشعراء والساسة وحتى الدجالين، هي نعم بكل تأكيد، غير أن الفلاسفة لهم رأيٌ آخر ورؤية أخرى إلى المسألة.

فما الرأي؟

قد يبدو رأي الفلاسفة صادما بادئ الأمر، لكننا بعد أن نصيخ السمع كما ينبغي سنكتشف أن ما يقولونه هو عين العقل ورأس الحكمة، بل هو نوع من البداهة المنسية، فيما قد يحيلنا إلى معادلة سقراط الشهيرة، «المعرفة تذكر والجهل نسيان».

فما رأي الفلاسفة في السؤال: هل يحتاج الإنسان إلى الأمل؟

باستثناء عدد قليل منهم مثل روسو وهيجل وماركس، يعتقد معظم الفلاسفة في تاريخ الفلسفة أن الأمل ليس بالأمر الإيجابي لكي يعيش الإنسان حياة جيدة، بل العكس هو الراجح؛ ذلك أن التعلق بالأمل يمثل مصدرًا غير متوقع من مصادر الشقاء البشري.

كيف ذلك؟

لأجل توضيح المعادلة، سأحاول أن أستعرض خلاصة لمجمل المطارحات الأساسية للفلاسفة عبر تاريخ الفلسفة، وسأبسُطها مقتضبة على المنوال الآتي:

أولًا، وفق مبادئ الفلسفة الرواقية (زينون، إبكتيتوس، ماركوس أوريلوس) لا ينتج الأمل سوى الخيبة والإحباط طالما لا يمكن للأشياء أن تأتي وفق توقعاتنا بالتمام، مهما حاولنا ذلك. مثلا، نأمل أن يأتي زواجنا وفق توقعات نرسمها في أذهاننا سابقًا سواء من حيث الأجواء العاطفية أو المتطلبات الاجتماعية، غير أن الواقع لا يهمه أن يرضي توقعاتنا، الواقع يشق طريقه بقوة الأشياء ولا يترك لنا سوى هامش ضئيل للمناورة؛ لذلك، على قدر التعلق بالأمل في تحقق التوقعات تأتي الخيبة والإحباط ثم الشقاء البشري. لكن، ليس مطلوبا من الإنسان ألّا يتوقع أي شيء بل المطلوب بالأحرى ألّا يتعلق بالتوقعات التي رسمها، وأن يبقى مستعدّا للتعامل مع احتمالات الواقع كلها.

ثانيًا، حسب كثير من الفلاسفة القدامى والجدد (سينيكا، شوبنهاور، سبونفيل، وغيرهم) لا يحزننا الأمر الذي يحدث إلّا بقدر الأمل في ألا يحدث، ولا يحزننا الأمر الذي لا يحدث إلاّ بقدر الأمل في أن يحدث؛ مثلًا، لا يحزننا المرض الذي يصيبنا إلّا بقدر أملنا في ألّا يصيبنا أيّ مرض، وكذلك الأمر حين يمرض آباؤنا أو أبناؤنا، كما لا يحزننا الزواج الذي لم يتحقق لنا، أو السفر، أو الثراء، إلّا بقدر ما كنا نأمل في تحقق ذلك، وهكذا دواليك.

ثالثًا، حسب سبينوزا يندرج الأمل ضمن الانفعالات الحزينة التي تصيب الإنسان بالشقاء والتوتر والتعاسة، مما يهدد قدرته على النمو والحياة؛ لذلك قد لا يطيل عذاب الإنسان إلّا الأمل، كما يؤكد نيتشه. فالنساء المطلّقات اللواتي عشن على أمل عودة الزوج السابق كنّ الأكثر شقاء، في الوقت الذي كان فيه «اليأس من العودة» دافعا للكثيرات إلى إعادة بناء الذات والحياة، وبعيدا عن «نزعة الانتظار» التي تجعل بعضهم صيدا ثمينا للمشعوذين، فإنهن أحرزن نجاحا مذهلا في بعض المجالات.

رابعًا، تبعًا لفلاسفة العيش اليوم، يرتبط الأمل بالمستقبل، غير أن المستقبل غير موجود، أو ليس بعد، كما أن الماضي لم يعد موجودًا، فقد مضى وانقضى، في المقابل فإننا لا نعيش إلّا داخل حيز الحاضر الذي لا نملك غيره، بل لا نوجد إلّا في الحاضر. وهو الموقف الذي تعود جذوره إلى بعض تقاليد الفلسفة الرومانية والتصوف الإسلامي. يقول عمر الخيام: «غدٌ بظهر الغيب واليوم لي». هذا ويدل اليوم على اللّحظة الحاضرة.

خامسًا، ليس الأمل سوى شبكة من الأوهام التي توظفها بعض الإيديولوجيات التسلّطية، والشمولية، والخلاصية، لغاية إحكام السيطرة على عقول الناس من خلال التحكم في رغباتهم. ومثلما سبق أن أوضح جيل دولوز فإن من يتحكم في رغباتك يتحكم فيك في النهاية، وإلى النهاية.

سادسًا، تزعم إحدى الأساطير اليونانية أن زيوس خلق امرأة تدعى باندورا، وطلب من الآلهة أن تقدم لها الهدايا، فأهداها هيرميس صندوقا ذهبيا يضمّ قيم الشر كلها، من قبيل الكذب، والطمع، والغرور، والحسد، وغيرها، طالبًا منها عدم فتحه في كل الأحوال، لكنها بعد أن صمدت بعض الوقت، عادت لكي تفتحه في النهاية بدافع من شغف الاستطلاع، وما أن أعادت غلقه حتى كانت الشرور قد تطايرت مثل خفافيش الظلام، إلّا الأمل الذي كان بطيئا، انغلق عليه الصندوق ولم يتمكن من الخروج مثل سائر الشرور.

بقاء الأمل عالقًا داخل الصندوق هو السبب في أن الإنسان لا يدركه، كما لا يدرك أنه مجرّد شر من الشرور، وهنا بالذات يكمن أحد المصادر الأساسية للشقاء البشري.

الآن..

بعد اطلاعك على رأي الفلاسفة، هل لا تزال تشعر بالحاجة إلى الأمل، أو أنك مستعد لمعاودة التفكير في المسألة بنحو مختلف؟!

أيا يكن..

هي فرصة للتفكير في الحياة من داخل الحياة، وذلك لأجل حياة جديرة بالحياة. وللحياة بقية.

سعيد ناشيد باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني